سلامة كيلة *ما زالت الأزمة المالية العالمية في مركز الاهتمام، رغم كل التصريحات التي تصدر لكي تشير إلى تجاوزها، ورغم القرارات التي تصدر من أجل ضبط «مسبباتها» التي تتعلق بالفساد أو الروح المغامرة، أو غياب القوانين التي تضبط الفضاء المالي، ورغم الميل لتحميل البنوك أعباء الأزمة بفرض ضرائب عليها. وإذا كان السعي إلى تلطيف الوضع هو الذي يحكم سياسات الدول، أو كان السعي للتغطية على الوضع هو هدفها، فإن الأزمة تتوسع بدل أن تتوقف، وانعكاساتها تطال العالم كله. فقد طالت دولاً مثل اليونان بعد دبي، ويمكن أن تصل إلى إسبانيا والبرتغال وإيرلندا وحتى بريطانيا، وربما تعود لتطال الدولة الأميركية بعد الضخ المالي الهائل الذي حسب ديوناً على الدولة.
لا بد أولاً من أن نشير إلى أن الأزمة هذه المرة ليست أزمة «تقليدية»، أي ليست أزمة ككل الأزمات السابقة، وإن تشابهت في بعض المسائل. حيث إن الأزمات السابقة كانت تنطلق من الكساد، نتيجة فائض الإنتاج في السلع، والتنافس الشديد بين الشركات، وهو ما كان ينعكس على مجمل الاقتصاد الرأسمالي. لكن، رغم أن الرأسمالية تعاني أزمة فيض الإنتاج منذ ما يقارب الأربعة عقود، وبالتالي تعمق التطاحن بين الشركات، التي أفضت وتفضي إلى الإفلاس، فإن أساس الأزمة هذه المرة هو أعمق من ذلك، لأن الأمر يتعلق بكتلة هائلة من المال بات أمامها خيار وحيد هو المضاربة، كما باتت تضخّم من التراكم المالي وتعلي من الأرباح إلى حد بات يهدد الاقتصاد الحقيقي. وهنا أصبحت تمتص الفائض المالي لدى قطاع كبير من البشر، كما تهدد مداخيلهم، وهو الأمر الذي يقود إلى تراجع شديد في القدرة الشرائية، يعمّق من أزمة الشركات المنتجة (الصناعية والزراعية) وكل الشركات في الاقتصاد الحقيقي، حيث إن تراجع القدرة الشرائية سيقود إلى الكساد.
إن المسألة التي يجب أن نسترعي الانتباه هي هذه الكتلة المالية الضخمة، لأنها باتت أساس أزمة مستمرة، ولا حل لها لأنها أصبحت كذلك نتيجة «عجز» القطاع المنتج عن امتصاصها، فقد أصبح قطاعاً مشبعاً في إطار السوق الذي تسمح الرأسمالية ذاتها بتشكله. لقد أفضى النهب الذي تمارسه الرأسمالية (سواء نهب فائض القيمة أو نهب الشعوب) إلى أن يصبح التراكم المالي أكبر من مقدرة الاقتصاد الرأسمالي ذاته على أن يستوعبه في القطاعات المنتجة أو في الاقتصاد الحقيقي عموماً. لأنه لا إمكانية لزيادة الرأسمال الثابت. أو بصيغة أخرى، أصبح الرأسمال الثابت كافياً لإنتاج السلع الضرورية وأكثر. وبالتالي فإن أية زيادة في التوظيف في الإنتاج ستزيد من مشكلات فيض الإنتاج، وبالتالي إلى ميل معدل الربح إلى الانخفاض. كما أن أية زيادة في الأجور لا تفضي إلى زيادة مماثلة في الاستهلاك، وهو ما يعني إنقاص الربح. وربما دخول أموال جديدة في مجال الاستثمار، هي تلك الفوائض التي يمكن أن تدخرها الفئات الوسطى والتي تراكمت نتيجة ارتفاع الأجور.
ما توصل إليه أوباما لتجاوز الأزمة المالية، وعدم تكرارها، هو فرض الضرائب على البنوك وتفكيك المؤسسات الكبرى
وزيادة التوظيف في القطاعات المنتجة من أجل توسيع السوق عبر خلق مستهلكين جدد يقود إلى تعميق الاختلال القائم نتيجة فيض الإنتاج ذاته. لأن كل صناعة جديدة ستفرض وجود فيض إنتاج خاص بها، وهي عملية تفضي إلى تراكم السلع الكاسدة رغم توسع السوق. وهكذا يحدث كلما توسع الرأسمال الثابت، الأمر الذي فرض أن يصل التوسع الصناعي إلى حدوده القصوى، وبالتالي تشبع الرأسمال الصناعي. وهو ما ينعكس على كل القطاعات الأخرى في الاقتصاد الحقيقي.
