الذكرى السنوية العاشرة للانسحاب الإسرائيلي من لبنان هي ذكرى حدث جلل في أسبابه وتداعياته داخل لبنان وفي المحيط العربي وما يتعدّاه. أهمية دراسة التاريخ والإفادة من عبره تكمن ليس في الاطلاع على تسلسل الأحداث وتكوّن نتائجها، بل في المعرفة الدقيقة للأسباب والعوامل التي دفعت إلى تلك الأحداث وأدت إلى تلك النتائج
داوود خير اللّه *
كان الانسحاب الإسرائيلي القسري من لبنان عام 2000 بمثابة معجزة صنعتها جهود وتضحيات انتظمت في مخطط ونفّذت بإرادة لم يعرف لهما العالم العربي مثيلاً في العصر الحديث. كيف لنا أن نستوعب أن أضعف الدول المجاورة لإسرائيل وأصغرها وأكثرها عرضة لاعتداءاتها المتكررة منذ نشأة الدولة الصهيونية، تصبح أكبر مصادر المهابة والقلق لدى الدولة العبرية؟ بماذا نصف التحوّل في حياة المواطنين، وخاصة سكان القرى الحدودية في الجنوب اللبناني الذين أصبحوا يعيشون حياة طبيعية بعدما كان يحظّر عليهم الخروج من بلداتهم وقراهم بعد حلول الظلام لأسباب كانت إسرائيل تعتبرها أمنية. الآن أصبح باستطاعتهم أن يشربوا مياه أنهارهم وأن يأمنوا من دخول إسرائيل أراضيهم لاختطاف أو اغتيال من تشاء منهم بلا حسيب أو رقيب ولأسباب لا يعرفها أو يبررها سوى المسؤولين الإسرائيليين.
إرادة المقاومة وممارستها بفعالية هما العاملان الوحيدان اللذان يمكن أن نفسّر بهما التحوّل الهائل الذي حصل في حياة اللبنانيين. فبالمقاومة فقط تمكّن لبنان من تحرير معظم المحتل من أرضه، وكذلك جميع أسراه وآخرين من الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية. وبالمقاومة فقط استعاد لبنان استقلاله وسيادته على أراضيه. وبما أن السيادة في الداخل هي الاستئثار بالحكم الذاتي، وفي العلاقة بالدول الأخرى، في إطار النظام الدولي القائم، هي القدرة على حماية الحقوق والمصالح، فإن لبنان لم يسبق له أن مارس سيادة على أرضه منذ نشأة الدولة العبرية كما يفعل اليوم.

تسلّح المقاومة والاستقرار

تدّعي إسرائيل وأصدقاء لها في الخارج، وفي طليعتهم الولايات المتحدة، أنّ تسلّح المقاومة اللبنانية يقوّض الاستقرار في المنطقة. وللأسف، فإن هناك أصواتاً عربية ولبنانية تتبنّى هذه المزاعم الإسرائيلية وترددها. ولكن عكس هذه المزاعم هو الصحيح، وهو ما أثبتته وتثبته الأيام ويقرّ به مسؤولون إسرائيليون.
لبنان هو الدولة الوحيدة بين دول الطوق التي لم تشارك في الحرب ضد إسرائيل في عام 1967، وكذلك في عام 1973. وكان بعض القيّمين على السياسة اللبنانية يدّعي في حينه أن قوة لبنان تكمن في ضعفه. لقد أثبتت إسرائيل حماقة تلك المقولة، إذ لم يحصل أن عانت دولة عربية من دول الطوق ما عانى لبنان من اعتداءات إسرائيلية واحتلال وتدمير وتشريد. ولم يتوقف ذلك إلا نتيجة تضاعف القوة لصدّ العدوان والقدرة على رفع الكلفة لكل مغامرة عسكرية تقوم بها إسرائيل. فتسلّح المقاومة وتعاظم قوتها هما عاملا استقرار في العلاقة بين لبنان وإسرائيل وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً. ولنسمع مسؤولين إسرائيليين يقيمون الدليل على ذلك.

