حققت «الأخبار» في الذكرى الثالثة لغياب جوزف سماحة سابقة صحافية قضت بأن تحتكر التكريم صحافية أفردت لها الجريدة ست صفحات بكاملها لتدبيج نص يزعم تحليل الفكر السياسي لمؤسس الجريدة. وتقول السيّدة أمل حوّا، كاتبة النص، إنّ الغرض الأساسي من كتابتها هو إزالة التشوّش والالتباس الذي فرضه بعض أصدقاء جوزف على فكره
فوّاز طرابلسي*
يجمع موضوع الإنشاء المفكّك والمدّعي للسيّدة حوّا كمية من المغالطات بالمفرّق معطوفة على اختيار انتقائي استنسابي لبعض نصوص جوزف تجعلك تتساءل أين تعيين ونقاش الفكر السياسي لجوزف سماحة فيها؟ تعثر على تعيين لمصادر فكرية وتشخيص لأسلوب فكري ونقاش لاستراتيجيات وتكتيكات سياسية. ولا تجد إلا النذر اليسير من الفكر. تكفي نظرة إلى العناوين التي تتطرّق إليها حوّا لتبيّن بعدها عن دراسة في فكره السياسي: تجربة «الأخبار»، الصحافة السجالية والنضالية، الانتماء السياسي، مغالطات بالجملة، موضوع الأقليات (في «أسلوب» جوزف)، تجربة الحركة الوطنية، عهد أمين الجميل و١٧ أيار ١٩٨3، شخصية جوزف. لم أعثر على دراسة عن فكر جوزف السياسي. عثرت على شبه إعدام لأفكاره وكتاباته وممارساته السياسية، اللهم إلا في السنة الأخيرة من حياته.
تفيدنا السيدة حوا بأنها لم تعد تمارس العمل الحزبي. مع ذلك، يبدو أن عدّتها «الفكرية» لا تتجاوز قلّة من المقولات الأكثر تبسيطية وجموداً علقت بها من نشاطها في إحدى الشلل التروتسكوية. ويمكن إجمالها باثنتين: واحدة إرادويّة مملّة تزعم أن الثورة جاهزة للاندلاع دائما وأبداً، لا تحتاج إلا إلى قيادة؛ وإذا بقيادة الثورة إما مفقودة وإما موجودة، لكنها تخون الثورة وتغدر بها دائماً وأبداً. والثانية نزعة في النقد وتحميل المسؤولية تجري على قاعدة ارتيابية تكفيرية لا تختلف بشيء عن نزعات التكفير الدينية أو الستالينية، عنوانها «أقربهم إليك، أخطرهم عليك». والأقربون هنا هم الشيوعيون اللبنانيون طبعاً، وبينهم كاتب هذه السطور الذي يصدف أنه من أوائل من ترجموا لتروتسكي إلى العربية.

لم يرَ جوزف إلى نفسه مفكّراً. كان يردّد أنّه ألّف كتابَين، فإذا به ينتج مقالين مطوّلين

الغائب الأكبر في هذا النص هو الحوار أكان مع جوزف أم مع كاتب هذه السطور الذي خصّته السيدة حوّا بمساحة رحبة في نصّها غير الرحب، على اعتباري المسؤول الأكبر عمّا يصيب فكر جوزف من تشوّش والتباس. ومرجعها في ذلك المبحث الفكري... شهادة شخصية كتبتها «الأخبار» ونشرتها بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة جوزف. تنفي السيدة حوّا حقّي ادّعاء «سلطة معنوية» على جوزف باسم «التوأمة» التي عيّنتها تشخيصاً لعلاقتي بجوزف. لست أدّعي أصلاً أي «سلطة» في الحديث عن جوزف. مرجعي المعايشة والوقائع والحجج والبراهين. أما «التوأمة» بيني وبين جوزف، فمن المستحيل على السيّدة حوا أن تفهم ماذا تعنيه، علماً بأن علاقة الأخوّة والصداقة والزمالة الصحافية والرفقة النضالية والتواطؤ العميق التي بدأت عام ١٩٧٢ لم تحل دون نشوب خلافات في الرأي والسلوك وصلت إلى حدّ القطيعة المؤقتة مرات عدة، وهي لا تمنح «شِق التوأم» الباقي قيد الحياة سلطة أو وصاية أو حقاً وراثياً على حياة الآخر وأفكاره، لكنها لا تلزمه الصمت عما قد يختلف معه به من أفكار وأفعال.

