كانت بعض التحليلات التي واكبت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في أواخر عام 1987، شديدة التفاؤل بحدوث نقلة نوعية مظفرة في نضال الفلسطينيين. ودأب كثير من المتفائلين، في تلك الأيام، على تبشير الناس بقدرات الانتفاضة الشعبية وإمكانياتها، وزعموا أنها "ستخلق الظروف الموضوعية لنشأة قيادة راديكالية جديدة تستعيد المبادرة وتعد بالمستقبل الأفضل". ودبّجوا، في مديح الانتفاضة، المعلقات! وأخذت تلك التحليلات تمجّد الهبة الشعبية باعتبارها "دليلاً على تجذر الفلسطيني وخصوبته"، ولكونها: "عملية ولادة جديدة لجيل ثوري صاعد، وإعلاناً لانتقال ذلك الجيل الجديد الى النشاط والنضال والمقاومة". ولربما أن تلك التحليلات قد أقنعتنا حينها بأن الانتفاضة قلبت حقاً الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة... وقد يكون سبب هذا الاقتناع راجعاً إلى كون شباب اللجان الشعبية الجديدة التي بزغت أيام الانتفاضة الأولى، قد غدوا يحوزون مظهر السلطة الحقيقية في مجتمعهم. وبلغت سطوتهم، في تلك الأيام، حدّاً جعل نفوذ القيادات الفلسطينية التقليدية في الداخل، أو الرسمية في الخارج، موضع شك وتساؤل... لكن – ومع مضي الأيام - تبيّن أن كل التفاؤل القديم بمردود الانتفاضة، ما كان يستند سوى إلى جملة من الآمال الطيبة، والأحلام الجميلة، والرغبات الملحة في تحقيق انتصار ما. وبعد حين قصير من الزمن، اتضح أن حصاد الانتفاضة كان أكثر سوءاً من أشد التوقعات تشاؤماً. وفي نهاية المطاف، لم تقرر إسرائيل مستقبل الأراضي الفلسطينية عبر التفاوض مع اللجان الشعبية للمنتفضين، وإنما أنجزت صفقة سرية مع نواة صغيرة من القادة الفلسطينيين المتمركزين في تونس. وبعد أشهر معدودة، جاءت اسرائيل بهم مع جنودهم، ليستقروا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وليحكموا السكان المحليين. بذلك أسدل الستار على الفصل الأول من فصول الانتفاضة الفلسطينية، بطريقة مؤسفة ومحزنة ومخيبة... وزاد من خيبتها أن فئة واسعة من الجماهير العربية والفلسطينية تحديداً طفقت تصفق بحماسة لخيارات ياسر عرفات الاستسلامية!
أنجزت إسرائيل صفقة سرية مع
نواة صغيرة من القادة الفلسطينيين المتمركزين في تونس

وفي حين مثلت اتفاقية اوسلو "أعظم وثيقة انتزعتها إسرائيل من الفلسطينيين" بحسب تعبير اسحاق رابين، فقد ترك الاسرائيليون ياسر عرفات يظن أنه نجح في التذاكي عليهم. ومن العجيب أن عرفات لم يكتف بالظن أنه "ضحك" على الإسرائيليين، بل هداه عقله ليحسب أنّ الجمع بين مفاوضة الاحتلال ومقاومته، هو تكتيك ممكن وناجع! وأن الجمع بين المقاومين، وبين "الجزم لاجتياز وحل المرحلة"، هو ذروة الدهاء! ولقد مضى وقت طويل قبل أن يتأكد الختيار أخيراً من فشل رهاناته، فلا النصر تحقق ولا الاستسلام الكلي.
