عبد العلي حامي الدين *في حوار له مع يومية «التجديد»، كشف العالم الموريتاني محمد الحسن ولد الددو رئيس لجنة الحوار مع معتقلي السلفية بموريتانيا عن نجاح تجربة الحوار مع المعتقلين السلفيين، بحيث تراجع سبعون معتقلاً عن أفكارهم المتشددة واعترفوا بأنها كانت باطلة ووعدوا بعدم الرجوع إلى حمل السلاح.
قصة هذا الحوار ابتدأت قبل بضعة أسابيع عندما استجاب الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز لطلب محمد الحسن ولد الددو في الموضوع، ثم انطلق بندوة نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية خصصت لمناقشة الفكر السلفي ثم أوصت بالحوار المباشر مع السجناء، فتكونت لجنة من 17 عالماً وضعوا منهجية علمية ثم بدأوا بزيارة السجناء ومحاورتهم، وقد نجحوا في إقناع الجميع بالتراجع عن فكرة العنف وحمل السلاح باستثناء فردين تمسكا بمواقفهما السابقة.
وقبل حوالى سنة، جرت حوارات مكثفة داخل السجون الليبية بين أعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة بإشراف شخصي من سيف الإسلام القذافي وبرعاية مباشرة من السلطات الليبية التي عملت على توفير شروط النقاش داخل السجن، وذلك عبر تجميع المعتقلين في أماكن موحدة وتكثيف الاتصالات معهم وتوفير الكتب والمراجع التي يطلبها المعتقلون تيسيراً لظروف الحوار والتناظر في ما بينهم، فكانت الحصيلة هي وثيقة المراجعات التي قام بها أعضاء الجماعة ولقيت استحساناً من طرف العديد من العلماء في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وصدر عفو عام عن المعتقلين يسمح لهم بمعانقة الحرية بعد سنوات عدة من الاعتقال.
وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وما تلاها من تفاعلات، اعتقلت السلطات السعودية العديد من الشباب المؤيد لتنظيم القاعدة، الذي لم يتردد في تنفيذ عمليات عسكرية ضد المصالح الأجنبية بالمملكة العربية السعودية، ثم بدأ في مهاجمة المؤسسات السعودية نفسها. ومع ذلك، فتحت السلطات السعودية باب الحوار مع هؤلاء الشباب، أثمر تراجع العديد منهم عن الاستمرار في تبني الفكر الجهادي المتطرف.
وقبل حوالى عشر سنوات، أعلنت الجماعة الإسلامية في مصر عن مراجعات فكرية أثمرت مبادرة لوقف العنف، وهو ما تفاعلت معه السلطات المصرية سريعاً وبدأت في الإفراج التدريجي عن قيادات الجماعة وأفرادها.
وقبل حوالى سنتين، أقدم تنظيم الجهاد في مصر على خطوة مماثلة وأصدر منظره الشيخ السيد إمام مراجعات جديدة تصب في الاتجاه نفسه، وهو ما أعقبه إفراج السلطات المصرية عن قيادات التنظيم وأفراده. أما في المغرب، فلم تتبلور بوضوح تنظيمات جهادية بالشكل المعروف في مصر والجزائر وليبيا، وذلك لأسباب عدّة، بعضها يرجع لوجود جماعات إسلامية تتوافر على علماء ذوي مصداقية كانوا منذ البداية ضد العنف وضد منهج التكفير في العمل السياسي، وبعضها يرجع إلى نهج السلطات قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر الذي ظل على العموم متزناً في التعاطي مع الظاهرة الإسلامية، ساعياً إما إلى احتوائها أو إلى رسم حدود تحركاتها دون أن يصل إلى التعاطي معها بطريقة استئصالية.