جوزف الصحافي

جوزف سماحة صحافي. لم يرد أن يكون إلا صحافياً ملتزماً يوظّف الفكر لتحليل الخبر والحدث والسعي بواسطة ذلك للتأثير على أوسع دوائر الرأي العام والحضّ على الفعل. قضى كل حياته الراشدة في العمل الصحافي يمارسه لا بما هو مهنة يقيم بها الأود ويفي الديون، وإنما بما هو مناضل ملتزم في معارك التحرّر الوطني والتغيير السياسي والاجتماعي على امتداد العالم العربي والعالم. رفض أن يكون باحثاً أو أكاديمياً. وتخلّى عام ١٩٧٢ عن منحة من الجامعة اللبنانية لإكمال دراسته في الفلسفة في فرنسا ليتفرّغ لعمله الصحافي في «الحرية» ثم في «السفير» وفي «الوطن»، لسان حال الحركة الوطنية اللبنانية. وأود التذكير هنا أنه بتكليف من هذه الحركة الوطنية، أشرف جوزف على الإذاعة اللبنانية عامي ١٩٧٥-١٩٧٦ حيث رعى في ما رعى «بعدنا طيبين، قول الله»، برنامج زياد الرحباني وجان شمعون اليومي الساخر الذي اكتسب شعبية استثنائية لدى اللبنانيين على طرفي المتاريس.
ولم يرَ جوزف إلى نفسه على أنه مفكر أو كاتب. كان يردد أنه ألّف كتابَين، فإذا به ينتج مقالين مطوّلين. مع أن هذا القارئ النهم قد يقرأ ثلاثة أو أربعة كتب من أجل أن يؤلف افتتاحية واحدة من ٦٠٠ كلمة! على أن كل هذا لا ينتقص شيئاً من حق من يرغب في استنتاج خلاصات في الفكر السياسي من كتابات جوزف.
هذا هو جوزف الذي أعرفه. فلننظر إلى جوزف الصحافي من منظار حوا. تراه ينتمي إلى وسط من الكتاب والصحافيين احتل على مدى عقود «المساحة الزائدة» في الصحافة اللبنانية التي نتجت «من تضارب مصالح الطوائف الأساسية... ولقد شيّدت في هذا الشرخ مبان إعلامية وصحافية عديدة استوطنها يسار لبناني، ولا سيما أنه قادم من منظمة العمل الشيوعي». وما سهّل على المنظمة احتلال هذا الحيّز، حسب حوا، هو «الخلطة العروبية التي أضيف إليها بعض من المقولات الماركسية الرائجة. كان افتقار الوضوح الفكري والسياسي للمنظمة نافعاً. فقد تعلّمت قيادتها السباحة في كل الاتجاهات مع إبقاء المزايدات اللفظية كلما اقتضت الحاجة». (ص١٧ العمود الأخير، ص ١٨ العمود الأول). ولعل السيدة حوّا تعلم أن قيادة منظمة العمل الشيوعي السابحة في كل الاتجاهات والمزايِدة لفظياً وعديمة الوضوح فكرياً وسياسياً كانت تضم في عدادها الرفيق جوزف سماحة، عضواً في مكتبها السياسي وفي الأمانة العامة للجنتها المركزية (السكرتاريا).
المشروع الصحافي الذي يحوز رضى السيدة حوا هو «مشروع الأخبار». على أنّ وصفها له لا يبدو أنه يشرّف مؤسسها ولا أسرة تحرير الجريدة والعاملين فيها. تُصوّر حوا الجريدة منقسمة إلى قسمين: قسم سياسي لـ«رافضي الهيمنة» يدافع عن المقاومة، وأقسام مهنية إذ «ترك جوزف للأقسام الأخرى في الجريدة مهمة تقديم صوت ديموقراطي علماني تحرري قومي ويساري، لأن هذا الموقع ما كان بإمكانه الدفاع سياسياً عن مقاومة متجسّدة بحزب ديني». لست أدري ما إذا كانت أسرة تحرير «الأخبار» معجبة بهذا التعريف لـ«مشروعها». السيدة حوا معجبة جرياً على مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة»، مع أنه مثل يضرب عادة في مورد الذمّ لا المديح والإعجاب، ولكن ليس في قاموس السيدة حوا.