إن الخيبة الفلسطينية بما آل إليه أمر الانتفاضة الأولى من اتفاقيات ونكسات، هي التي ولّدت الانتفاضة الثانية عام 2000. لكن من سوء الحظ، فرغم حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني في تلك الانتفاضة العظيمة، ورغم الأذى الكبير الذي أُلحق بالصهاينة. فإن نتيجة الانتفاضة كانت هزيمة أخرى لقوى المقاومة. وانتهى المطاف من جديد، بتنصيب الأجهزة الأمنية الفلسطينية، تحت رعاية أميركية - اسرائيلية، كقوة رديفة لقوات الاحتلال، من أجل السيطرة على الأرض، ومن أجل جمع السلاح من أيدي مختلف الفصائل بما فيها حركة فتح، بعد أن كان ذلك محالاً قبل الانتفاضة الثانية! وكما تمخضت الانتفاضة الأولى عن اتفاقية اوسلو، فقد تمخضت الانتفاضة الثانية فأنجبت مؤتمر باريس للمانحين في ديسمبر عام 2007. وكان هذا المؤتمر الدولي مهرجاناً صاخباً أريد به وأد كل التضحيات التي بذلها المقاومون الفلسطينيون في النصف الأول من العشرية السابقة. وفعلاً، أغرقت الضفة بالمشاريع والاستثمارات الأجنبية، وارتهن الشعب الفلسطيني للبنوك، حتى بلغ اجمالي القروض والتسهيلات البنكية في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي 5.334 مليار دولار أميركي. وهكذا نجح ما عرف لاحقاً بـ"خطة سلام فياض"، في تخدير الضفة الغربية وشغل المواطن الفلسطيني في شؤون حياته اليومية والبعد عن الشأن العام.
في كل خمسة عشر عاماً تقريباً، يخرج جيل فلسطيني جديد مندفع ومستعد، بسبب النقمة التى تتراكم في وجدانه، لاستعادة تجربة الجيل الذي كان قد سبقه... لكنه في كل مرة يحقق ذات النتيجة، ونرى نفس المشاهد تتكرر: شبان عزل أو شبه عزل يناضلون بأجسادهم النحيلة، ويستشهدون بالمئات، ثم تخبو الانتفاضة شيئاً فشيئاً، لنكتشف في ما بعد اننا هُزمنا، ولتتسلم زمام أمرنا سلطة ثانية أكثر سوءاً وفساداً واستعداداً للتنازل عن الحقوق الفلسطينية.
إن هذا هو ما يحدث الآن مع الهبة الشعبية الفلسطينية الجديدة: تحضر مشاهد الحماسة، ومشاعر النوستالجيا، وصور العواطف الجياشة. فيذهب البعض للحديث عن تجذّر جديد يمكن ان يؤدي لتحرير الضفة الغربية. ويذهب البعض الآخر، بسبب الإحباط الذي أحدثه ما يسمى بـ"الربيع العربي"، إلى البحث عن انتصار فلسطيني وسط فوضى الحروب الأهلية. لكن الواقع الفلسطيني، مع الأسف الشديد، لا يبعث على التفاؤل بمستقبل مشرق للقضية. فالتحولات التي أصابت البنية الاجتماعية، والتي أحدثتها خطة سلام فياض، والسيطرة الاسرائيلية على أراضي الضفة الغربية، تبدو هائلة! وإذا كانت خطط فياض قد نخرت إلى حد كبير العزائم، وأثقلت عموم الفلسطينيين بالديون أو جعلتهم أسرى رواتب الحكومة ومعاشاتها. فإن خطط الاستيطان قد نخرت الأرض، وأثقلت عموم الوطن بواقع مأساوي جديد. ومن الملفت للانتباه أن الانتفاضة الثانية، برغم العنف الشديد الذي اتسمت به، وبرغم خسائر الاسرائيليين المرتفعة نسبياً، فإنها لم توقف عجلة الاستيطان، ولم تستطع أن تبطئ وتيرته. وتشير الاحصائيات الرسمية الفلسطينية الى تزايد في أعداد المستوطنين بمعدل 15700 مستوطن سنويا في الفترة الممتدة من عام 1993 الى عام 2000. وأما في سنوات الانتفاضة الثانية (ما بين عامي2000 و2005) فقد كان المعدل 14600 مستوطن سنوياً. بينما كانت الأرقام في سنوات ما بعد الانتفاضة الثانية 16400 مستوطن في السنة، وهذه كانت فترة الأمان والرخاء للمستوطنين (من عام 2005 الى عام 2014). ومما يمكن استنتاجه من هذه الاحصائيات أن الفروق ضئيلة جداً في معدلات الاستيطان على مدى السنين الماضية رغم تذبذبها بين حروب وانتفاضات وتوترات وهدنات... وهذا يعني ان الانتفاضة فشلت في الحد من تضخم أعداد المستوطنين (مع الأخذ بعين الاعتبار أن الانفاق الحكومي الاسرائيلي انخفض بنسبة 64 % على الاستيطان في سنوات الانتفاضة).