ما يسمى اليوم بمعتقلي السلفية الجهادية لا يعبّرون عن كتلة متجانسة ولا يصدرون عن رؤية واحدة
لكن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وبعدها أحداث 16 أيار/ مايو 2003 في الدار البيضاء، مثّلت منعطفاً في طريقة تعاطي السلطات المغربية مع الموضوع. فقد لجأت، في إطار انخراطها الكامل في الاستراتيجية الأميركية لمحاربة الإرهاب، إلى اعتماد مقاربة أمنية عشوائية ذهب ضحيتها مئات الشباب الذين امتلأت بهم السجون المغربية بعد محاكمات صورية اختلّ فيها ميزان العدالة بإقرار من السلطات العليا في البلاد. ما يسمى اليوم بمعتقلي السلفية الجهادية لا يعبّرون عن كتلة متجانسة، ولا يصدرون عن رؤية واحدة، ولا يجوز رميهم في سلة واحدة تحت مسمى مكافحة الإرهاب، بل إن الأسباب الحقيقية لاعتقالهم تختلف من فرد لآخر:
فهناك بعض المعتقلين الذين سبق لهم أن عبّروا في فورة من الحماسة عن تأييدهم لهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر التي استهدفت الولايات المتحدة الأميركية، كما عبروا عن إعجابهم بأسامة بن لادن، وصدرت بعض المجلات العربية تصفهم بـ«زهرات بن لادن في المغرب». فلم يتأخر رد الفعل الأميركي، واعتقلتهم السلطات المغربية قبل أحداث 16 أيار/ مايو 2003 بالدار البيضاء تنفيذاً لمستلزمات التنسيق الأمني مع الأميركيين.
وهناك مجموعات اعتقلت بسبب خلفيتها الفكرية السلفية وبسبب مواقفها المعبر عنها إعلامياً والرافضة لنموذج الدولة الحديثة ولفكرة الدستور ولمفاهيم الديموقراطية والتعددية. ومنهم من فتح حواراً داخل مدوّنته الإلكترونية لرفض السياسة الأميركية والدعوة لمقاطعة بضائعها، فوجد نفسه مداناً بجريمة الإرهاب. وهناك أقلية منهم تورّطت مباشرة في أعمال ذات طبيعة إرهابية من الناحية الفعلية. بعض هذه الأعمال اكتسى صبغة انتقامية.
لكن في النهاية، تبدو الحالة المغربية بسيطة بالمقارنة مع الحالة الجزائرية أو المصرية أو الليبية أو السعودية. ذلك أن أصنافاً عديدة من المعتقلين عبّرت في مناسبات متعدّدة عن رفضها للعنف ولمنهج التكفير، وتفاعلت سريعاً وتلقائياً مع مبادرات للوساطة قام بها منتدى الكرامة لحقوق الإنسان بين المعتقلين وجهات مسؤولة في الدولة. فقد عبّر العشرات منهم عن رفض العنف وعن إيمانهم بثوابث البلاد وقبولهم بالنظام الملكي واستعدادهم للحوار مع العلماء المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية من أجل توضيح أفكارهم ومواقفهم.
وخلال هذه الأيام تناقلت بعض وسائل الإعلام خبراً مفاده أن مجموعة من المعتقلين بأحد السجون المغربية نجحوا في الاتفاق على وثيقة فكرية جديدة تحمل مجموعة من المواقف الفكرية وتوضح المراجعات التي حصلت في مسيرة هؤلاء الشباب من الناحية الفقهية والفكرية والسياسية.
تطلّبت هذه الوثيقة وقتاً طويلاً لإنضاجها داخل السجن قبل أن تجتمع عليها مجموعة من المعتقلين، وهي تحتاج اليوم، إن توافرت لها شروط الإعلان العلني، إلى مواكبتها بالنقاش الفكري والسياسي من طرف العلماء والمثقفين والإعلاميين وذوي الرأي، ومواكبتها بفتح حوار مباشر من طرف مسؤولي الدولة مع المعتقلين في أفق التسوية النهائية لهذا الملف.
إن مصلحة المغرب اليوم تملي على الجميع أن يتحلى بروح المسؤولية وإعلاء مصلحة البلاد على جميع الاعتبارات السياسية والمصالح الفئوية والاستغلالات الضيقة.
لقد ثبت في العديد من التجارب المقارنة أن المصلحة العليا للبلاد تقتضي تشجيع منطق الحوار واعتماد المقاربة التصالحية وتغليب صوت العقل والحكمة على صوت الأجهزة الأمنية التي كثيراً ما تسعى لتضخيم بعض الملفات بغية انتزاع الاعتراف بأهميتها وترسيخ ضرورة الحاجة عليها وعدم تجاوزها في إطار لعبة خطيرة تسمى: صناعة الخوف!
فهل ينتصر صوت الحكمة والحوار العقلاني الهادئ أم سيتغلب منطق التوظيف الأمني والاستغلال السياسي؟
* باحث وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية في المغرب