الماركسيّة والعروبة

في تعيينها المصادر الفكرية لجوزف سماحة، تنفي أمل حوا عنه أنه ماركسي. إنما هو يستخدم الماركسية «لتوليف موقف قومي وما دون قومي». لم نفهم الـ«ما دون قومي» هذه، ولكن ليس هذا الأمر الوحيد الذي لن نفهمه في هذه المطوّلة. في قاموس حوا الفكري مقولة هي الـ«فوق وطني» استعصت على فهمنا بعض الشيء هي أيضاً.
لا يهم ما إذا كان جوزف سماحة يعلن أو لا يعلن عن نفسه ماركسياً. المهم أنه فيما يتجاوز «الاستخدام» أو «التخليط» انتمى إلى محاولات توطين وتجديد للماركسية عربياً متأثراً بمصدرين رئيسيين. واحدهما مشروع الراحل ياسين الحفاظ، الربط بين القومي والوحدوي والديموقراطي واليساري، مشدداً على دور العقلانية في السياسة. والثاني بيئة منظمة العمل الشيوعي و«الحرية»، وقد كانت في السبعينيات مجلة اليسار العربي الجديد. على أن هذا لا يستنفد على الإطلاق جهد التحصيل والابتكار لجوزف نفسه بفضوله الكبير، وتساؤلاته اللامتناهية، وجهده الحثيث، وذكائه الاستثنائي، وسعيه الدائم لهتك الأسرار والغوص إلى ما هو أبعد من السطحي والبديهي، وفهمه الخلاق لظواهر جديدة في عصرنا، وأخيراً وليس آخراً إبداعه في اللغة وفن المقالة.
تتبدى بصمات المنهج الماركسي عند جوزف في غير مورد. فهو من أوائل الكتاب الصحافيين العرب الذين انتبهوا إلى أهمية العولمة بما هي طور جديد في تطور النظام الرأسمالي، وإلى انعكاساتها. وتوقف طويلاً ناقداً مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه شمعون بيريز بما هو شكل جديد من الاستعمار الاقتصادي. ووفّر المنهج الماركسي لجوزف العِدّة النظرية لنقد مشروع الرئيس رفيق الحريري. ومنهجية جوزف الماركسية سمحت له بالاعتراف بوجود مسألة يهودية يسهم حلّها في تسوية عادلة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة على أرضه.
تؤكد السيدة حوا إذاً أن جوزف «صاحب مشروع قومي»، علماً بأن معظم ما نلقاه في باب الفكر القومي عند جوزف يكاد يختزل بتأييد المقاومة وتحليل سلوك الطوائف والمذاهب اللبنانية. مع ذلك تعتبر حوّا جوزف يسارياً أيضاً، وإن كانت يساريته تتوخى «التمايز عن الماركسية ومفاعيلها»، لكن هذا التعيين لا يفيد جوزف الملام على الجهتين. فهذا اليساري مُصاب بانحرافات قومية خطيرة في التعاطي مع مسألة الأقليات، وهي المسألة التي تتخذها حوا «مدخلاً لفهم أسلوب سماحة». لم أفهم تماماً لماذا الموقف من مسألة الأقليات يدخل في باب الأسلوب، لا المضمون، ما دامت السيّدة حوّا تؤلف في الفكر السياسي. ولكن هذا أيضاً ليس الأمر الوحيد الذي لن يفهم في مطوّلتها الإنشائية.
تخصص حوا ما يقارب الصفحة الكاملة لنقد «أسلوب» جوزف في مسألة القوميات. فإذا به صاحب أسلوب «قومي توتيري» لا يميّز بين الشعب الكردي وقياداته (هاكم القيادات مجدداً!) ولا يعنيه كسب الفئات التقدمية والديموقراطية والاشتراكية في الوسط الكردي، ولا يستطيع «أن يوقف العاطفة القومية السامّة تجاه الشعب الكردي والأقليات عموماً» (ص ٢٠). وسماحة فوق هذا كله ملام بما هو يساري يتشارك مع سائر الماركسيين والتقدميين الديموقراطيين العرب في التقصير تجاه الأكراد. واعلم أن الآنسة حوا ـــــ جرياً على مبدأ تخوين القيادات أيضاً وأيضاً ـــــ لا تعفي الحزب الشيوعي العراقي من التقصير تجاه الأكراد، بل تحمّله مسؤولية كبيرة عن مآسي الشعب الكردي، فـ«منذ اعتماده سياسة الجبهات التقدمية مع البعثيين، لم يتمايز موقعه كثيراً عن موقف هذا النظام». يبدو أن الصحافية أمل حوا توقفت عن متابعة الوضع في العراق منذ نيف وثلاثين سنة، فلم تسمع بأن «سياسة الجبهات التقدمية» أغرقها حزب البعث بقيادة صدام حسين بالدم عام ١٩٧٩ عندما شنّت أجهزته الأمنية حملة إرهاب قتلت الألوف وشردت عشرات الألوف من الشيوعيين والتقدميين والديموقراطيين العراقيين!