طبعاً، ليس الهدف من هذا المقال، هو بث الاحباط او التبرير لترك النضال والمقاومة، لكنه دعوة لفهم الواقع الذي ازداد صعوبة وشُحّاً في الامكانيات، مقارنة بالفترات الماضية. منذ عشرين عاماً أو تزيد، كانت المدن الكبرى خارجة عن السيطرة الأمنية الاسرائيلية، وكانت تعج بالمقاومين الفلسطينيين المسلحين بأسلحة خفيفة، وبعبوات من صنع أياديهم. ولم تكن السلطة (التي أصبحت اليوم شريكة الاحتلال، من الناحية العملية) قادرة على التدخل المباشر لمصلحته... ومع ذلك كان الإنجاز معدوماً... والأسوأ من ذلك، أن التضحيات قد أفضت إلى استئثار حلفاء اسرائيل بحكم الضفة! والأنكى من كل ذلك أن مقاومي الأمس تحولوا - في نهاية المطاف- إلى موظفين في الأجهزة الأمنية المرتبطة بالمحتل وبالأميركيين، أو موظفين في مكاتب الحماية الخاصة المرخصة إسرائيليا!
إذن، ولأجل أن لا تتكرر المأساة كل عشرة أعوام، فلا بدّ لنا أن نستلهم بعض الدروس والعبر. والدرس الأول هو أن شأن النضال، كما كل شأن من شؤون الحياة، لا يمكن أن يبنى إلا بشكل تراكمي، وعبر الاستعانة والاستفادة بما سبقه من التجارب والخبرات، وإلا فإننا نكون قد زدنا إلى مآسي مشاهد الماضي، مأساة مشهد جديد، لا نعلم إلى أين يؤدي بنا، بعد أن أدت الانتفاضة الاولى للوصول للاستسلام العظيم في أوسلو، وبعد أن أدت انتفاضة الاستشهاديين والكمائن إلى الاستسلام العظيم في باريس.. وهناك أيضاً درس ثانٍ يجب أن نعيه ونستوعبه ولا نغفله أبداً، حتى لا يتكرر الفشل الفلسطيني كل مرة. وهذا الدرس مرتبط بعملية بناء التحالفات. ومن المعروف أن تحالفات الحركات الثورية هي التي تنتج - في النهاية- انتصاراتها أو هزائمها. كما أن من المعلوم أن مصائر الحركات الثورية تعتمد - جزئياً أو كلياً- على مدى اتساع وقدرة وصلابة شبكات دعمها من حلفائها وأنصارها. وحينما لا تكون حركات المقاومة قادرة على نيل أي مدد خارجي، فإن هزيمتها تكون مسألة وقت! وإذا أراد الفلسطينيون، مثلاً، محاكاة تجربة مقاومة حزب الله في تحرير جنوب لبنان، فيجب عليهم أن يبنوا شبكة حلفاء يمكن الاعتماد عليهم، بالأفعال لا بالأقوال والوعود الخلبية، في أوقات الشدة والضيق. والخلاصة أن حزب الله ما كان له أن يحرر أرضه، ويهزم الاسرائيليين لو أن حليفه السوري لم يؤازره بصدق وحق، كما أن الحليف السوري ما كان له أن يصمد اليوم أمام الحرب الضروس المكرسة ضده لولا حلفاؤه الذين وقفوا بصلابة معه. وأما الفلسطينيون إن هم عزفوا عن بناء أحلاف حقيقية، أو نفضوا أيديهم منها، أو عضوا يد من كان قد ساعدهم، فلن يبق لهم حينئذ إلا النظام المصري ليمدهم بالصواريخ والعتاد من أنفاق قطاع غزة، أو النظام الملكي الاردني ليمدهم بالرجال والمعلومات الاستخبارية ضد العدو في الضفة، هذا ولم نناقش بعد امكانية حصول الفلسطينيين على دعم حتى وان احسنوا اختيار تحالفاتهم، فالجغرافيا تجعل الأمر شبه مستحيل.
