شامل العظمة * تستمر انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية في غير بقعة من العالم. ولا تزال مؤشرات عودة النشاط الاقتصادي متضاربة في أحسن تقدير، برغم اعتبار الكثير من الاقتصاديين والمؤسسات الدولية أننا قد وصلنا إلى «قعر الأزمة» وسنبدأ قريباً مرحلة عودة النشاط الاقتصادي.
المشكلة الأساسية في هذا الطرح أنّه لا يقدّم لنا تحليلاً لأسباب الأزمة ولعوامل توقّع عودة النشاط الاقتصادي. فهل الموضوع فعلاً لا يتجاوز أزمةً دوريّةً تعالَج بالوقت وبزيادة الإنفاق الحكومي لتحريض الطلب أم أن الأزمة ناتجة من اختلالات هيكلية على مستوى الاقتصادات الكبرى في العالم والعلاقات بين هذه الاقتصادات، وعن استنزاف النموذج الاقتصادي ــــ السياسي الذي ساد العالم خلال العقود القليلة الماضية لأفق نموه؟ فإذا كان الأمر لا يتعلّق بأزمة دوريّة، فإنّ تحريض الطلب عبر برامج الإنفاق العام، وإن أدّى إلى زيادة آنية في النشاط الاقتصادي، فإنّه لن يقود إلى الخروج من الأزمة بالمعنى الواسع للكلمة ما دامت الاختلالات المحلية والدولية قائمة، وما لم يتغير النموذج السياسي ــــ الاقتصادي ليخلق «قواطر نموّ» جديدة تدفع الاقتصاد العالمي في العقود القليلة المقبلة.
ربما من المفيد في هذا المجال النظر إلى الأزمات الاقتصادية السابقة التي مر بها العالم خلال العقود الماضية. فأزمة الكساد الكبير لم تنتهِ فقط بسبب زيادة الطلب العام والإنفاق الحكومي، بل بسبب ظهور نموذج إنتاج جديد يتمثل بالإنتاج الواسع ضمن مؤسسات كبرى مندمجة عمودياً، تنتج سلعاً متشابهة من أجل استهلاك واسع (mass production for mass consumption). مثّلت المؤسّسات الصناعية الكبرى المندمجة عمودياً المعتمدة على قوة عمل ثابتة إلى حد كبير والمنظمة نقابياً، الركن الأساسي في هذا النموذج الذي سمي بالفوردية (Fordism)، نسبة إلى شركة فورد الأميركية. ومثلت السياسات الاقتصادية الجديدة التي تبعت الحرب العالمية الثانية الإطار السياسي والقانوني لهذا النظام، بما تضمنته من توازنات بين دور أرباب العمل والحكومة والنقابات العمالية. نجح هذا النموذج في تحقيق مكاسب هامة عبر تحقيق معدلات نمو عالية في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، والسماح للفئات المتوسطة والفقيرة في الاستفادة من عوائد إنتاجها عبر تعميم السلع الاستهلاكية التي تحوّلت في فترة زمنية قصيرة من سلع رفاهية للطبقات الغنية إلى سلع تكاد تكون أساسية. استمرّ نجاح هذا النموذج ثلاثة عقود قبل أن يبدأ بالتراجع تحت تأثير عوامل عدة، أهمها إشباع الأسواق الاستهلاكيّة التي مثّلت محرّك نموّ الاقتصاد، وأزمة النفط في النصف الأول من السبعينيات، وصعود اليابان السريع ومنافستها ومن ثم تفوقها على الشركات الأوروبية والأميركية في العديد من القطاعات. أدت هذه التطورات إلى أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية شاملة في بلدان «المركز» الاقتصادي، كان أفضل تمثيل لها صراع النقابات العمالية البريطانية مع مارغريت تاتشر، الذي دام سنوات وأدّى في النهاية إلى شبه انهيار في نفوذ النقابات العمّالية السياسية والاقتصادية في بريطانيا، ومثّل نموذجاً لما شهدته العديد من دول العالم في السنوات اللاحقة.
طائرة البوينغ تصنع من 3 ملايين مكوّن توردها 900 شركة تتوزع على 17 دولة
نتيجة هذه الأزمة، شهد العالم صعوداً لنموذج إنتاج جديد مرتبط بإطار سياسي اقتصادي مختلف. أهمّ خصائص هذا النموذج كان تفكك شبكات الإنتاج العالمية وتوسّعها جغرافياً عبر العالم. فلم تعد السيارة تصنع من الألف إلى الياء في ديترويت على سبيل المثال كما كانت في السابق، بل أصبحت، وبتسهيل التطور التقني والمعلوماتي، عملية معقدة تضم عشرات الدول والشركات حول العالم. ولم يعد النسيج يصنع في مانشستر ويصدّر إلى كل أصقاع الأرض كما كانت الحال سابقاً، بل أصبح التصميم يتم في هونغ كونغ والأزرار تأتي من كوريا والخياطة تتم في الصين والمنتج النهائي يباع في الولايات المتحدة بعلامة تجارية أميركية لينشأ ما اصطلح على تسميته بشبكات الإنتاج العالمية (global production networks) التي تمتد عبر قارات العالم في عملية شديدة التعقيد وسريعة التغير تحت تأثير عوامل عديدة كتغير الطلب، التطور التكنولوجي، اتفاقيات التجارة، وغيرها من العوامل (طائرة البوينغ 777 على سبيل المثال تصنع من 3 ملايين مكوّن توردها 900 شركة تتوزع على 17 دولة). تطلّب هذا النموذج إطاراً سياسياً واقتصادياً جديداً على المستوى العالمي تجسد بتسريع الاندماج الاقتصادي العالمي ونشوء ما اصطلح على تسميته بالعولمة الاقتصادية.