بالأحمر كفّنّاه!

تمتدح السيدة حوا الحزب الشيوعي اللبناني لانفراده في موقف ليس بالتفصيلي في حياة لبنان، هو رفضه الانحياز إلى أي من معسكري ١٤ و٨ آذار، وطرحه «خطاً ثالثاً». لكنها تأخذ عليه أنه «تصرّف كطائفة بدل أن يكون في القلب من التظاهرات الحاشدة في كلا المعسكرين حاملاً شعاراته الخاصة حتى لو تطلّب ذلك منه أن يدفع ثمناً لموقفه». عجيب أمر المفكرة السياسية أمل حوا! الحزب الشيوعي «يتصرّف كطائفة» لأنه رفض الانضواء في واحد من معسكرين مفروزين على أساس طوائفي ومذهبي. والبديل؟ جاهز. كان على الحزب الشيوعي المشاركة في التظاهرتين، بما فيها تظاهرة معسكر ١٤ آذار التي تعتبرها أمل تظاهرة المعسكر الموالي لأميركا والمعادي للمقاومة. وفيما لو أخذ الحزب الشيوعي باقتراح السيدة حوا فسار في التظاهرتين، هل سوف يدفع ثمناً لموقفه هذا غير اتهامه بالانتهازية واللعب على الحبلين؟!
وعلى الرغم من تقدير حوا لموقف الحزب الشيوعي في ذلك المفصل التاريخي، فهي تستهجن لفّ نعش صديقها بالعلم الأحمر بحجة أن جوزف ليس ماركسياً ولأن السيدة حوا «لم تسمع يوماً جوزف يدعو اليساريين إلى الانضمام إلى الحزب الشيوعي». أنت لم تسمعي، سيدة حوا. أنا سمعت. دعاني جوزف أنا والرفيق والصديق زهير رحال غير مرة لننتسب الثلاثة معاً إلى الحزب الشيوعي. ولمّا تمنّعنا، استشار جوزف صديقاً له في قيادة الحزب ما إذا كان سوف يقبل به الحزب في حال تقدّمه بطلب انتساب، فنصحه الصديق بعدم المحاولة. مهما يكن، لم تفلح تجارب العمل المشترك مع الحزب الشيوعي التي بدأناها معاً منذ عام ١٩٩٦ في تحقيق مشروعنا المشترك إعادة تأسيس اليسار وتوحيده، فأطلق جوزف معادلته الشهيرة «لا يستطيع اليسار شيئاً من دون الحزب الشيوعي ولا يبدو أنه يستطيع شيئاً معه»، وهي معادلة يبدو أن قيادة الحزب الشيوعي لا تزال تصرّ على تأكيد صحتها سنة بعد سنة.