الحق في الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير يمثّلان الركيزة الأساسية في القانون الدولي للحقّ في المقاومة

نائب رئيس الأركان الإسرائيلي، بني غينتس، في مقابلة أجرتها معه القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 14/5/2010، يستبعد إمكان نشوب حرب في الشمال ضد سوريا ولبنان بالرغم من تشديده وتحذيره من أنّ «حزب الله تعاظم عسكرياً وعلى نطاق واسع، منذ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان»، ورأى أنّ «لا مصلحة لأي طرف بالتسبب بتصعيد الأوضاع الأمنية».
وبالرغم من حديثه عن استعداد الجيش الإسرائيلي للقيام بما يؤمر به، عاد وحذّر من مستوى التهديد الموجّه ضد الجبهة الإسرائيلية، ووصفه بأنّه «تهديد ملموس وجوهري جداً، وإذا لا سمح الله وقعت المواجهة، فلن تكون مواجهة عادية أو مترفة».
وفي السياق نفسه، كتب يؤاف ليمور، معلّق الشؤون العسكرية في صحيفة إسرائيل اليوم وهو يعتبر مقرّباً من المؤسسة العسكرية، «إن السبب المركزي في عدم وقوع الحرب هو الردع، الردع تجاههم وللأسف الردع تجاهنا أيضاً. فمع وجود أكثر من خمسين ألف صاروخ (في حوزة حزب الله)، ومنها المئات من الصواريخ القادرة على ضرب تل أبيب، يتضح كيف ستكون الجولة المقبلة». ويوضح أنها «عنيفة جداً في الجانبين، ما يدفع إلى الامتناع عن الأفعال والاكتفاء بالأقوال في هذه المرحلة، فهم يتحدّثون عن الانتقام لاغتيال عماد مغنية، ونحن نتحدّث عن ضرورة وقف تدفّق الأسلحة إلى لبنان».
وفي الإطار نفسه، كتب عوديد تيرا، وهو عميد احتياط في الجيش الإسرائيلي، مقالة تحليلية في الصحيفة نفسها (إسرائيل اليوم) حذّر فيها من القدرة العسكرية التي باتت في حوزة حزب الله قياساً بما كانت عليه قدرته في عام 2006. وأشار إلى «وجود تهديد ناري مكثّف موجه أيضاً إلى الجبهة الخلفية العسكرية، إذ لدى حزب الله قدرات من شأنها أن تربك تجنيد الاحتياط والاستعداد للقتال»، مضيفاً أن هناك «تهديداً ضد قواعد سلاح الجو، وضد المقار القيادية، وضد المنشآت اللوجستية في عمق إسرائيل». وحذّر الكاتب من «تعاظم كبير جداً في قدرة حزب الله، إذ زادت أمداء الصواريخ التي يملكها إلى حدّ أن تصل إلى أي نقطة مهمة في إسرائيل، وانطلاقاً من عمق الأراضي اللبنانية». هذا غيض من فيض مما يقوله ويكتبه مسؤولون إسرائيليون عن القدرة الردعية للمقاومة اللبنانية بالنسبة لدولة مدينة بوجودها للإرهاب والجرائم ضد الإنسانية، وتاريخها سلسلة اعتداءات على جيرانها وأعمال تهديد للسلم العالمي. فهل يعقل في ضوء كل ذلك الاستنتاج أن تسلّح المقاومة وزيادة قدرتها الردعية يمثّلان تهديداً للاستقرار كما صرحّت السيدة هيلاري كلينتون، ناظرة الخارجية الأميركية، في خطاب لها أخيراً أمام الجمعية اليهودية الأميركية؟ الواقع أنّ لبنان يتمتّع الآن بحالة استقرار وتدفّق سياحي وازدهار عقاري لم يعرفها منذ سنين، وذلك بفضل القدرة الردعية لمقاومته.

