حسان الزينتلقّت ثقافة الموقف، سواء أكان مذهبياً بدائيّاً وعفويّاً وأحياناً صادقاً، أم سياسياً أو نفعيّاً، ضربة قوية في ظل التسوية السياسية المحلية والإقليمية. تزعزعت، في بنيتَيها التحتية والفوقية. الحشد الثقافي الذي حظيت به قوى 14 آذار وشعاراتها الاستقلالية مرتبك الآن. والمساحات التي وُفِّرت له تقلّصت وضاقت وخفض سقفها إلى درجة الإسكات في بعض الأماكن، والتواري الإرادي في أماكن أخرى. وهناك، ضمن ذاك الحشد، من بدأ يبحث لنفسه «خلف خطوط العدو» عن صدر حنون.
مقابل هذا الارتباك الثقافي الاستقلالي الذي يشبه الذوبان الثلجي لا الانهيار الجليدي، الصورة الثقافيّة لقوى 8 آذار مختلفة، وهي لم تكن يوماً حاشدة. فكما لا يخفى على أحد، شعارات «ثورة الأرز» هي التي حازت الاستقطاب الثقافي، بينما كانت القوى والشعارات الأخرى، ثقافياً، خجولة وضحلة.
وعلى الرغم من ذلك، ليست اللحظة للتعادل الثقافي. تبقى الغلبة لشعارات ـــــ مثقفي الاستقلال والعبور إلى الدولة المدنية، ولا سيّما في مواجهة خطاب الحرب والدولة ضمن الدولة وعصيان السلاح على السلطة المركزية الواحدة... والارتباط بمحور إقليمي عماده دول ليست ديموقراطية وذات مصالح تعاكس مشروع بناء الدولة والاستقرار والحريّة.
لم يتكوّن صوت إحباط في الوسط الثقافي الاستقلالي، بل الأمر لم يتجاوز حدود النقد المستكين الخافت. والأسباب كثيرة، أبرزها أن قسماً كبيراً من المثقفين، ولا سيّما الذين علّوا السقف ونجّموا في السنوات الماضية، يعملون في مؤسسات قوى 14 آذار. والأهم من هذا هو أن قوى 14 آذار ما زالت تفسح في المجال لتكرار الشعارات المعقّمة من السياسة، إضافةً إلى أن المثقفين ما زالوا يجدون متّكأً لهم في تشبّث سمير جعجع بشعارات الثورة والدولة، ما يعني، بالنسبة إليهم، أن المسيرة لم تتوقف أو تتضعضع. وهذا أضعف الإيمان ويضعفه أيضاً.
لكن هذا ليس حاضنة ثقافية. سمير جعجع والقوّات اللبنانية وحتى الأمانة العامة لقوى 14 آذار، ليسوا مساحة كافية للثقافة، ولا بيئة تحتضن ثقافة وتولّدها. مشروع رفيق الحريري بعظمته بالكاد جذب أسماءً ثقافية، ودعم مسرحاً من هنا ورعى معرضَ كتاب من هناك. وثورة الأرز في عزِّ أيّامها جذبت المثقفين إلى ساحاتها السياسيّة والنضاليّة أكثر مما وفّرت بيئة إبداعيّة، فاستنزف معظم المثقفين طاقاتهم في المواقف السياسيّة، وها هم يعانون مما أنتجته التسويات السياسيّة حتى على الشعارات ومداخلها الثقافيّة ومخارجها.
فسمير جعجع والقوّات، ومعهما الأمانة العامّة لقوى 14 آذار، بالكاد سدّ مرحلي يحفظ ماء الوجه ويؤخر التدهور. الحريرية هي البيئة التي يمكن أن تحضن مثقفين، لكن سقفها هذه الأيّام منخفضٌ ولم تفتح آفاقاً. لحظتها السياسية وتحوّلاتها وتسوياتها قوية وجاثمة. وهذه ليست بيئة مثرية للثقافة ولا هي مريحة للمثقفين.
المثقّفون اللبنانيون عموماً، إلى حدّ ما، وليس مَن انحاز في السنوات الماضية إلى شعارات الاستقلال وقوى 14 آذار، وحدهم، مرتبكون وحائرون. الأمر يتجاوز ضبابيّة المرحلة. فالمثقفون هم الحلقة الأضعف في ظروف مثل التي نمر بها (ودائماً)، وهم من يدفع ثمن المواقف التي يُفترض أنها مبدئيّة، فإذا بالسياسة تطحنها وتسخر منها. ذاك ما يجعل من الكارثي أن يحبَط المثقفون ويَسكتوا أو يُسكتوا ويُطردوا، وذاك يجعل من الخطأ أن يتراجع المثقفون عن مواقفهم الاستقلاليّة. فهنا رصيد الاستقلال والديموقراطيّة وحتى المقاومة، لا في مواقف القوى السياسية التي استفادت من تلك المواقف. إنها لحظة استقلال المثقفين ولحظة انتصار لحريّة الرأي والثقافة والديموقراطيّة. وكما لا مكان للشماتة، ولا معنى لها، لا مكان للانكسار والتراجع. هي لحظة لقاء المثقفين وحواراتهم، بعيداً من الانقسام الذي أثّر سلباً في الحياة الثقافيّة في بيروت. هي لحظة رفض أن يتحوّل المثقفون أُجراء عند القوى السياسيّة مهما كانت شعاراتها ومن تكون. إنها لحظة ليلتفت المثقفون إلى إبداعهم وحياتهم الشخصيّة واعتبارات الحريّة.
■ ■ ■
أصحيح أنّ من يدعو إلى نزع سلاح المقاومة أو دمجه في إطار الدولة يدعو إلى الاعتداءات الإسرائيلية أو يوفّر غطاءً داخلياً لها، كما قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله؟
الأمر ليس بهذه المعادلة البوشية ـــــ البن لادنية، التي تستدعي المعادلة الستالينية: من ليس معنا فهو ضدّنا. هذه المعادلة قبضة حديدية لمن لا يريد أن يسمع صوتاً مختلفاً، وتميمة الذاهب إلى الحرب: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وثمّة معارك كثيرة، منها الحوار وقبول الآخر.