في تجربة الحركة الوطنية اللبنانية

وهذه مغالطاتي بالجملة: «لم يكن غمز فواز للحزب الشيوعي من قناة جوزف مصدر التشويش الوحيد في هذا المقال. بل يمكن اعتبار هذا المقال نموذجاً لما قصدناه بقولنا إن أصدقاء سماحة كانوا المساهمين الأساسيين في الالتباس الذي أحيط بمواقفه. سنكتفي في هذه المقالة بتناول الجانب السياسي ونترك جانباً الانطباع السلبي الذي يتركه المقال حول شخصية جوزف، إذ يظهره كشخص متقلّب وعابث حتى في السياسة «يوظّف كلّ تربيته الفلسفية لممارسة لعبته الأثيرة في أن يقنعك بوجهة نظر، ثمّ يقنعك بنقيضها». لقد حاول فواز الاستعانة بسلطة معنوية لتأكيد رأيه، باعتبار أن بينه وبين جوزف «شبه توأمة لا فكاك منها»، ومن ذا يعرف شقه التوأم أكثر منه. ولكن يتبيّن لنا أن طرابلسي يتحاشى فهم صديقه لأنه يتحاشى الخوض في النسق السياسي الذي أعاد سماحة تكراره منذ الحرب الأهلية، أي منذ أن كان طرابلسي مسؤولاً بالقدر نفسه عن السياسة التي اتبعتها منظمة العمل الشيوعي آنذاك. يحاول فواز إقناع القارئ بأن سماحة انفضّ عن المشروع الذي أسّس لقيام «الأخبار»، وهي أولى تلك المغالطات. فهو يقول إن سماحة «ذهب إلى النهاية في ما اعتقده مشروع تغيير في لبنان يحسم الصراع بين خط «أميركي» وخط «وطني قومي مقاوم». فوضع كل ما أوتي من موهبة وقدرة جدلية دعماً لمشروع المعارضة حسم المعركة بإسقاط الحكومة في الشارع. ولكن جوزف كان قد تعلّم من الدرس الأليم لحروب 1975ــ1990. فتوقّف عند «الخطّ الأحمر»: الاقتتال الأهلي، وقد لاحت بوادره في كانون الأول الماضي، فقال: كفى. هذه «الكفى» هي في اعتقادي وصية جوزف، بل صيحته، في وجه المعسكرين المفلسَين في لبنان».
لست أدري أين ولماذا أسعى إلى «تحميل جوزف وحيداً التراث الفكري والسياسي الذي رافع سلوكيات جيل يساري بكامله». لم تكن لي القراءة ذاتها لسلوكيات الجيل اليساري المذكور كالتي لجوزف. وإني أتحمّل مسؤولية أكبر بكثير من التي يتحملها هو بسبب فارق العمر والأسبقية في العمل الحزبي ـــــ وقد دخل جوزف إلى المنظمة عن طريقي ـــــ عدا عن المسؤولية القيادية وطول المدة التي عشتها في العمل الحزبي. وقد أجريت في غير كتاب ومقالة ودراسة التقويم والمراجعة والنقد الذاتي لتجربتي في صفوف اليسار والحركة الوطنية، أحيل حوا عليها علّها تتحفنا إذ ذاك برأيها الفكري النقدي فيها.
ترى حوا أن جوزف كرّر مع حزب الله والسيد حسن نصر الله خطأه التكتيكي في تجربته مع الحركة الوطنية في الحرب الأهلية ١٩٧٥-١٩٩٠. أي إن جوزف في القسم الأكبر من حياته الصحافية والفكرية والسياسية كان ضحية وهم كبير لإغفاله مسألة «القيادة» في الحالتين، ولم يشذّ عن هذا الانحراف جزئياً إلا مطلع عهد أمين الجميل وكلياً في آخر سنة من حياته مع «مشروع الأخبار». وهذه خلاصة تقويم حوّا لفكر جوزف سماحة السياسي.
تنكر السيدة حوا على الحركة الوطنية بالجملة حملها خطاباً ديموقرطياً وعلمانياً «على الأرض»، على اعتبار أن الخطابات تلقى عادة على الأرض! وفي حين أن «المشروع الأميركي الإسرائيلي» يحضر حضوراً كثيفاً عند حوا في حالة المقاومة الإسلامية، فالمشروع المذكور لا يحضر إطلاقاً في حالة الحركة الوطنية في السبعينيات من القرن الماضي. هنا تحضر مسألة «القيادة» والترسيمة إياها: الفشل ناجم عن انقياد الشيوعيين لزعامة كمال جنبلاط وتوهمهم «أن الأخلاقيات هي التي تحرّك زعيماً طائفياً لتجيير قواعده الطائفية لمصلحة مشروع وطني. ربما اعتقدا (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي) أن المصلحة الطائفية والطبقية لجنبلاط عرضية؟». لا يمكن أن تتصوّر السيدة برحابتها الفكرية المشهودة أن زعيماً لطائفة أقلوية قد يرى أن من مصلحة موقع طائفته في التركيبة اللبنانية أن يحالف حركة شعبية عابرة للطوائف والمناطق والشرائح الاجتماعية، تسعى إلى تجاوز النظام الطوائفي بالعبور إلى دولة المواطنين الديموقراطية والعلمانية، بالاستعانة بوزن وضغط المقاومة الفلسطينية بكل ما حمّلها ذلك من أثقال واستثار من انقسامات.
لا وجود في نقد حوّا لتجربة الحركة الوطنية في الحرب، للميليشيات الكتائبية وتغليبها السلاح للمحافظة على نظام التمييز الطوائفي والطبقي ورفعها شعار رفض التوطين من أجل إجلاء المدنيين الفلسطينيين بالجملة عن لبنان. ولا حضور لـ«مشروع إسرائيلي أميركي» لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وإخراج الشعب الفلسطيني من الحل العربي الإسرائيلي تمريراً لاتفاقية كامب ديفيد. ولا يرد في البال عدوان عام ١٩٧٨ واحتلال الشريط الحدودي ولا التعاون الكتائبي ـــــ الإسرائيلي، ولا تنصيب الدبابات الإسرائيلية لبشير الجميّل رئيساً على لبنان، ولا توريث أخيه في ظل المفاعيل ذاتها.
كل هذه لا ترد في نقد السيدة حوا، وهي العدو اللدود لـ«المشروع الإسرائيلي الأميركي» الحالي. لا يرد غير مسألة القيادة. وهي لا تكتفي بإنكار أي صفة ديموقراطية وعلمانية لليسار في الفكر والممارسة. وإنما يحتلّ جوزف في نقدها دور المبرّر للحركة الوطنية في عملها على تكتيل القوى الطوائفية حول القيادة الجنبلاطية. أما السيدة حوا، ورفاقها، فقد كانوا يمارسون معتقداتهم الديموقراطية والعلمانية من خلال القتال في صفوف منظمة الصاعقة وجبهة التحرير الفلسطينية.
معلومة إضافية للسيدة حوا عن مصائر أطراف الحركة الوطنية. قد يكون جوزف حمّل وليد جنبلاط المسؤولية عن انفراط عقد الحركة الوطنية عندما كتب عنها عام ١٩٨٥. ولكن جوزف عند خروجه من منظمة العمل الشيوعي وانتقاده الحركة الوطنية بما هي فيدرالية طوائف عام ١٩٨٠ وانسجاماً مع فكرته القائلة بأن محاولة التغيير قد صدّعت الوحدة الوطنية، تصوّر عملية إعادة بناء تلك الوحدة حول قطب هو جبل لبنان، وعلى ركيزتين هما وليد جنبلاط وبشير الجميّل. ولهذا الغرض انخرط في شراكة لم تدم طويلاً مع سمير فرنجية لمساعدة وليد جنبلاط على إعادة بناء الحزب التقدمي الاشتراكي على أسس جديدة ليؤدي دوره في تلك المهمّة التوحيدية.