المقاومة والقانون الدولي

دأبت إسرائيل ومؤيّدون لها في عدوانها واحتلالها على محاولة تجريد كل حركة مقاومة لاحتلالها وظلمها من الشرعية القانونية. وللأسف، يشارك بعض الأنظمة الرسمية العربية في نشر الخطاب الصهيوني في خنق الحقّ العربي في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي. فجميع ما يقوم به الشعب الفلسطيني المقاوم من جهود جدّية للتحرر واستعادة الحقوق، هو مجرّد من الشرعية بنظر إسرائيل، والمنظمات التي تمارس تلك الأعمال أو تدعو لها هي منظمات إرهابية. ولم تسلم المقاومة اللبنانية من هذا التوصيف حتّى عندما كانت إسرائيل تحتلّ معظم الجنوب اللبناني، فيما مقاومة الاحتلال حقّ يكرّسه القانون الدولي وقد مثّل الركيزة الأساسية في حروب التحرير من الاستعمار ومن الاحتلال الأجنبي نتيجة الحروب العدوانية، نازية وسواها.
فعندما قرّر المجتمع الدولي أن يحرّم استعمال القوّة كوسيلة لحلّ النزاع بين الدول لفرط ما سبّبته الحروب من أهوال ومآس، أبقى على استثناء واحد فقط وهو شرعية استعمال القوّة في حال الدفاع عن النفس وكرّسه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وعندما شاء المجتمع الدولي أن يعبّر عن إدانته للاحتلال والاستعمار واستنكاره للسيطرة على الشعوب وخنق حرّياتها، جعل من حقّ الشعوب في تقرير مصيرها أحد المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها النظام العالمي. وقد كان للرئيس الأميركي ويلسون الدور الأهمّ في إعلان حق تقرير المصير وتكريسه بعد الحرب العالمية الأولى. ولكن يبدو أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ نشأة الكيان الصهيوني وحتّى يومنا هذا أمعنت في التنكّر لهذا الحق، وخاصة في ما يتعلّق بالحق في التحرّر من الاحتلال الإسرائيلي.
الحق في الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير يمثّلان الركيزة الأساسية في القانون الدولي للحقّ في المقاومة. فالاحتلال، وخاصة كما تمارسه إسرائيل، هو مزيج من تهجير وتدمير للبشر والحجر يشرّع ممارسة الدفاع عن النفس، وهو في آن استعمار وسيطرة على حريّات الشعوب وطرق حياتها، وبالتالي خنق حقّها في تقرير مصيرها.
المقاومة لرفع الظلم حق لكلّ مظلوم. ومناصرة المظلوم على الظالم واجب معنوي على جميع أحرار العالم. والمقاومة بما هي شكل من أشكال الدفاع عن النفس هي حقّ طبيعي، أي إنّها حقّ لكلّ كائن حي تشرّعه قوانين الطبيعة، وهو سابق في الوجود للدول وقوانينها. والمقاومة لاستعادة الحقوق أو الحفاظ عليها ليست بالضرورة اللجوء إلى العنف. فهي بالدرجة الأولى عمل إرادي يعبّر عنه بوسائل مختلفة، وذلك باختلاف الظروف التي تضمن فعاليّة هذه الوسائل. لكن بالنظر لبدائية النظام العالمي في الحفاظ على حقوق الدول والشعوب والذي لا تزال تغلب فيه شريعة الغاب، وفي غياب سلطة تتولّّى تطبيق القانون الدولي بما يحققّ الحدّ الأدنى من مبادئ العدالة، يصبح اللجوء إلى العنف في صدّ العنف ورفع الظلم أمراً طبيعياً، وربّما الوسيلة الوحيدة الباقية لإحقاق الحقّ. ولنقم الدليل على ذلك ولو من خلال مثال واحد من عشرات الأمثلة.
صدر في 19 آذار 1978 عن مجلس الأمن الدولي، الجهاز الأممي المولج الحفاظ على السلم العالمي والذي تصفه الدول المسيطرة عليه على الأقلّ، بأنّه مصدر الشرعية الدولية، صدر القرار الرقم 425 وهو يدعو إسرائيل إلى احترام السيادة اللبنانية ووقف جميع الأعمال العسكرية والانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية كلها.
