حسام كنفانيلا يكفّ الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس عن إبهارنا. جعبته لا تنضب من التصريحات والمواقف التي تثير الدهشة. مع كل موقف ترى أنه وصل إلى الذروة ولا مجال للإضافة، لكنه دائماً قادر على إخفاء المزيد والمزيد لرميه أمام وسائل الإعلام. الرجل لا يحب أن يكرّر نفسه، الابتكار هو سمة مواقفه المستجدة. مواقف تصبّ في الخانة نفسها، لكنها تحمل معطيات إضافية، قادرة على إضفاء هالة تحديثية على التصريحات الممجوجة، التي سبق لأبو مازن أن أطلقها في أكثر من مناسبة.
أحدث ابتكارات عباس كان تصريحه في القاهرة عن «الكفاح المسلّح». الجميع على دراية بما يكنّه أبو مازن من بغض لمثل هذا الخيار، وعلى بيّنة بالتبريرات الكثيرة التي يسوقها لرفض الانتفاضة أو المقاومة. لكن الجديد كان وضع الكرة في ملعب «الموقف العربي».
إبداع خطابي ليس هناك ما قبله. الفكرة هي نفسها والرفض لم يتغيّر، لكنّه ربما ازداد تعقيداً. في السابق كان أبو مازن يربط الرفض بـ«حب الحياة» للشارع الفلسطيني، الذي «يريد أن يعيش» بعد كل ما عاناه من انتفاضات. هذا كان في السابق، أما اليوم، فحتى لو بات الفلسطينيون «كارهين للحياة»، وأرادوا أن يجدّدوا عهودهم مع الانتفاضات، فذلك ما عاد بيدهم، إنه «قرار عربي».
هكذا استراح محمود عبّاس من المطالبات بتحريك الشارع الفلسطيني. «القرار لم يعد بيدي»، هكذا يمكن أن يقول، «اطرقوا باب العرب». مناورة جديدة أنجح من سابقاتها، هكذا يضمن أبو مازن أن لا عودة أبديّة للكفاح المسلّح، وهو الذي يعلم أن قيام الدولة الفلسطينية قد يكون أقرب من الاتفاق العربي على أيّ قرار، ولا سيّما قرار حمل السلاح.
العرب من محبّي السلام، هو «خيارهم الاستراتيجي» الذي لا عودة عنه، بعدما تخلّوا عن الحروب منذ أكثر من ثلاثين عاماً. الحروب في ما بينهم قد تكون أسهل من إعلان الحرب على إسرائيل. هذه هي قناعة عبّاس، وهو محقّ فيها، ومن وحيها يطلق مواقفه السلميّة: «نحن دخلنا في مفاوضات مع الإسرائيليّين ومؤمنون بأن المفاوضات هي طريق السلام».
«فخامة» أبو مازن جمع ما تيسّر له من أقفال ووضعها على باب «الكفاح المسلّح»، وأضاف إليها «فتوى» تريح ضميره: «لا أحد الآن في فلسطين يقاوم، بدليل أن حماس تقمع الذين يطلقون الصواريخ‏‏».
قد تكون المقاربة صحيحة، لكن هل أصبحت «حماس» الآن، بالنسبة إلى عبّاس، مثالاً يحتذى؟ أليست هي «القوى الظلاميّة والانقلابية»؟ هل يجوز أن يتمثّل عبّاس، «ملك التنوير والعقلانية والشرعيّة»، بمثل هذه القوى؟
«الضرورات تبيح المحظورات» و«الغاية تبرّر الوسيلة»، على هدي هذين المبدأين يسير عبّاس، وبناءً عليهما فإن كل شيء جائز.
ضرورة أخرى استدعت من أبو مازن ابتكاراً جديداً. لم يعد يستطيع العيش من دون مفاوضات، هي حاجة وجودية له، بغضّ النظر عن الضغوط العربية والدولية الدافعه باتجاه عودة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى مائدة التسوية.
من الممكن القول إن عباس «مدمن» على التفاوض، لكن الشروط التي وضعها لنفسه، بناءً على الخدعة الأميركية الشهيرة عن تجميد الاستيطان، كانت تكبّله. أراد التحرّر من قيوده، خفض سقف شروطه رويداً رويداً، لكن لم يستجب أحد. كان يطالب بدايةً بتجميد كامل للاستيطان لمدة عام في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، لكنه لم يلقَ آذاناً صاغية. كان لا بد من تقديم «خفض» للجانب الإسرائيلي، لعلّه يلقى قبولاً، ليكن التجميد لستة أشهر، من دون إعلان رسمي. لكن أيضاً «لا حياة لمن تنادي». أخيراً لجأ إلى «التصفية على الشروط»، لتكن المدة ثلاثة أشهر.
الرد الإسرائيلي لم يأتِ، لكن حبل إنقاذ آخر مدّ إلى أبو مازن: «المفاوضات غير المباشرة». فكرة أميركية ـــــ مصرية ـــــ فلسطينية مبتكرة لوضع حد لسلسلة التدهور في الموقف العبّاسي، الذي كان من الممكن أن يصل مع الوقت للمطالبة بتجميد ليوم واحد فقط.
«المفاوضات غير المباشرة» هي الحل. هكذا يعفى عبّاس من إعلان البراءة من شروطه السابقة، ويحتفظ ببعض ما بقي من ماء الوجه. فكرة ليست إلّا سلّماً لإنزال أبو مازن عن شجرة الشروط. الفكرة قد لا تكون إلا واجهة للنزول على مراحل، ولا سيما أن الإسرائيليّين يتحدّثون منذ الآن عن تاريخ المفاوضات المباشرة، التي من المفترض أن تكون مرتبطة بتلك غير المباشرة، وما حقّقته من أرضية للانتقال.
لكن لا ضرورة للأرضية، فالأمر ليس سوى خدعة «غير مباشرة». مماثلة تماماً لما سبقها عن رفض الحديث إلى الإسرائيليّين. رفض لم ينسحب على التنسيق المتواصل بين السلطة والدولة العبرية. وإذا كان التنسيق الصحي والاقتصادي ضرورة، باعتبار أن الأراضي الفلسطينية لا تزال تحت الاحتلال، فهل هناك ما يبرّر بقاء التنسيق الأمني قائماً على أعلى مستويات، وبصورة «مباشرة»؟ الإجابة لدى عبّاس هي «نعم»، وإلّا فكيف يمكن منع اندلاع انتفاضة ثالثة، وهو ما جرى فعلاً بحسب اعتراف المنسّق الأمني الأميركي الجنرال كيث دايتون.
التفاوض وكبح «العنف» غايتان لا يوفّر أبو مازن فرصة للوصول إليهما، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
تتعدّد الأسباب و«الخدعة واحدة».