عهد أمين الجميّل و١٧ أيّار ١٩٨٣

أرادت حوا أن تكحّل موقف جوزف من عهد أمين الجميّل واتفاقية ١٧ أيار فأعمته عمىً. تقول إني ألمح بأن موقف جوزف من عهد أمين الجميل كان ملتبساً. لم ألمّح. أقولها جهاراً نهاراً إن موقف جوزف مطلع عهد أمين الجميل واستتباعاً من اتفاق ١٧ أيار وانطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية لم يكن ملتبساً، بل كان أبلغ خطأ ارتكبه في مسيرته السياسية. أما حوا، فمع أنها تقول إنها لا تتّفق وتحليلات جوزف من نظام أمين الجميل والاتفاقية، إلا أنها تريد «إنهاء اللغط المستمر حول هذا الموضوع مرة نهائية». وهي تنهي اللغط بهذا اللغط: «لقد استفاض سماحة في شرح موقفه من اتفاقية ١٧ أيار، لم يكن مؤيداً للاتفاقية، ولا متعاوناً مع العدو، بل كان يقرأها ويتعامل مع حكم أمين الجميل على خلفية الشحن المذهبي والجو المعادي للفلسطيني في مناطق سيطرة المقاومة سابقاً، وعدم التكافؤ الكبير في ميزان القوى العسكري والسياسي، الاحتلال [كذا]،
انخراط العرب [كذا بالجملة] في المشروع الإسرائيلي وغياب قوة محلية وعربية قادرة على صياغة خطاب تتماهى معه تيارات سياسية في العاصمة بيروت».
لست أعرف أحداً اتهم جوزف بـ«التعاون مع العدو». أما عدم التكافؤ في ميزان القوى العسكري والسياسي مع إسرائيل، وانخراط «العرب» في المشروع الإسرائيلي وغياب قوة محلية وعربية قادرة على صياغة خطاب تتماهى معه تيارات سياسية في العاصمة بيروت ـــــ فهذه حجج لو أردنا تطبيقها الآن على وضع المقاومة الإسلامية لوجب الانضواء تحت رايات الجناح الأكثر تطرفاً في ١٤ آذار والمطالبة بنزع سلاح المقاومة والدعوة إلى انخراط لبنان في مفاوضات سلام فورية مع إسرائيل.
«انخراط العرب في المشروع الإسرائيلي». لاحِظوا الدقّة الفكرية عند السيدة حوا. هكذا «العرب» بالجملة؟ بالمئتي مليون ونصف المليون منهم؟ أين ذهب التمييز التروتسكوي بين القيادات والشعوب؟! وقد يسأل سائل: «غياب قوة محلية في بيروت». وماذا عن قوى حاضرة تقاوم في الجنوب والبقاع المحتلّين بعدما أنجزت إخراج الإسرائيليين من بيروت؟ ولكن، ما الحاجة إلى كل هذه الفذلكة ما دام جوزف نفسه اعترف بخطأ رهانه على دور أمين الجميل في مهمة إعادة التوحيد الوطني مؤكداً أن الهيمنة غلبت على همّ التوحيد فأدّت النتيجة العكسية؟ تبقى اتفاقية ١٧ أيار ١٩٨٣ وانطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد الاحتلال الإسرائيلي. تقتضي الأمانة لفكر جوزف، وواجب الصداقة والأخوة أن لا نغفل هذه السقطة من سقطاته التي سرعان ما تراجع عنها. كتب جوزف بعنوان «المقاومة الوطنية اللبنانية بين الفعالية والتشبيح» (مجلة الشراع، العدد ٤٧، ٧ شباط ١٩٨٣) مهاجماً رافضي التفاوض مع إسرائيل ـــــ ولنعترف أنهم كانوا قلّة آنذاك ـــــ والداعين إلى أولوية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، واتهمهم بـ«التشبيح» وبانعزالية يسارية «مغامرة وعدمية وطنياً» تتغافل عن الانقسام الأهلي اللبناني وتتجاهل الوضع العربي وتنوي «تحميل لبنان الممزّق كل مسؤولية العرب». ودعا جوزف إلى توظيف العمليات العسكرية لـ«جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» في المفاوضات اللبنانية ـــــ الإسرائيلية في خلدة والخالصة بما هي «ورقة سياسية مستخدمة في الصراع مع إسرائيل، هذا الصراع الذي تمثّل المفاوضات إطاره الرئيسي اليوم». ورأى في الموقف الرسمي اللبناني من المفاوضات ـــــ أي موقف أمين الجميل وعهده ـــــ «تعبيراً معقولاً عن نقطة توازن» في المواجهة اللبنانية العامة لإسرائيل.