الردّ الإسرائيلي على هذا القرار، الذي يعكس القانون الدولي ويفترض أنّه يعبّر عن إرادة المجتمع الدولي، كان الإمعان في العدوان على لبنان ومضاعفة أعمال القتل والتدمير فيه مدّة اثنين وعشرين عاماً، لجأت خلالها الولايات المتحدة إلى حق النقض (الفيتو) أربع عشرة مرّة لتحرير إسرائيل من التقيّد بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
وبالرغم من تحدّي إسرائيل الصارخ لمجلس الأمن وللعدالة الدولية، لم يتحرّك المجتمع الدولي لنصرة القانون الدولي وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، ولم يتحرّك المجتمع العربي بالرغم من قصف بيروت واحتلالها في عام 1982وهي أول عاصمة عربية تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي. في الواقع، لم يكن للقانون الدولي والشرعية الدولية سوى نصير وحيد هو المقاومة اللبنانية التي أجبرت إسرائيل على إطاعة القانون الدولي والانصياع لقرار مجلس الأمن بالانسحاب من الأراضي اللبنانية، وإن لم تزل المقاومة والسلطة اللبنانية تعتبران أنّ الانسحاب لم يتمّ من كل الأراضي التي يعتبرها لبنان ملكاً له.

ماذا بعد الانسحاب؟

تمكّن لبنان بفضل مقاومته من تحرير معظم أراضيه واستعادة أسراه وإجبار إسرائيل، لأول مرة منذ نشأتها، على الانسحاب بلا قيد ولا شرط من أراض عربية احتلّتها. ويبدو أنّ لبنان بفضل تسلّح مقاومته وجهوزيتها وقدرتها على فرض ثمن باهظ على إسرائيل إن قامت بعمل عسكري ضد لبنان، قد تمكّن من خلق حالة من الردع لدى إسرائيل، فأمن بذلك، إلى حدّ بعيد، المغامرات العسكرية الإسرائيلية التي اعتادتها في الماضي بالرغم من تهديدات الدولة الصهيونية المستمرّة. فهل يجوز للبنان أن يستكين الآن مطمئناً إلى حالة الردع العسكري التي نشأت بفضل تسلّح المقاومة وجهوزيتها، أو أن ينحصر جهده وجهد مقاومته بالتعبئة العسكرية سلاحاً وجهوزية للقتال؟ إنّ مثل هذه الاستكانة، هي من أفدح الأخطاء التي يمكن ارتكابها.
يجب ألا يغيب عن بال أي مسؤول أو صاحب قرار أو مواطن مهتمّ بالشأن العام أنّ العلاقة بين إسرائيل وضحايا مطامعها، محكومة بالمعادلة التي تحكم علاقة الظالم بالمظلوم، علاقة المحتلّ بالمحتلّة أرضه. فكلّ مظلوم يعمل المستطاع لرفع الظلم، وكلّ ظالم ومحتلّ يعمل على زرع ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع لدى المظلوم والمحتلّة أرضه. فليس لإسرائيل ما تخشاه أكثر من ترسّخ ثقافة المقاومة لدى المظلوم يمارسها بثبات وفعالية. وعندما يقول الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، إبّان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، إنّ المقاومة تمثّل خطراً وجودياً على إسرائيل، فليس في قوله مغالاة.
واهم من يتصوّر أن إسرائيل ستوقف حربها على لبنان بسبب تعاظم قوّة مقاومته أو أنّها ستوفّر جهداً أو تتخلّى عن عمل أو ارتكاب جريمة مهما كان وقعها أو ابتعادها عن الجائز خلقيّاً وقانونيّاً، إذا تصوّرت أنّ ذلك سيضعف المقاومة أو يربكها.
