راهن الغرب على الفوضى الخلاقة لتحقيق أهداف جيوسياسية في المنطقة العربية والعالم، إلا أن هذه الفوضى قد حوّلت العالم الى عالم مضطرب. عالم تحكمه الضبابية وعدم الاستقرار، والصراع مستمر وتداعياته اصبحت تطاول دول الاقليم والعالم، وينقلب السحر على الساحر! فقوة الولايات المتحدة تتراجع ونفوذها يتضاءل، والتحولات الحالية قد تؤسس لولادة عالم متعدد الاقطاب.
أدركت الولايات المتحدة مخاطر المرحلة وأن قدرتها في تضاؤل مستمر، فالهلع حول النوايا الروسية والصينية دفعت ريتشارد سلمون لقيادة فريق من مؤسسة «راند» لوضع اطار للتعامل مع مجمل الازمات (اعادة التفكير الاستراتيجي)، والهدف تعزيز قدرة الولايات المتحدة في العالم والاستمرار في السيطرة وتوسيع النفوذ.
تأتي هذه المراجعة واعادة التفكير الاستراتيجي بعد الفشل الاميركي في اكثر من أزمة ومكان في العالم وبالأخص اوكرانيا، وسورية وكوريا الشمالية. وتراجع منسوب القوة الاميركية وظهور تحديات كبرى للولايات المتحدة منها الخطر الصيني والروسي وحرب «السايبر».
تكمن خطورة هذه المراجعة، كونها ترحّل مجموعة من الازمات ومنها الازمة السورية (الحرب على سورية) الى ما بعد الانتخابات الاميركية عام 2017، أي الى الادارة الجديدة. وهذا يعني ان جميع المشاورات والمبادرات لن تصل الى أي نتيجة كونها تهدف فقط الى تعبئة الوقت، وإن الولايات المتحدة ليست جادة في الحرب على الارهاب او الايعاز الى الدول الوكيلة بإيقاف الحرب على سورية، الا في حال الوصول الى تسوية بالمفهوم الاميركي كما هي الحال في لبنان والعراق، أي المحاصصة الطائفية.
كما تدل المعطيات في الوثائق المسربة إلى ان الولايات المتحدة سوف تسعى الى تقليص وانهاء نفوذ «داعش» في العراق والتحضير لحرب «شيعية سنية» في العراق، حيث يتلاقى هذا الهدف مع مشروع بناء حلف جديد ضد ايران، كما عبّر عن ذلك مارتن اندك، على ان يستمر تنظيم «داعش» الارهابي في سورية، الى ان يتخذ الرئيس الجديد القرار المناسب.
في التعامل مع إيران والصين وروسيا، تضع الدراسات الاولية الخيارات ما بين الوصول الى تسويات تضمن مصالح الولايات المتحدة من خلال الدبلوماسية والقوة الناعمة، وصولاً الى خيار استخدام القوة الصلبة والضربة النووية الاستباقية لتأمين مصالحها ونفوذها.
كما يركز مشروع اعادة التفكير الاستراتيجي في ثورة الاتصالات وحرب «السايبر» والاعلام الجديد أي التحديات الكبرى المُرحّلة للرئيس الجديد مع تزايد دورها الفعال في اطار الحرب الناعمة.
الخلاصة: خلال الاربع سنوات السابقة أفشلت سورية المشاريع الاميركية، ومنها مشروع الشرق الاوسط الجديد، وفشلت مشاريع الولايات المتحدة في اكثر من منطقة في العالم، وهذا ما دفعها الى اعادة التفكير الاستراتيجي.
الا ان الخطورة في ما يتعلق بسورية كون ذلك يؤشر لإطالة الحرب واستنزاف البلاد، وهذا يحمل معه مخاطر كبيرة على المستويات كافة، في اطار استمرار الرهان الاميركي على الانهيار الاجتماعي في سورية.
وهذا ما يفسر تباكي الغرب على اللاجئين السوريين وتشجيع الهجرة غير الشرعية كونه يصب في إطار تحويل الانظار عن السبب الاساسي لمأساة السوريين، ويشتت الانتباه عن الدور الغربي المتنامي في دعم التنظيمات الارهابية من «داعش» الى «النصرة»، اضافة الى السعي لتفريغ سورية من سكانها، وصولاً الى انقاذ اقتصادات دول القارة العجوز من خلال القدرات السورية الخلاقة والمُهجرة قسراً بالإرهاب المدعوم غربياً.
ان المرحلة المقبلة تتطلب اتخاذ اجراءات على مستويات عدة لمواجهة التحديات الداخلية منها، والتي تتلخص في دعم الجيش وتقوية الاجهزة الامنية وتطوير آليات التعامل مع أمن المعلومات وحرب «السايبر»، وصولاً الى إعادة هيكلة بعض المؤسسات وتخفيف تداعيات الحرب التي طاولت شرائح المجتمع السوري من خلال مراجعة الخطط بشكل مستمر، وتطوير الاساليب لإدارة الازمات على المستوى المتوسط والطويل لتأمين الخدمات الاساسية وتعزيز مقومات المواجهة في ظل ظروف الحرب.
على المستوى الخارجي، لا بد من وضع اطار استراتيجي مع الحلفاء لمواجهة التحديات المشتركة، من خلال دعم الجيش والدولة السورية لتطهير المناطق الرئيسة من المجموعات الارهابية، ودعم الاقتصاد السوري الذي يتعرض لضغوط كبيرة.
كما ان الاطار الاستراتيجي لمواجهة المرحلة المقبلة يتطلب تعاوناً سورياً عراقياً، والعمل على اعادة توجيه الدور المصري، أي الوصول الى تحالف سوري عراقي مصري لمواجهة التحديات المشتركة وحماية مسارات الامن القومي العربي.
صحيح أن العالم يمرّ الآن بمرحلة خطرة، وتفاقم الصراع في اكثر من منطقة هو ما يميز هذه المرحلة من تاريخ المنطقة والعالم، في ظل تراجع منسوب القوة الاميركي وهلع الدول الاقليمية الوكيلة من هذا التراجع، وسعي الدول الصاعدة الى تثبيت قواعد جديدة لإدارة العالم، الا انها فرصة تاريخية لسورية لهزيمة ما تبقى من قوى الظلام واغلاق الفصل الاخير من الحرب بعد ان استنفذت وسائل العدوان وبدأت التداعيات تطاول حلفاء واشنطن.
انها فرصة لروسيا الاتحادية أيضاً، والثبات والدعم القومي والمتنامي لسورية من قبل روسيا الاتحادية يؤشر الى ان الرئيس بوتين والقيادة الروسية لن تعطي الولايات المتحدة الوقت اللازم من اجل اعادة التفكير الاستراتيجي وترميم الخطط من اجل الهيمنة على المنطقة وتطويق روسيا. والاحداث تدل على ان بوصلة المنطقة تسير في الاتجاه الذي فرضته سورية ومحور المقاومة، وما على الادارة الاميركية الا الرضوخ للأمر الواقع.
ويبقي الرهان على شعب وجيش اسطوري، وعلى انتصار المشروع القومي العربي الذي يقوده الرئيس الاسد، فحتمية التاريخ والجغرافيا تبشر به.
سورية غيّرت العالم وأسست من خلال صمودها لملامح عالم جديد، أسقطت المشاريع الغربية وبقيت عصية على السقوط... فالمشاريع الغربية ليست قدراً بل تألق سورية واستمراها هو القدر بعينه.
* باحث سوري