في الاختيار بين «ضفّتين»

تنفي حوا أن سماحة دعا إلى حسم الصراع لمصلحة أحد المعسكرين المتصارعين في لبنان، بل ترى زعمي دليلاً على أن جوزف قد انفضّ عن «مشروع الأخبار» الذي تدّعي أنه كان قائماً على البحث عن تسوية بين المعسكرين. والآن، وبعدما أطاحت حوّا كل ما مارسه جوزف سماحة في حياته المهنية والسياسية، لا يبقى ما يثير إعجاب السيدة حوا إلا تلك السنة الأخيرة من حياة جوزف التي تميّزت، برأيها، عن المراحل السابقة، بـ«البعد المسيحي» الذي ضمن للمقاومة بعداً وطنياً».
استخدم جوزف طويلاً كنية الضفّتين للإلحاح على ضرورة الخيار بين معسكرين متنازعين في المنطقة. ومن لا يفهم الإلحاح لدى جوزف على الاختيار في الوقت الذي تلوح له إمكانية التغيير، لن يفهم وظيفة الصحافة عند جوزف كأداة تحريض ودفع على الفعل. إذ ذاك غلبت الثنائيات المتعادية على كتاباته، على ما لاحظ صديقه حازم صاغية. وكان جوزف يحب أن يصدّق أن المنازلة بين فريق المشروع الإسرائيلي الأميركي وفريق الممانعة الإيراني السوري والمقاومة، لا بد أن تنتهي بالنصر لواحد على الآخر. ولم يحسب حساب أن تنتهي المنازلة بالتعادل أو التسويات.
لن أفرد المزيد من المساحة والوقت للاستشهاد بكتابات جوزف في تلك الفترة. أحيل حوّا على واحد من أقرب الأشخاص إلى جوزف في فريق تحرير «الأخبار». يؤكّد خالد صاغية أن جوزف كان يرى أن انتصار حرب تموز يمنح المقاومة وحلفاءها الحق في الحكم: «كان رئيس التحرير المؤسّس جوزف سماحة يحمل حلمين كبيرين: حلم سياسي بالتغيير مدفوعاً بنتائج حرب تموز، وحلم مهني بتجديد الصحافة اللبنانية والعربية. وكان أستاذنا الراحل يعتقد أنّ لـ«الأخبار» دوراً تؤدّيه على هاتين الجبهتين. حين توقّف قلب جوزف عن الخفقان، كان قد بات واضحاً أنّ التغيير السياسي ما زال عصياً في هذا الوطن المعلّق. وقد عبّرتْ عن ذلك مقالات جوزف الأخيرة. كتب فواز طرابلسي في رثائه: «أعرف أمراً واحداً: كنتَ تتمزّق بين رغبتك في «تغيير» نذرنا له العمر كلّه... وخوفك من تكرار الاقتتال الأهلي». ويكمل خالد قائلاً: «كان جوزف يتمزّق فعلاً، لكنّ مقالاته بقيت تراقص الكلمات» («الأخبار»، ١٤ تموز ٢٠٠٨).