وإذا كانت المقاومة اللبنانية قد تمكّنت من الحدّ من خيار الدولة الصهيونية في اللجوء إلى السلاح في فرض هيمنتها على لبنان، فإنّّ لدى إسرائيل أسلحة وإمكانات هائلة لن تتوانى لحظة في توظيفها لبلوغ مشيئتها في إضعاف المقاومة والقضاء عليها. إنّ أفعل هذه الأسلحة وأفتكها هي الفتن الداخلية من طائفية ومذهبية وسواها. وأحرّ ما تتمنّى إسرائيل هو أن يتحوّل سلاح حزب الله إلى الداخل اللبناني وإغراق لبنان في حرب أهلية كما عاش لمدّة خمس عشرة سنة كان لإسرائيل في تسليحها وتعميق الخلاف بين أطرافها دور أساسي.
اللجوء المباشر إلى السلاح في شن الحرب أمر سهل إدراكه واتخاذ الإجراءات الملائمة بشأنه. لكنّ اكتشاف من هو وراء صناعة الفتن بما هي شحن المشاعر وتأجيج المخاوف والهواجس واستغلالها وتزوير الوقائع ليس بالأمر السهل، وخاصة إذا تدنّت درجة الوعي الاجتماعي، وكثرت عناصر الفتنة وأدوات تنفيذها، كما هو الوضع في لبنان والعالم العربي بعامة.
لإسرائيل مخزون هائل من القدرة في السيطرة على قرارات الدول العظمى، وفي طليعتها الولايات المتحدة، وعلى العديد من المسؤولين العرب وكذلك في الداخل اللبناني، أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، ولها حول في السيطرة على المنظمات الدولية وبخاصة في ما يتعلّق بقرارات مجلس الأمن، إن لجهة صدورها أو تطبيقها. هذا فضلاً عن سيطرتها على شبكة إعلامية ضخمة على مستوى عالمي. جميع هذه الإمكانات توظّف في خدمة المصالح الإسرائيلية كلّما اعتبرت إسرائيل أنّ لها مصلحة في ذلك.
لا يتّسع المجال هنا لأكثر من بضعة تساؤلات لتسليط الضوء على صحّة ما نقول. هل سبق أن حظي بلد بحجم لبنان بالاهتمام الذي لقيه هذا البلد الصغير من مسؤولين أميركيين دبلوماسيين وأمنيين؟ وهل يمكن من خلال كل النشاطات والتصريحات والتهديد والوعيد الذي صدر ويصدر عن مسؤولين أميركيين أن نقع على شؤون أميركية تبرر هذه الجهود أو أن نلحظ مصلحة أميركية، مهما كان نوعها، تتعدّى ما تعتبره إسرائيل مصلحة لها، وخاصة في ما يتعلّق بالمقاومة وسلاحها؟ وهل يمكن تجاهل ازدواجية المعايير في ما يصدر أو يردّ من قرارات للشرعية الدولية، أو ما يلاحق أو لا يلاحق من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية على الصعيد الدولي في كل ما له علاقة بإسرائيل؟
من الوهم التصوّر أنّ إسرائيل ستتوانى لحظة عن تفعيل كل إمكاناتها واستثماراتها السياسية، وخاصة في الولايات المتحدة وبعض الدول العربية، وفي الداخل اللبناني على وجه الخصوص، بغية القضاء على المقاومة أو إضعافها.
صحيح أنّ المقاومة اللبنانية قد تمكّنت من الحدّ من الخيارات الإسرائيلية في القيام بأعمال عسكرية، وبالتالي تعطيل نسبي لعمل السلاح المادي المنظور، لكنّ تعطيل السلاح الذي يستعمل في صناعة الفتن الداخلية، وهو أشدّ فتكاً وأبقى أثراً من أدوات العمل العسكري، يستلزم وعياً ونضجاً سياسياً وعملاً دؤوباً لكل أطياف المجتمع والنخب المثقفة، وخاصة الذين يتولّون منهم مسؤوليات في السلطة الحاكمة. ليس باستطاعة المقاومة وحدها هزيمة صانعي الفتن الداخلية، لأنّ هذه الحرب موجّهة إلى الذين يعانون تخلّفاً في الوعي السياسي والاجتماعي، تحرّكهم هواجس ومخاوف هي في الغالب من صناعة العدوّ. فما العمل؟
هناك الكثير الذي يمكن القيام به لتفشيل المخططات الإسرائيلية، إن بالنسبة لمفاعيل الضغوط الخارجية على لبنان، أو على صعيد تأجيج الفتن الداخلية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقع لبنان تحت ضغوط دولية مستمرّة، يتفاقم أثرها بسبب الاستجابات الداخلية لها، بشأن تسلّح المقاومة والزعم أنّ ذلك يمثّل خرقاً لقرارات الشرعية الدولية وتهديداً للسلم العالمي.
