الحديث عن الخسائر الانتخابية المتوالية التي تلقتها أحزاب اليسار في أميركا اللاتينية، وأخرجتها من الحكم في أكثر من بلد، لا يجب أن يقتصر على نتائج هذه التغييرات في أوطانها، بل هي تحمل دروساً ــــ وتحذيرات ــــ لكلّ مشروعٍ يطمح الى الإستقلال عن الهيمنة الغربية في الجنوب العالمي. من أبرز سمات التجربة التشافيزية في فنزويلا، وهي حالة تكررت وستتكرر مع كلّ نظامٍ مماثل، هي انّك، حين تخطّ طريقاً لا يتوافق مع خطّة "النظام الدولي" في شأن بلدك، فإنّك لن تواجه، فقط، مضايقةً اميركية مستمرة، وحرباً اقتصادية معلنة ومستترة، تشغلك بشكلٍ مستمرّ وتمنعك من النمو والبناء براحة، وشيطنةً في الإعلام والثقافة (ولو لعبت اللعبة الديمقراطية بحذافيرها، كما فعل تشافيز)؛ بل إنّك ستواجه خصماً أكثر شراسةً في الداخل، وطبقات كاملة ــــ ومستحكمة ــــ حصّلت، بفضل موقعها "الكومبرادوري" امتيازاتٍ هائلة وأسلوب حياةٍ لن تتنازل عنه، وهي ستخوض حرباً بلا هوادةٍ ولا خطوط حمر دفاعاً عن هذا الموقع (ولو بأساليب التدمير الذاتي للبلد وتخريب انتاج النفط فيه كما فعلت، حرفياً، النخبة في فنزويلا).
هناك فرصةٌ للنقد الذاتي والتساؤل عن سبب عجز هذه الحركات، حين حكمت، عن تقديم نموذجٍ بديلٍ وناجح بعد أكثر من عقدٍ ونصف من صعودها، وهو نقاشٌ لا يستقيم، بالطبع، من دون أخذ العوامل أعلاه في الحسبان (في فنزويلا مثلاً، تقول تقارير إن المواد الغذائية والأساسية، التي كانت مفقودة ونادرة في الأشهر الماضية، ظهرت بشكلٍ "غامض" في المتاجر بعد صدور نتائج الانتخابات). الّا أنّ انتخابات فنزويلا قد أثبتت، قبل كلّ شيء، فرضيتين أساسيتين: أوّلاً، أن الحركة التشافيزية، على عكس ما صوّرها خصومها وصولاً الى الأسبوع الماضي، لا تمثّل "استيلاءً" على الحكم أو ديكتاتورية شعبوية، بل هي حكمت بفضل حاضنةٍ شعبية ناشطة، وحين خسرت تأييدها، أخرجتها الانتخابات من الحكم. ثانياً، أن من اكتسح البرلمان بديلاً ليس حركةً تغييرية جديدة، تتجاوز ــــ في آن ــــ اليمين الفاسد الذي حكم البلاد طويلاً والتجربة التشافيزية "الفاشلة"، بل هو اليمين القديم نفسه، بنخبته وإعلامه وشعاراته ومنظمات "مجتمعه المدني"، قد عاد ليعلن انتصاره في الحرب الأهلية الطويلة.