يقنِعك بالفكرة ويقنعك بنقيضها

أخيراً، تتّهمني حوّا بأني أنعت جوزف شخصياً بالعبث والتقلّب لقولي إنه «يوظّف كلّ تربيته الفلسفية لممارسة لعبته الأثيرة في أن يقنعك بوجهة نظر، ثمّ يقنعك بنقيضها».
عرف جوزف عدداً من التحوّلات في مسيرته السياسية. يعود بعضها إلى موجبات العمل الصحافي وبعضها الآخر إلى مراجعاته لتجاربه أو إلى اجتهادات فسّر بها أحداثاً وتطورات معينة، أصاب فيها أحياناً وأخطأ أحياناً أخرى، كحالنا جميعاً. ولم يكابد صحافي النتائج السلبية للمهنة قدر ما كابدها جوزف وهو يتنقّل من صحيفة إلى أخرى بحثاً عما يقيم الأود ويعيل الأسرة ويفي الديون. والسبب بسيط: إن جوزف رجل حرّ. وقد كان عبقرياً في التحايل على ما تنطوي عليه مسؤولياته التحريرية من قيود ومحرّمات

استخدم جوزف طويلاً كنية الضفّتين للإلحاح على ضرورة الخيار بين معسكرين
بدماثته الفائقة، لكن على حساب أعصابه ـــــ وقلبه! ـــــ إلى أن لا يعود يطيق الحدود المفروضة عليه، فينفجر مرة واحدة ويغادر. وأما البعض الآخر من التحولات في مواقف جوزف ـــــ التي وصفها صديق آخر له هو محمود درويش بـ«تقلّبات» في رثائه له ـــــ فتقع في باب التجربة والخطأ. والموقف من عهد أمين الجميل واتفاق ١٧ أيار واحد منها.
لم أكن أشير إلى تحولات جوزف السياسية عندما تحدثت عن ولعه بلعبة المجادلة وإثبات الشيء وعكسه. كنت أفكّر بعادة يمارسها في النقاشات الشفوية تدلّ عميق الدلالة على ذكائه ومقدرته الجدلية. مع ذلك، أقول: نعم، مارس جوزف الإقناع بالفكرة ونقيضها في كتابته الصحافية. هذان مقالان عن ميشال عون و«التيار الوطني الحر» تفصل بينهما ثلاث سنوات. الأول يُقرأ من عنوانه: «بول بوت عون» (السفير، ١٩ تشرين الأول ٢٠٠٣) يشبّه فيه جوزف الجنرال بالزعيم الدموي للحزب الشيوعي في كمبوديا، مرتكب مجازر الإبادات الجماعية الموصوفة فيها. ويزيد عليه باتهامه بالعمالة، فيدرج عون في سلالة قرضاي وأحمد الجلبي. وقائد «التيار الوطني الحرّ» في هذا المقال صاحب «وعي خرافي»، نصه السياسي «توتاليتاري مغلق»، يحتقر المواطنين الذين يتلاعب بهم منذ ٢٧ عاماً. ويخلص جوزف إلى التنبيه من أن عون «كائن ضارٌ سياسياً». النص الثاني عنوانه «الخصوصية العونية» (الأخبار، ١٦ تشرين الأول ٢٠٠٦) يصير فيه الخرافي الذي يحتقر المواطنين لاعباً لدور قيادي ضمن البيئة المسيحية من خلال تمثيله الصادق للطبقات الوسطى المسيحية في مطالبها الديموقراطية والحداثية والنسوية. وإذا قرين قرضاي وأحمد الجلبي في العمالة ينقلب سيادياً، بل وطنياً نجح في أن يعمّم موقفه ضد «العدو الإسرائيلي» على كوادر «التيار» وأعضائه والجمهور الأوسع. ولا يتردد جوزف في تأييد ميشال عون في دفاعه عن «البيئة المسيحية» ضد استئثارية الفريق الحاكم (السنّي، على ما افترض) على اعتبار أن ذلك ليس بالموقف الطائفي إلا في معناه الإيجابي.
وبعد، أليس جوزف مقنِعاً في الحالتين؟!
* كاتب وأستاذ جامعي لبناني