كان يمكن العقيد وسام الحسن أن يختار تاريخاً غير 14 آذار لزيارة دمشق، أو بالأحرى كان يمكن دمشق أن تحدّد موعداً مختلفاً للعقيد الحسن. أمّا وقد حصلت الزيارة، فلا أحد يستطيع إهمال رمزيّة توقيتها، وخصوصاً أنّ رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي كُلِّف استكمال لائحة الطلبات السورية من سعد الحريري، كي توافق دمشق على تطبيع العلاقات مع العائلة الحاكمة في لبنان.
ليست زيارة الحسن وحدها ما يحمل رمزية كبرى، بل أيضاً الاحتفال الجماهيري في 14 شباط مقابل الإحياء المتواضع لذكرى 14 آذار. وإذا أضفنا إلى ذلك اختيار الحريري طابعاً شخصيّاً لزيارته إلى الشام بدلاً من القيام بزيارة عمل رئيساً للحكومة اللبنانية، نفهم أنّه لا مانع من استكمال مراسم دفن «ربيع بيروت»، شرط إنقاذ «الضريح» في ساحة الشهداء.
وإذا كان يمكن وضع حركة الحريري في إطار الواقعيّة السياسيّة، فإنّ حركة وليد جنبلاط أكثر خطورة. لقد استطاع جنبلاط، حتّى في لحظات ضعفه، أن يحوّل نفسه إلى محور الحياة السياسيّة اللبنانيّة. كأنّنا لسنا أمام إنقاذ زعامة آل جنبلاط، بل أمام إنقاذ لبنان نفسه. دار سجال بشأن اعتذار جنبلاط أو عدم اعتذاره من الرئيس الأسد. وليس صدفة أن تكون اللعبة قد استهوت الأسد نفسه، إذ فسّر في مقابلة تلفزيونية أخيرة كلام جنبلاط على أنّه اعتذار، قائلاً: من يعترف بأنّه أخطأ، يكُنْ كمن اعتذر.
الواقع أنّ جنبلاط قدّم للنظام السوري ما هو أثمن من الاعتذار. لقد ردّ كلامه ضدّ رأس النظام في سوريا، ودعوته الإدارة الأميركيّة إلى التدخّل بطريقة شبيهة لما فعلته في العراق، إلى «التوتّر» و«التخلّي» وسوى ذلك من مفردات يراد منها القول إنّه لم يكن يقصد حقاً ما قاله. لقد كان غائباً عن الوعي. ليس عقل جنبلاط من تفوّه بتلك الكلمات، بل انفعالاته.
مصادر ذلك الكلام ليست سياسيّة إذاً، لا علاقة لها بتاريخ العلاقات اللبنانية السورية، ولا باعتراض جزء كبير من اللبنانيين على ممارسات سوريّة في لبنان، ولا بما سمّي تقاطع مصالح بين لبنان وأميركا. مصادر ذلك الكلام هي حالات ماورائية أو نفسيّة.
إن كان هناك من تواطؤ، فهذه ذروته. تواطؤ بين الانتهازيّة المستعدّة لإحراق البلاد من أجل زعامة شخصيّة، وبين من يريد أن يصوّر أيّ اعتراض على نظامه بأنّه ضرب من الجنون.
في زمن سابق، لم يَرُق بعض الأنظمة أن يكون لديها معارضون. لكنّ ذراعها العسكريّة لم تتولَّ دائماً المهمّة. جنّدت علماءها لهذا الأمر، فاخترعوا أمراضاً نفسيّة وأطلقوا عليها أسماءً أُلصقت بكلّ من يجاهر بمعاداته للنظام. اختفى المعارضون فجأة، وامتلأت المصحّات بالمرضى. الطريقة التي اختارها جنبلاط لاستدارته، تفتح فرعاً لتلك المصحّات في لبنان.
(غداً: في عزل القوّات)