الموقف الرسمي والشعبي الحالي إزاء تلك الضغوط يشجّع على الإمعان في ممارستها. فمن جهة تتمسّك الحكومة في بيانها الوزاري بحقّ المقاومة، ويصرّح رئيس الدولة مثلاً يأنّه سيحمي المقاومة برموش العينين. ومن جهة أخرى، تتصاعد جعجعة داخلية وتعلو أصوات تتبارى في التشكيك بشرعية المقاومة وسلاحها، زاعمة أنّها تتعارض مع سيادة الدولة التي يفترض بأجهزتها الرسمية أن تستأثر في حمل السلاح وقرار استعماله بالرغم من الإدراك التام، والتجاهل التام، بأن الدولة بجميع أجهزتها الأمنية، لا تستطيع اليوم، ولم تستطع يوماً، الدفاع عن أرض الوطن وشعبه في وجه الاعتداءات والقدرات العسكرية الإسرائيلية. فتعطي بذلك إسرائيل والدول المؤيدة لها، والنافذة في المنظمات الدولية، المبررات لكي تصف المقاومة بالمنظمة الإرهابية الخارجة على القانون الدولي واتهام لبنان بالعجز عن القيام بواجباته كدولة مستقلّة، وبتقصيره في تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وبالتالي الاستمرار في ممارسة الضغوط عليه.
وفي المقابل، لو اتخذت الدولة موقفاً رسمياً واضحاً، كما فعلت في عهد الرئيس إميل لحّود، باعتبار المقاومة ومسألة تسلّحها جزءاً من الخطة الدفاعية الوطنية، لأنها كذلك فعلاً، ولأنها حقّ أساسيّ يحميه القانون الدولي الذي يعطي كل دولة الحق في الدفاع عن شعبها وأرضها، ولا يفرض عليها كيفية تنظيم قدراتها العسكرية، لو فعلت الدولة ذلك لكان اختلف الموقف الدولي بشأن المقاومة وبشأن الدولة وسيادتها.
ولا يجوز الادعاء أنّ موقف الدولة المتأرجح يحمي بعض مؤسساتها من اعتداءات إسرائيلية معيّنة، فالعكس هو الصحيح. ليس فقط لأنّ إسرائيل لم تلتزم يوماً بضوابط خلقية أو قانونية في عدوانها على لبنان إذا لاحت لها مصلحة في ذلك، بل لأنّ موقف الدولة اللبنانية هذا يعطي المبرر للتدخّل الخارجي بسبب اعتراف الدولة الصريح بعجزها عن القيام بالتزاماتها الدولية.
وعليه، فليس للتناقض في موقف الدولة والمسؤولين الرسميين بهذا الشأن سوى تسهيل مهمّة إسرائيل في مضاعفة الضغوط الخارجية على لبنان وتسهيل مخططات الشرذمة الداخلية وزرع الفتن وحصاد ريعها.
فضلاً عن ذلك، لو تبنّت الدولة بكل أجهزتها ومسؤوليها، وانطلاقاً من وعيها لواجبها في الدفاع عن الوطن وشعبه، ثقافة المقاومة والحق في التسلّح والتنظيم الملائم لممارسة حقّها في الدفاع عن النفس، وعملت على تبنّي خطة دفاعية فعّالة تشرك فيها جميع مواطنيها، لاكتسبت حقّاً أكبر في السيطرة على قرار الحرب والسلم وعزّزت من شرعية سلطتها ومؤسساتها عوضاً عن الانفصام القائم حالياً بين موقف مؤيّد للمقاومة وحقّها في التسلّح والدفاع عن الوطن وشعبه، وموقف يساعد إسرائيل ومن يريد بلبنان سوءاً في بلوغ مآربهم.

