في كتابه «الهويات القائلة» يكتب أمين معلوف حول ما يعتبره «تبدّل الهويات والانتماءات»: «لو طلب من رجل في الخمسين من العمر يقطن في ساراييفو (وهي عاصمة البوسنة والهرسك) تحديد هويته لأجاب فخوراً «أنا يوغسلافي»، ولو تحدّد السؤال، لأوضح بأنه يعيش في جمهورية البوسنة والهرسك الفدرالية وأنه ينتمي عرضاً إلى عائلة مسلمة».
ثم يضيف: «لو التقينا الرجل نفسه، بعد اثني عشر عاماً، حين كانت الحرب على أشدها، لأجاب عفوياً وبعزم لا يلين: أنا مسلم، ولعله قد أرسل لحيته تطبيقاً لتعاليم الشريعة، ولأضاف على الفور أنه بوسني، ولما استساغ مطلقاً أن يذكره سائله باعتزازه السابق بجنسيته اليوغسلافية».
في كتابه «الهويات القائلة» يكتب أمين معلوف حول ما يعتبره «تبدّل الهويات والانتماءات»: «لو طلب من رجل في الخمسين من العمر يقطن في ساراييفو (وهي عاصمة البوسنة والهرسك) تحديد هويته لأجاب فخوراً «أنا يوغسلافي»، ولو تحدّد السؤال، لأوضح بأنه يعيش في جمهورية البوسنة والهرسك الفدرالية وأنه ينتمي عرضاً إلى عائلة مسلمة». ثم يضيف: «لو التقينا الرجل نفسه، بعد اثني عشر عاماً، حين كانت الحرب على أشدها، لأجاب عفوياً وبعزم لا يلين: أنا مسلم، ولعله قد أرسل لحيته تطبيقاً لتعاليم الشريعة، ولأضاف على الفور أنه بوسني، ولما استساغ مطلقاً أن يذكره سائله باعتزازه السابق بجنسيته اليوغسلافية».
في لبنان، يكاد لا يخلو أي حديث أو أي موقف سياسيّ من نسبه وبالتالي تقييمه تبعاً للانتماء الطائفي والمذهبي للمتكلّم. وقد بدأ هذا السلوك في الظهور إلى العلن والانتشار منذ عام 2005، وتحديداً بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري وتبدّل التحالفات وإعادة تموضع المتاريس الطائفية والمذهبية بعد دخول لبنان فعليّاً في قلب لعبة ما يسمّى الشرق الأوسط الجديد الذي لا تزال الولايات المتحدة الأميركية تحاول تطبيقه ورسمه مستخدمة بعض القوى والتيارات الحليفة أو التابعة. هذا السلوك، ما لبث أن تكرّس وترسّخ أكثر بعد سلسلة الأحداث السياسية التي شهدها لبنان بدءاً بالموقف من المحكمة الدولية مروراً بالموقف من حرب تموز لجهة الوقوف مع المقاومة أو تحميلها مسؤولية الحرب، مروراً بأحداث 7 أيار والاختلاف حول أسبابها، بالإضافة إلى الانقسام العمودي من الحرب على سوريا وصولاً حتى يومنا هذا. من هنا، أصبح لكلّ طائفة أو مذهب إطاراً معيّناً يحدّد انتماءها وهويتها وموقفها المعروف أو المفروض سلفاً على أبناء هذه الطائفة أو تلك أو على هذا المذهب أو ذاك. وهذا السلوك، ما لبث أن أدى إلى انتشار وتعزيز ثقافة مذهبة الانتماء، بمعنى أنه بات لكلّ طائفة موقفها السياسيّ، وإذا كانت الطبقة السياسية قد رسمت هذه الثقافة أو فرضتها من خلال الاصطفافات فهي بدأت تترسّخ في نفوس الناس وفي معتقداتهم حتى أضحت الطائفة هي المحرّك لمواقفهم السياسية وهويتهم الفكرية. على سبيل المثال، يعتقد السنّة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري أنهم فقدوا زعيم الطائفة الذي كان يحميهم ويحمي وجودهم في الدولة، ما جعل قسماً كبيراً من أبناء هذه الطائفة يعتبر أن الأخيرة تعيش في فراغ يهدد وجودها ولا تمتلك زعيماً قادراً على حمايتها أسوة ببقية الطوائف، وبالتالي فهو مهددٌ ومعرضٌ للغبن ما يحتّم تأييد مواقف وسياسة القيادات الأساسية في الطائفة السنية وإن كانت خاطئة أو لا تشبه تاريخه.

