وائل عبد الفتاحكالعادة، القاهرة تحت الحصار يوم ٦ نيسان. وكالعادة أيضاً، أفرجت النيابة عن محمود عزت، النائب الأول لمرشد جماعة الإخوان المسلمين، وبصحبته قيادات، أشهرهم عصام العريان. عادات نظام مبارك لا تتغير. الأمن يقود ويحكم ويعقد الصفقات. لا سياسة. «سيطرة» تحميها مؤسسات فارغة.
قانون الطوارئ مستمر منذ ٢٩ سنة متواصلة. ومدير أمن العاصمة رد على الطلب الرسمي بمسيرة نيسان بإجابة مقتضبة: «الظروف الأمنية لا تسمح»، وتحذير: «أحمّلكم المسؤولية». وأخيراً بحزام أمني أصبح كلاسيكياً في حياة المصريين.
الإفراج عن قيادات الجماعة جاء في السياق نفسه. لم تكن التهم واقعية. كانت شداً وجذباً في مناوشات بين الجماعة والنظام، تسمى صفقة عند خصوم الجماعة ومناورة عند مؤيديها. الجماعة نقلت أرض المناورة بعيداً وأجرت مفاوضات مع كل الأحزاب «الشرعية». محاولة البحث عن قميص واق من رصاص النظام تدخل به الجماعة انتخابات البرلمان. الأحزاب تبحث عن منشط الجماعة من دون آثارها الجانبية. والحزب الوطني الحاكم وحده تماماً، للمرة الأولى، ضد المطلب العمومي بتعديل الدستور.
هكذا يبدو الحراك السياسي في مصر، هو محاولة ملء الفراغ الذي صنع منه النظام مؤسسات دولته. الأحزاب موجودة لكنها منزوعة الفعالية. والجماعة محظورة لكن لها قاعدة شعبية. والأمن مسيطر لكن صدمة البرادعي تربك حساباته بدرجة ملحوظة.
الأمن يقود لأنه يملك ملفات ويتتبع شبكة علاقات كل من يعمل بالسياسة. شبكة البرادعي غير مرصودة، وهذا مثير للقلق والانفعال.
الأمن لا يملأ الفراغ، يحرسه فقط. والنظام ماض في طريق الدفاع عن معجزته: الحكم بالمؤسسات الفارغة. سيلغي غالباً حال الطوارئ، لكن بعد أن يثبتها بالدستور ويحوّل «كمائن الليل» المؤقتة إلى «نقاط ارتكاز أمنية دائمة». المؤقت سيصبح دائماً في حرب الدفاع التي يخوضها النظام على طريقة الديناصورات في صيحاتها الأخيرة.
الفراغ يمنح للديناصور فرصاً إضافية للاستمرار. يمنحه شرعية، رغم أنه ليس لدى النظام خطابات للداخل ولا للخارج. ليس لديه أوراق سوى إيقاظ وطنية الستينيات بما تتضمنة من أبوة ولعب على عاطفة الانتماء للرئيس البعيد عن فساد حاشيته.
لماذا يريد النظام الاستمرار؟ لا إجابة سوى الاستقرار في ظل الرئيس/الأب. وهو ما يعني امتداد حال الجمود إلى سنوات أخرى تغلظ فيه الحواجز الأمنية لتحمي فراغ المؤسسات.
شرعية الفراغ لا تواجهها الآن سوى شجاعة اليأس، أو ما أسماه البرادعي في رسائل إلكترونية لمؤيديه: كسر حاجز الخوف.
التعبير قديم نسبياً، يرجع إلى ٢٠٠٥، حين ظهرت «كفاية» وحررت جزئياً الناس من خوف النزول إلى الشارع والاحتجاج الذي تحوّل إلى مطالب. وتلتها محاولة أيمن نور أن يلعب دوره في منافسة الرئيس على نحو أقرب إلى الواقعية، ونزل وطرق الأبواب وحصل على الأصوات ودفع الثمن في الزنزانة.
الآن مرحلة جديدة من كسر الخوف وتحدي «الظروف الأمنية» التي لا تسمح دائماً. البرادعي نزل إلى الشوارع في الحسين والمنصورة وصلى الجمعة وشارك في احتفال الكاتدرائية بعيد القيامة، ولم يستمع فقط إلى هتافات «ربنا معاك»، بل استمع أيضاً إلى شكاوى المصريين وصرخاتهم المبحوحة.
النظام/الديناصور شعر بالرعب من تكوّن شرعية خارج فراغه. شرعية تشبه توكيلات الضحايا للمحامين أو استغاثات الضعفاء بالأولياء. فبادر بهجوم على البرادعي من ٣ جهات: الأولى سياسية فنشرت «الأهرام» صورته بجوار السفيرة الأميركية في احتفال الكاتدرائية (نشرت الصورة من دون إشارة إلى اسم البرادعي). والثانية أطلقت مجموعة من فضائيات التخلف المتحدث باسم الدين واعتبرت إحداها أن التصويت للبرداعي أو تأييده هو حرب على الله ورسوله. أما الثالثة فهي اتهامه بالتحالف مع جماعة «الإخوان».
ثلاث رسائل مفخخة أطلقها النظام على استحياء، ليتحول كسر البرادعي للخوف إلى خوف من البرادعي نفسه، وخصوصاً أن هناك آثاراً جانبية لكسر حاجز الخوف من الخائفين أنفسهم، لأنه يرتبط غالباً بهستيريا الذين لا يصدقون أنهم يتحدون الطاغية ويكسرون عرشه.
هناك هوجة حول البرداعي ترفض المناقشة والتفكير وتدفع إلى اعتباره مسيحاً منتظراً ظهر بعد سنوات الخوف العجاف. وهذه أول الطريق إلى النهاية المبكرة لفرصته وتحويلها إلى بالون من الهيليوم سيطير بعيداً.
هذا المنطق مريح للنظام لأنه لا يعبر عن قوة، بل عن «هوجة ضحايا». والنظام محترف في التعامل مع هذه الهوجات لأنها تحارب الفراغ بالفراغ. ولا تخطط من أجل شرعية أو بناء قوى تحتية للديموقراطية، وهي الفرصة المتاحة أمام البرادعي أو أمام القوى المستقلة التي أحياها الأمل القادم من خارج الدائرة السياسية المغلقة. فرصة رسم الطريق إلى بناء قوى تحكم، لا مجرد الطريق إلى رئيس بديل لمبارك.
الهستيريا تحوّل اللعبة السياسية كلها إلى لعبة «بلاي ستيشن»، يموت فيها البطل على أسوار الديناصور.