من هنا نلمس السبب الذي قاد إلى نشوء تراكم مالي هائل خارج الاقتصاد الحقيقي. لكن كل مال لا يوظف يموت، هذا قانون رأسمالي، الأمر الذي فرض البحث عن «قنوات» لنشاط هذا التراكم. وسيكون نشاطه مالياً محضاً لأنه المجال الوحيد خارج الاقتصاد الحقيقي. لهذا كانت المديونية (ومنها مديونية البلدان المتخلفة) هي أحد أشكال النشاط المالي، وكذلك العقارات (وحتى الحروب). لكن ضخامة المال فرضت البحث عن سبل جديدة، وهو الأمر الذي جعل تحرير الفضاء المالي منذ السبعينيات مسألة لا بد منها، بل حتمية. مما أوجد فوضى مالية هائلة.
لقد تفجرت الأزمة نتيجة نشاط هذا المال بالتحديد، حيث إن المضاربة توجد تضخماً وهمياً في الأسعار، لكنه يدمر الاقتصاد الحقيقي. فكما أشرنا يمتص التراكم المالي لدى الفئات المتوسطة وكذلك الفئات الغنية في الأطراف، من جهة. ويقود إلى إفلاسات هائلة في البنوك، التي هي وسيلة الإقراض، وأيضاً في الشركات المنتجة التي تقترض مجاراة لوضعها الناتج من الكساد، حيث تفرض الأزمة كساداً أعلى يغرقها في المديونية.
إن المشكلة التي باتت تجعل الوضع أكثر سوءاً هي وجود التراكم المالي هذا. وهو الذي يجعل الأزمة مختلفة كلياً عما كانت عليه في الماضي. حيث لا حل لنشاط هذا المال ما دام من غير الممكن أن يوظف في الاقتصاد الحقيقي سوى أن يفرض نمطاً اقتصادياً يقوم على النشاط المالي الذي لا يجلب فائضاً (رغم أنه يجلب ربحاً هائلاً، و.. إفلاسات هائلة أيضاً)، وهو اقتصاد المضاربة. وبالتالي فإن كل الحلول المطروحة، والممكنة، ستكون عاجزة عن تجاوز الوضع الراهن. سواء حُمّلت الأزمة لمدراء البنوك، أو لأخلاق المضاربين، أو لنقص القوانين الرادعة، أو فرضت الضرائب على البنوك (كما يفعل باراك أوباما). فالمال لا يقبل الموت وحده وبإرادته، ولهذا سوف يستمر في إغراق الرأسمالية والغرق معها. فليس من خيار أمامه إلا أن يفرض تعميم اقتصاد المضاربة، وسيادة النشاط المالي كنشاط مركزي في النمط الرأسمالي. وهو الأمر الذي يقود إلى القول بأن الأزمة هذه المرة هي أزمة مستمرة، لا توقّف فيها كما كان يحدث في الأزمات السابقة.
إننا إزاء تراكم مالي بات عبئاً على الرأسمالية ذاتها، حيث لا يجد سوى النشاط المالي منفذاً له لكي يتراكم أكثر، بينما تتوسع الطبقات التي تنهار إلى ما دون خط الفقر، وتتوسع البطالة، وتتعمق حاجة الأمم المتخلّفة إلى بناء قوى منتجة، وهي تغرق أصلاً في الفقر والبطالة والتهميش. ولا شك في أن هذا التراكم المالي يمكن أن يحقق نهضة عالمية هائلة إذا وُظّف هناك، لكن ذلك يفترض تجاوز منطق الرأسمالية.
وكذلك يمكن التخلي عن هذا المال دون أن يهتز الوضع الاقتصادي، وربما من أجل تحقيق تطور أعلى فيه، لكن هذا يستلزم تجاوز النمط الرأسمالي ذاته، حيث إن الوضع الذي هو فيه هو نتاج لتكوينه، هو حالة طبيعية فيه، أكثر من ذلك هو حالة ملازمة له. فلكي لا يتشبّع التوظيف في الاقتصاد الحقيقي، ولا يتحقق تراكم مالي لا وظيفة له سوى المضاربة، ليس من الممكن سوى تجاوز الرأسمالية ذاتها.
* كاتب عربي