قد يرى البعض أن
غياب الدولة هو السبب المباشر لارتباط الناس بفكرة زعيم الطائفة

من هنا، استطاع السياسيون في الطائفة السنية، ونتيجة لتبدّل تحالفاتهم السياسية بما يقتضي مع مصالحهم الحزبية والفردية، نقل الشارع السني، مستفيدين من الأخطاء عند الطرف الآخر، بغالبيته من كونه مناصراً للمقاومة ولخط المقاومة إلى متلقّ للخطاب المذهبي الضيّق حتى وصل البعض إلى تبنّي وتبرير وجود الظواهر المتطرفة كونها باعتقادهم تقف في وجه ما يسمنوها الهيمنة الشيعية المتمثلة بالمقاومة، والتي برأيهم انتهى دورها بعد تحرير الجنوب عام 2000.
هذا التغيّير، جعل كلّ من يتمتّع برأي يختلف عن «الرأي السنّي العام»، يعتبر في نظر أبناء الطائفة خارجاً على المألوف، أو في حالات التطرف مذنباً بحق طائفته وربما متآمراً عليها. ومن جهة أخرى، يعامل الطرف الآخر المعني اليوم هذا «السنّي المقاوم» كظاهرة استثنائية حدّ المغالاة كونه بنظرهم يمشي عكس تيّار طائفته، ولم ينجرّ للعصبية المذهبية والطائفية ما يستدعي البحث في ما يعتبرونه مسبّبات وجذور هذا الموقف. وفي كلتي الحالتين، تتمّ مذهبة الانتماء في حين أن الانتماء إلى الأرض هو خيار طبيعيّ لا يجب أن تبدّله سياسة زعيم أو تخبّط طائفة. هذا الواقع يقود إلى المساءلة والبحث وفي مسألة الانتماء عند اللبنانيين. فهل هو انتماء إلى الوطن، أم الأمة، أم الدين؟
يكفي استعراض سريع في فصول التاريخ الحديث ليتبيّن أن الشعب اللبناني يعاني من مشكلة حقيقية في مفهوم الانتماء للدولة، الوطن. فالشارع الاسلامي، لطالما اعتبر نفسه قبل اندلاع الحرب الأهلية غير ممثّل ومضطهد من قبل ما كان يعرف بالمارونية السياسية، في ظلّ عدم وجود قيادة أو زعامة فعلية تحميه وتدافع عن حقوقه بحسب منطقه. من هنا، عرف المسلمون بانحيازهم إلى القوى والحركات القومية أو الشخصيات العروبية وربط مصيرها مباشرة بقضايا هؤلاء. فمع ظهور القائد العروبي جمال عبد الناصر، وجد الشارع المسلم، السني تحديداً، ملجأ في ظل ما يعتبره ضعفاً أو فراغاً في القيادة. وبعد استشهاد ناصر، وجد المسلمون أنفسهم ينحازون للمقاومة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي خصوصاً في الحرب الأهلية. في تلك السنوات، تبنّى المواطنون جميع شعارات هذه الحركات وصولاً الى اعتبارها قضيتهم المباشرة التي تستحق النضال ولو على حساب المصلحة الوطنية البحتة، فكان الارتباط بالأمة التي تحاكي هموم الطائفة هو الغالب على مرّ التاريخ حتى يومنا هذا.