على حد قول الزميل سيف دعنا، أثبتت هذه الانتخابات، من جديد، أن الفقراء في عصر الهيمنة والعولمة لا يملكون نموذجاً يسعون اليه الا النموذج الاستهلاكي للطبقة الوسطى كما عمّمه الغرب، وكما تعيشه النخبة في بلاد الجنوب. هو الشكل الوحيد الذي يرونه ونراه لـ "الحياة الجيدة"، ولم يقنعهم اليسار أو غيره بإمكان نموذجٍ بديلٍ، مختلف، أرقى وأجمل وأكثر عدلاً. أو، حتّى، بأنّ سعيهم لأن يصبحوا "طبقة وسطى"، كما تعدهم الإيديولوجيا الأميركية في بلادنا، هو وهم، فهناك بالفعل طبقة وسطى، طفيلية، موجودة ولن تسمح لهم بأن يشاطروها الريع. تماماً كما إنّ اميركا لن تسمح للعالم بأسره ولمجتمعاته الفقيرة بأن تعيش "الحلم الأميركي"، فثراؤها من فقره ــــ ولو كان من المحتمل أن نصير جميعاً، عبر الانتظام في الهيمنة، ككوريا الجنوبية وتايوان (النماذج التي تسوقها الايديولوجيا الأميركية في تزيين الخضوع)، فيا مرحباً بالهيمنة وبالخضوع، ولكن العالم ــــ والاقتصاد الرأسمالي ــــ لا يعمل هكذا، وهنا أصل المسألة.
حتى اذا انتصرنا في حروبنا ضدّ الاستعمار وعملائه، وأسسنا دولاً مستقلة عن الهيمنة، وصعدنا الى مستوى التحديات التي تطرحها المرحلة التاريخية الراهنة (وجلّها اليوم عسكري). فإننا، إن لم نملك نموذجاً غير نموذج الكومبرادور، ويتلخّص طموحنا ــــ على مستوى الفرد والمؤسسات والأنظمة ــــ في استنساخ "الازدهار" و"النجاح" ضمن مفهومه الأميركي (أو الصورة التلفزيونية عنه)، فلن تعني هذه التضحيات الا هزيمة سياسية. ستحكم البلد أساساً، واقتصاده وثقافته واعلامه، طبقة وسطى مصالحها في الغرب وتستنسخ اسلوب حياته، ونمط استهلاكها ــــ الذي يبهر باقي المجتمع ويحثّ على تقليده ــــ لا يناسب الضرورات التنموية في بلادنا وتعميمه قاتل. سيكون لديك، في الوقت نفسه، شرائح شعبية واسعة ــــ بينها فقراء ومحرومون ــــ تستهلك هذا النموذج، وتحلم به وتسعى اليه؛ تنقاد خلف من يعدها به (هناك دائما "رفيق حريري" يحمل الوعود)، وقد تكون مستعدّة لفعل ما هو أكثر من التصويت ضدّ من ترى أنّه يمنعها عنه.
كتب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو أنّ التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي غالباً ما يتمّ تقييمها بمقاييس خاطئة، كأن يُقارن مستوى النمو والتراكم الرأسمالي بينه وبين الغرب، أو نجاح اوروبا الغربية في تقديم مستوى حياةٍ أعلى لمواطنيها. يقول باديو إنّ المقياس الحقيقي للحكم على التجربة الشيوعية (والمكمن الحقيقي لفشلها) هو في مقدار تحقيقها لوعدها الجوهري، أي تقديم نموذجٍ انسانيّ متحرر من الملكية والرأسمالية، وليس في أدائها الاقتصادي أو الإعلامي أو العسكري مقارنة بخصومها. بالمعنى نفسه، فإنّ ابقاء "الهيمنة الاجتماعية" ــــ حتى نستخدم تعبير الزميل ورد كاسوحة ـــــ في يد هذه الطبقة الوسطى المتغربنة يعني أن نموذجها وجمالياتها، وسياراتها وأموالها، حتى في ظلّ نظام وطني، ستتسرّب الى قياداتك وعائلاتهم، والى نخبتك ومقاتليك، وسيرى الناس اسلوب الحياة هذا على انّه القدوة والمثال ودليل النجاح. أوّل دروس فنزويلا هو عن ضرورة حسم هذه الحرب مع الكومبرادور ونموذجه، ولو بالقوة، وعدم اتاحته ــــ بكّل ما يمثّله ــــ كخيارٍ سياسي للنخب وللجموع، حتى ولو على هيئة احتمالٍ أو وهمٍ أو اعلانٍ على التلفزيون.