إن مسألة التحالفات وتمتين الصلات بالعمق العربي والإسلامي تستحضر الى أذهان الفلسطينيين خيبة عتيقة من خيبات ماضيهم الحزين. فلقد حرص ياسر عرفات على اخراج القضية الفلسطينية من حضنها العربي عبر الترويج لفكرة "استقلال قرارنا الوطني" . والحقيقة أن الإرث العرفاتي لم يكن كارثيا على المستوى التكتيكي فحسب ، بل كان مأساة على المستوى الثقافي، وعلى مستوى الوعي الجمعي الفلسطيني. فمقولات متهافتة مثل "شعب الجبارين" و"شعب الأساطير" مكنته ان يعبث بسياساته، وأن يصوغ تحالفاته كيفما يشاء، وأن يتقبل الشعب كل ذلك العبث، بل وصل الأمر بالبعض حدّ أنهم اعتقدوا أن بإمكانهم حقاً أن يحرروا فلسطين بأنفسهم ولوحدهم، ومن دون مساعدة أيّ كان... وفي المحصلة، نجح عرفات في منع حافظ الاسد من القبض على القضية الفلسطينية، ليلقيها بملء إرادته في أيدي الاميركيين والاسرائيليين الذين أزاحوه وقتلوه لاحقاً!
من الناحية الاخرى، كانت غزة قصة مختلفة، فالمدينة التي انتزعتها حماس من أيدي عملاء صريحين للأميركيين والاسرائيليين، شيدت فيها قلعة حصينة للمقاومة بفضل الدعم الخارجي المتمثل بمحور إيران ـ سوريا ـ حزب الله. لكن مع اندلاع احداث "الربيع العربي" عاد الدهاء ليعمل مجدداً في أذهان القادة الفلسطينيين. وهكذا اختارت حركة حماس "أمتها السنية" (الخليجية تحديداً) حليفاً بديلاً عن حلفائها القدامى، متعامية عن حقائق واضحة وفاضحة عن "الحلفاء الجدد"، وعن دويلاتهم التي هي بالكامل مجرد قواعد عسكرية للأميركيين. لذلك يبدو واضحاً ان تصحيح المسار العرفاتي، لا يكون بنقل السلطة من نخبة فتح الى نخبة حماس. (ربما تكون قيادة حماس في غزة، قد تأثرت - دون أن تعي ذلك- بالإرث العرفاتي القديم، عندما روّجت منتشيةً لفكرة صناعتها العسكرية المحلية!).
ختاماً: يمكن أن نستخلص من تجاربنا الفاشلة في الانتفاضات السابقة، عبرتين أساسيتين. الأولى، إن أي انتفاضة هي رهن بعملية التحشيد الاجتماعي، وبناء تحالفات خارجية حقيقية مع محور مقاوم للهيمنة الأميركية. والعبرة الثانية، أن نجاح أي انتفاضة مقترن كلياً بإفشال وظيفة سلطة أوسلو العميلة. لأن هذه السلطة لها دور وظيفي واحد هو "الكبح الوقائي" لأي نشاط ثوري من خلال إعادة توجيه الولاءات بالقروض. وبذلك يكون الشرط الأساس في نجاح الانتفاضة الفلسطينية الحالية هو دمج مقاومة الاستعمار الصهيوني وتدمير الولاءات لسلطة اوسلو، مع الانفتاح على مشروع سياسي مناهض للاستعمار الصهيوني والمشروع الاميركي في المنطقة. فإذا نجحت الانتفاضة الفلسطينية في القيام بهذه المعادلة الصعبة، تكون قد حققت لذاتها عوامل مهمة للنجاج. وأما إن هي أخلت ببعض هذه الشروط، فلن نبالغ حينئذ إن قلنا إن الحفاظ على حياة أبطال السكاكين سيكون أجدى لمستقبل فلسطين.
*باحث فلسطيني