أثر تجربة المقاومة اللبنانية في المحيط

المقاومة اللبنانية، خياراً وممارسةً، كان لها وقع تعدّى الحدود اللبنانية، وما زالت تداعياته تتفاعل في إسرائيل وفي المحيط العربي والإقليمي. فعلى أثر الضربات الموجعة التي أنزلتها المقاومة بالقوات الإسرائيلية ودفعتها إلى الانسحاب القسري الأول في تاريخ الدولة العبرية، بدأ التساؤل في المحيط العربي عن المقاومة بديلاً لثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع وللإملاءات الإسرائيلية.
تقييم درجة الترابط بين نجاح المقاومة في ارغام اسرائيل على الانسحاب من لبنان وقيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد شهور أربعة من هذا الانسحاب قد لا يكون سهلا. لكنّ الاعلام الاسرائيلي وبعض المسؤولين ربط ولا يزال يربط بين الانتفاضة الثانية والانسحاب من لبنان. من جهة أخرى، نلاحظ أنّ التأييد المعنوي لهذه الانتفاضة من قبل حزب الله لم ينقطع. وربما كانت محاكمة بعض أفراد الحزب في مصر بتهمة تهريب السلاح الى المقاومين في غزّة تقدّم دليلا على تعاون يتعدّى التأييد المعنوي ويعزّز نظرية الترابط.
بقيت الشكوك تحوم حول قوّة المقاومة وقدرتها على الردع العسكري لاسرائيل والحدّ من طموحاتها، خاصة في مناخ من الخنوع العربي وانتشار طاغ لثقافة الهزيمة حتّى صيف العام 2006 حين شنّت اسرائيل حربها على المقاومة اللبنانية واستعملت فيها كل ما في ترسانتها ما عدا الاسلحة النووية وبعض الكيميائية، ولم تحقق أيّاً من أهدافها. فالجيش الذي قهر جيوش ثلاث دول عربية في العام 1967، واحتلّ مساحات شاسعة من أراضيها في مدّة ستة ايّام دون أن تطال الحرب بشكل جدّي الداخل الاسرائيلي، لم يستطع أن يحتلّ قرية لبنانية واحدة بالرغم من جهود وعمليات عسكرية مكثّفة في الجوّ والبحر والبرّ استمرّت ثلاثة وثلاثين يوماً لم يسلم خلالها الداخل الاسرائيلي من قصف المقاومة الصاروخي الذي لم يتوقّف، بالرغم من جميع الجهود الإسرائيلية لوقفه. وقد دفع ذلك معظم سكّان شمال اسرائيل امّا الى الملاجئ أو الى مدن في الداخل أو الجنوب الاسرائيلي التي لم تطلها صواريخ المقاومة في حينه.
تداعيات هذه الحرب في الداخل الاسرائيلي وأثرها في القدرة الردعية والصورة التي جهدت اسرائيل في نشرها بين الأصدقاء والأعداء في الخارج لا تزال تتفاعل جاعلة من المقاومة اللبنانية الهمّ الأساسي لأصحاب القرار في اسرائيل.
أمّا على الصعيد العربي، فقد هزّت تداعيات خيار المقاومة، وخاصة التجربة اللبنانية، حالة الشلل التي سادت العالم العربي، أقلّه منذ اتفاقية كامب دافيد بين مصر واسرائيل، وأعادت الحياة وعززت الأمل لدى الطامحين الى استعادة الحقّ العربي في فلسطين، والراغبين في مستقبل عربي هو من صنع الانسان العربي ولمصلحته.
خيار المقاومة وتداعيات التجربة اللبنانية أظهرت هزالة وعبثية موقف دعاة المسار السلمي برعاية أميركية ورضى اسرائيلي، وعزّز الموقف الذي اتخذته الدول والمنظمات الداعمة لخيار المقاومة عربيّا واقليميا.