ومن الاضطهاد في الشارع المسلم الى المارونية السياسية والشعور عند غالبية الطائفة المسيحية أن وجودها بخطر في لبنان. وتحت هذا الشعار، كان التبرير لكلّ الممارسات والجرائم التي ارتكبت في الحرب الأهلية اللبنانية وفي ارتباط غالبيتهم مباشرة بدول أجنبية قدمت نفسها على أنها حامية لهم. مبدأ الخوف الوجوديّ عند المسيحيين لا يزال قائماً حتى اليوم، وإن هو مبرّر في ظل استفحال الخطر التكفيري؛ غير أن انحياز قسم من المسيحيين للخطاب الطائفي والمذهبي الضيّق من بعض القوى المسيحية الذي يتّخذ «الدفاع عن حقوق المسيحيين» كعنوان للتغطية في استحقاقات كثيرة على المصالح الحزبية والفردية، وتبّني مطالب وسياسات من يدّعي النضال لأجل هذه الحقوق ولو على حساب المسيحيين أنفسهم ووجودهم على المدى البعيد ليس إلا دليلاً على انتماء جزء من الشعب اللبناني للطائفة أو ما يعرف بـcommunity وللزعيم دون التنبّه وكما تمّت الإشارة سابقاً إلى مخاطر بعض السياسات والخطوات الانفعالية غير المحسوبة على مستقبل الطائفة والوطن. من هنا، فإن أيّ رأي مسيحيّ مختلف ويأخذ الطابع الوطنيّ العروبيّ القوميّ يعتبر استخفافاً وحياداً سلبيّاً في قضية الوجود عند الغالبية المنساقة تحت شعار «حماية الطائفة» والتبعيّة لدولة إقليمية ما، واستثناء عند الشارع الاسلامي الذي يتجاهل أن القومية العربية وأولى المقاومات أسسها المسيحيون المشرقيون العرب.
أمّا في المقلب الشيعي، وبعيداً عن الشقّ المقاوم الذي يجب أن يعني مباشرة جميع اللبنانيين، فبدورهم، لطالما اعتبر الشيعة أنفسهم يعيشون في حرمان من أدنى وأبسط حقوقهم، ما دفع بالإمام المغيّب موسى الصدر إلى تشكيل «حركة المحرومين» وبداية ارتباط الطائفة بقيادته، ومن ثمّة بقيادة المقاومة السياسية والعسكرية بسبب معاناة غالبية أبناء الطائفة من الاحتلال الاسرائيلي وصولاً إلى الهجمة التكفيرية عليهم اليوم، ما دفع بغالبية أبناء الطائفة إلى إعلان الولاء التام للقيادات الأساسية التي بنظر مجموعة لا بأس بها من الناس الذين لا يرتبطون بها عقائدياً أو سياسياً، يعتبرون أنها تحمي وتدافع عن وجودهم. وعلى الأثر، ترفض الغالبية الشيعية أي رأي سياسي خارج دائرة القيادات التقليدية الموجودة اليوم، وتعتبره خروجاً عن المعترف به والواجب، وفي بعض الأحيان ارتهاناً لقوى أجنبية على حساب وجود الطائفة. يعاني لبنان منذ نشوء كيانه من مشكلة الانتماء ومفهوم المواطنة، وهي قضية تحتاج إلى الكثير من الدراسات والتحليل في ما يخصّ توارث الأجيال على مرّ السنين لهذه الظاهرة. قد يعتبر البعض أن غياب الدولة هو السبب المباشر لارتباط الناس حدّ التبعية بفكرة زعيم الطائفة المنقذ، أو الأمة على حساب الوطن، إلا أن هذا الواقع ليس إلا نتيجة لانتشار وترسّخ هذه الثقافة التي كرّست الطائفية منطلقاً للمواقف وللقناعات السياسية والفكرية ما أدّى إلى مذهبة الانتماء ضمن المتاريس الطائفية التقسيمية القائمة اليوم.
* أستاذة جامعية