مثّل هذا النموذج الجديد فرصة للدول النامية لاختراق قطاعات صناعية متقدمة نسبياً عبر اجتذاب هذه الأنشطة إليها، والانتقال التدريجي من مراحل التجميع البسيطة إلى مراحل أكثر تقدماً من حيث التكنولوجيا والمعرفة. كانت دول شرق آسيا (النمور الآسيوية) أوائل الدول التي استفادت من التحولات الدولية ومن ظرف سياسي واقتصادي داخلي وإقليمي مؤاتٍ لتدخل في هذه القطاعات وتبني إمكانات متطورة في العديد من الصناعات في فترة زمنية قصيرة جداً. اليوم نشهد صعوداً سريعاً في موقع دول أخرى في هذا النظام، على رأسها الصين وبدرجة أقل الهند. مثّل صعود الصين تحولاً هيكلياً في هذا النظام. فالحجم الذي تتمتع به الصين، والذي افتقدته النمور الآسيوية، أدى إلى خلخلة أسس النظام الاقتصادي كما يظهر بصورة واضحة في العلاقة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية. هذه العلاقة هي أكثر العلاقات إشكالية من الناحية الاقتصادية والسياسية في عالم اليوم. فصعود الصين يمثّل تهديداً استراتيجياً لسيطرة الولايات المتحدة الدولية على المدى الطويل. ولكن، في الوقت نفسه، تنخرط الصين والولايات المتحدة في علاقة اعتماد متبادلة تجعل علاقتهما شديدة التعقيد. فمن جهة، تعتمد الصين على الولايات المتحدة كسوق تصريف رئيسي لسلعها مما ينعكس فائضاً تجارياً هائلاً لمصلحة الصين في الميزان التجاري الصيني ــــ الأميركي، ومن جهة أخرى، تموّل الصين اليوم بقاء الولايات المتحدة كقوة اقتصادية أساسية عبر شراء سندات الخزينة الأميركية، وبالتالي تمويل «العجر الثنائي» الأميركي، أي عجز موازنة الدولة وعجز ميزان المدفوعات. هذه الحالة أدت إلى ظهور ما اصطلح على تسميته بالاختلالات الدولية (global imbalances)، وهي بحسب الكثير من الاقتصاديين أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الأزمة الراهنة، بالإضافة إلى تأثير عوامل أخرى لعل أهمّها ارتفاع أسعار الطاقة التي وضعت ضغوطاً أكبر على نموذج الإنتاج القائم حالياً، المعتمد بصورة أساسية على الانتشار الجغرافي لوحدات الإنتاج وما يخلقه هذا من عمليات نقل قد تبدو مضحكة في بعض الأحيان عبر انتقال السلع ومكوّنات الإنتاج عبر أصقاع الأرض جيئة وذهاباً.
فهمُ هذه الأبعاد الهيكلية للأزمة يظهر لنا أن الموضوع أكبر من مجرد ركود دوري يمكن الخروج منه بزيادة الإنفاق الحكومي هنا أو هناك أو عبر خطط إصلاح مصرفي كالتي يقترحها الرئيس الأميركي أوباما. العالم اليوم يدخل مرحلة تحولات كبرى، وهذه التحولات ستخلق خضات اقتصادية وسياسية في السنوات المقبلة وتغيرات جذرية في موازين القوى في مناطق مختلفة في العالم. ولعل تزايد النفوذ الصيني في أفريقيا وتوجس الولايات المتحدة وأوروبا من هذا النفوذ يُعدّان مثالاً جيداً على ما يمكن أن نشهده في العقود المقبلة. أسئلة أخرى هامة نواجهها اليوم: كيف سيتغير نظام الإنتاج العالمي الحالي الضار بيئياً في عصر الاحتباس الحراري وتحول المناخ؟ وكيف ستتطور العلاقات الصينية ــــ الأميركية، وهل تتجه هذه العلاقة إلى صدام استراتيجي أم إلى تفاهم استراتيجي؟ وكيف سيعدل نظام الحوكمة العالمية ليعكس الدور الأكبر للدول الصاعدة كالصين والهند والبرازيل؟ وكيف ستعالج مشاكل الفقر والتهميش التي يعانيها نصف الكرة الأرضية والتي تزداد انعكاساتها على الجزء المزدهر من العالم؟ أسئلة كثيرة تواجهنا ونحن ندخل وضعاً أشبه بمخاض الولادة، ولكن السؤال الكبير الذي لا يملك أحد جواباً عليه هو ولادة ماذا؟
* اقتصادي سوري ــــ جامعة مانشستر