مناصرة دمشق، مثلاً، لخيار المقاومة في لبنان وفي فلسطين، حتّى ابّان الحصار الذي فرضته الادارة الاميركية الأشدّ شراسة، وأصدقاء لها في المنطقة، على سوريا وتهديد نظامها، عزّزت الموقف السوري وزادته مناعة وقدرة على الصمود ووضعت النظام السوري في طليعة الأنظمة العربية المدافعة عن الحقوق العربية، القومية والسياسية. فعلى الصعيد الشعبي، احتلّ الرئيس السوري المرتبة الأولى بين الحكّام العرب تقديرا واحتراما حسب دراسة ميدانية قامت بها جامعة مريلاند بالتعاون مع مؤسسة زغبي الدولية عام 2008 في ست من كبريات الدول العربية، بما فيها مصر والمملكة العربية السعودية والمغرب، بينما لا تزال شعبية السيد حسن نصر الله في طليعة الزعماء العرب جميعاً، رسميين وغير رسميين، بموجب الدراسة نفسها.

لم يكن للشرعية الدولية سوى نصير وحيد هو المقاومة التي أجبرت إسرائيل على الانصياع للقانون
ولم يكن للموقف السوري في نصرة المقاومة اي انعكاس سلبي على الاقتصاد السوري. فالدراسات المتخصصة بهذا الشأن تشير الى حالة من النمو المضطرد وزيادة في اقبال الاستثمارات الأجنبية في السنوات الثلاث القادمة (# Middle East Monitor, Vol. 20, Issue 6, June 2010). وعلى الصعيد الاقليمي، حدثت تطوّرات عدّة تعكس تعاطفا مع الموقف المقاوم لعلّ أهمّها الموقف التركي وتعاضده مع الموقف السوري في مقاومة الظلم. تأييد خيار المقاومة لرفع الظلم يتمتّع بطبيعته بقوّة معنوية وامتياز خلقي يعزّز كثيرا من مكانة صاحبه، بقطع النظر عن الولاءات والروابط السياسية أو الاجتماعية. في المقابل، المواقف التي تظهر للناس بانّها مسهّلة، ان لم تكن متواطئة مع المعتدي المحتلّ في عدوانه واحتلاله، مكلفة جدّا من الوجهة المعنوية على الأقلّ، وتتكيّف كلفتها حسب المتوقّع من صاحبها. هنا، وعلى سبيل المثال، سوف أترك للقارئ الحكم في المردود المعنوي على مواقف كلّ من الحكم المصري والتركي والأميركي من العدوان الاسرائيلي على غزّة واستمرار الحصار عليها.
لعلّ أهمّ تداعيات خيار المقاومة وممارسته بنجاح ومثابرة، هي في انتشاره كخطاب بديل لحالة الارباك والجمود التي أصابت الموقف العربي في الصراع العربي الاسرائيلي. فثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع التي كانت سائدة حتّى العام 2000 وربما العام 2006 في المجتمع العربي بدأت تتصدّع وبدأ يحلّ محلّها لدى بعض النخب العربية الثقة بالنفس والشعور بأنّ زمن الهزائم قد ولّى.
وختاماً، ولكي لا نترك الانطباع بأنّ في تبنّي خيار المقاومة وانتشار ثقافتها الطريق لحلّ جميع الاشكاليات والتغلّب على كافة الصعاب التي يعاني منها المجتمع العربي، يجب أن ندرك أنّ المقاومة ليست مشروعاً اصلاحيّاً ولا يجوز توقّع ذلك منها. وهي ليست بديلاً عن خطاب عربي ديموقراطي مستنير يكون أساساً لنهضة عربية تفجّر في الانسان العربي جميع طاقاته الخلاّقة وتوظف الثروات الطبيعية والبشرية في مؤسسات تعزّ الانسان العربي، ومن خلاله وبه تستعيد حياة ودوراً في قيادة الركب الحضاري العالمي.
* أستاذ محاضر في القانون الدولي
بجامعة جورجتاون في واشنطن