برع السياسيون في لبنان في التهويل والتحذير من «الفوضى الخلاقة» بعد التظاهرات التي بدأت في 22 آب الماضي، والتي بلغت ذروتها في الـ29 منه، فيما بلغت ذروة الفجور في محاولة قمعها في الـ16 من أيلول. وكالعادة اتفق الطائفيون على ألا يسمحوا للشعب بأن يتّفق على أي شيء، حتى في موضوع النفايات! وهوّلوا بـ«ربيع عربي» يقضي على ما بقي من «الجمهورية» التي بُنيت على باطل. وما بُني على الباطل هو باطل.
إن فساد طبقة سياسية حوّلت مصدر رزقها من خوّات الميليشيات الطائفية أثناء الحرب الأهلية الى هدر المال العام الذي مصدره الشعب بجميع فئاته، هو مسألة لا غبار عليها. وهو حقيقة لا تحمل في طياتها أي شك. ولا ريب في أن فساد هذه الطبقة لا يضاهيه سوى تراكم النفايات بين البيوت وفي المكبّات «العشوائية» التي ستجعل من بلاد الحضر مضراً كبدو العربة. أما الغريب، فهو قلّة من السياسيين الذين لم تتلطّخ أيديهم بالسرقات، لكنهم غير مستعدين لبناء دولة حديثة مدنية قوامها الوطن، لا الطوائف ولا المذاهب، قوامها الدين - الرسالة، لا المرجعيات الدينية في الوطن، ولا المرجعيات الدينية الإقليمية والغربية، ولا رؤساء الأحزاب الطائفية التي تبيع وتشتري أتباعها لتسترزق من عمولة إقليمية أو غربية؛ مادية أو غير مباشرة.
صحيح أنه لا يجوز التعميم بالقول إن الجميع سواسية في الفساد، لكن المسؤول غير الفاسد من الطبقة السياسية ليس مستعداً للوقوف ضد فسادها، علماً أنه لا بأس أن نكون «طغاة على المفاسد»، وإن لم نكن طغاة على المفسدين. الأكيد الآن أن جميع الطبقة السياسية المتحكمة في مفاصل ما يسمّى "الدولة اللبنانية» (الفاسد منها وغير الفاسد) ليس مستعداً لتغيير جوهري في بنية النظام، تغيير يحصّنه من حروب أهلية جاهزة متى أرادت المرجعيات الخارجية (دينية أو دولية) إشعالها، ومن فسادٍ محتوم، حيث لا عدالة اجتماعية ولا إنصاف في العمل بوجود نظام طائفي مرجعيته المؤسسات الدينية (وهذه مرجعها خارج حدود الوطن) أو رؤساء الأحزاب الطائفية. وهل وجود عضو مسيحي في حزب محمدي أو عضو محمدي في حزب مسيحي، يجعل من هذه الأحزاب غير طائفية؟ وهل بذلك لا يبقى المواطن يقتات بفتات رؤساء الأحزاب الطائفية والمرجعيات الدينية؟ إن المواطَنة ومرجعية «الوطن» أو «الدولة» التي يراها الطائفيون وتجار الهيكل ترفاً فكرياً ويسمون أتباعها آدميين حمقى، هي الانتماء الوحيد الصحيح. وهو الانتماء السائد في الدول التي تتغنّى بها «الطبقة السياسية» في بلادنا.
لا شكّ في أنّ الفساد درجات. ولا ريب أن الفساد بالمطلق، مصدره فاسدون كباراً وصغاراً، ولكن كما يقول المثل: إن الساكت عن الحقّ هو شيطان أخرس. وما يُسمى الطبقة السياسية (الفاسد منها وغير الفاسد) لا تريد تغيير نظام الملل الموروث من الاحتلال العثماني، لا تريد رداءً جديداً، بل تريد حياكة العيوب في رداء رث.
أين المحظور في استقالة الحكومة؟ إن جميع حكومات لبنان هي «تصريف أعمال» الى حين «اتفاق الدول الكبرى والإقليمية». ولماذا «تشريع الضرورة» و«الضرورات تبيح المحظورات» و«تعديل الدستور لمرة واحدة فقط فيما يعدّل مرات بما يناقض نفسه»، يكون فقط حين يتّفق رؤساء الأحزاب الطائفية على مصلحة وإرادة الشعب؟ أليس معيباً في القرن الـ21 قيام ثورة شعبية بسبب نفايات عائدة لخمسة ملايين نسمة (عملياً لأقل من ثلاثة ملايين مقيمين في محافظتي بيروت وجبل لبنان)؟ أليس منطقياً عدم الاتفاق على رئيس للجمهورية، فيما يغدو الاتفاق على خطة للتخلّص من النفايات مستحيلاً؟
لا يمكن لـ«الطبقة السياسية» التهويل لإبقاء نظام الملل أو أن البديل الوحيد هو «ربيع عربي» بما يحمله من جاهلية وجهل مطبق. ثمة خيار ثالث، ندعو المخلصين وغير الفاسدين العمل على ألا يكونوا «شمشونيين»، فيسقط الهيكل على الجميع.
إن خطوة الألف ميل يجب أن تبدأ بخطوة. والخطوة الأولى هي أولوية إجراء انتخابات نيابية على أساس النسبية خارج القيد الطائفي. أما الخطوات التفصيلية المرافقة للحراك (بما فيها استقالة وزير) فتبقى ثانوية مقارنة بالهدف الأساسي: المباشرة العملية لإلغاء الطائفية في لبنان عبر انتخابات نيابية كما تقدّم. ختاماً، لسنا من دعاة «بدنا نعيش بلبنان»، بل من دعاة «نريد أن نحيا في لبنان». فـ«في الحياة من المعاني ما لا وجود له في العيش».

*باحث لبناني