سعد الله مزرعاني *أشار الرئيس سعد الحريري في كلمته، أوّل من أمس، في جامعة «جورج تاون»، إلى أنّ التجربة اللبنانية علّمته أن «يتكيّف مع المتغيّرات من حوله». والتغيّر هو سمة الوضع في لبنان، منذ بلغت «الإخفاقات» الأميركية في العراق ذروتها، ومنذ فشل الغزو الأميركي ــــ الإسرائيلي للبنان في صيف عام 2006. كرّس «اتفاق الدوحة» في أيار عام 2008 تأثير متغيّرات الوضعين الإقليمي (والدولي) واللبناني على مستوى السلطة التنفيذية. وفي امتداد تأثير المتغيّرات الإقليمية والدولية، حصلت المصالحة السورية ــــ السعودية. الوضع اللبناني دخل بعد ذاك مرحلة جديدة. لا بدّ من تحديد بعض معالم هذه المرحلة من أجل صياغة المواقف والتكتيكات السياسية المناسبة في سياق أهداف عامة ما زالت هي الموجّه الرئيسي من الناحية الاستراتيجية.
يتيح ما حصل من متغيّرات، حتى الآن، التأكيد أنّ خطر الاحتراب الأهلي اللبناني قد تمّ تجاوزه إلى حدّ كبير. لم تعد نسب القوى الداخلية تسمح أو تغري باللجوء إلى هذا الأمر... ينطبق ذلك، تحديدًا، على الطرف الذي كان يحاول استخدام السلطة بكلّ مرافقها السياسية والأمنية والعسكرية، في توليد نسبة قوى داخلية لمصلحته مقرونة بدعم عربي ودولي، وبتأجيج للعصبيات المذهبية إلى الحدّ الأقصى. سقط هذا الأمر في السابع من أيار عام 2008، ولن تقوم له قائمة حتى إشعار آخر. ومع سقوط هذا الاحتمال، تداعى تدريجيًا الانقسام الحاد الذي صاغ الحياة السياسية اللبنانية في استقطابين كبيرين هما تحالفا 8 و14 آذار. لقد طبع هذان الاستقطابان كلّ المشهد السياسي اللبناني وهمّشا كلّ المواقع الأخرى التي اضطرّت، ولو من موقع الحياد النسبي أو الاستقلالية المحدودة، أن تكون أقرب إلى هذا الموقع أو ذاك، وفق طبيعة حساباتها وبرامجها السياسية...
في نطاق هذا المشهد تقدّم الهمّ الأمني على كلّ ما عداه، وتراجعت الهموم والعناوين الأخرى، إلى الحدود القصوى رغم أنّها تختصر أزمات حقيقية أو تشير إلى تفاقمها الكبير في المراحل اللاحقة.
بعض القوى التقدّمية (اليسارية والديموقراطية) تمايز في الموقع وتماثل (هنا أو هناك) في الموقف إلى حدّ كبير دون أدنى شك. كذلك فإنّ بعض الشخصيات والتيارات ذات المنشأ والتاريخ اليساري أو القومي أو العروبي، قد ذهب إلى حدّ الالتحاق الكامل بأحد طرفي الصراع (بعضه ما زال يواصل هذا الالتحاق رغم تعاسة ما ينطوي عليه ذلك في الشكل والمضمون على حدّ سواء: انظر بعض الوجوه في اجتماعات أمانة 14 آذار!).
السبب الأساسي الحائل دون أن يتحوّل التقاطع إلى تعاون، بين القوى والشخصيات التقدّمية من جهة وقوى في تحالف الثامن من آذار، من جهة ثانية، يكمن في أمرين: الأوّل: الطابع الطائفي والمذهبي الذي طغى على صورة اصطفاف هذه القوى (ولو تنوّعت هي أو سواها في المعسكر المضاد). والثاني هو تفاقم حجم الالتحاق بالمراكز الإقليمية ــــ الدولية المتصارعة إلى درجة لم يسبق لها مثيل!
لقد كان الصراع على موقع لبنان وعلاقاته وتحالفاته. ولم يكن صحيحًا على الإطلاق، ممارسة الاستقلالية في الموقع، على أنّها حياد في الموقف. لو حصل ذلك، لمثّل خطأً تاريخيًا، كان سيواصل بالتأكيد، بالنسبة للتيار الشيوعي خصوصًا، أخطاءً جسيمة سابقة ارتُكبت في مراحل حسّاسة من الصراع، حول عناوين كبرى من مثل: القضية الفلسطينية وقضية الوحدة العربية، وقضايا الفصل التعسّفي ما بين الصراع القومي والصراع الطبقي (أحد أبرز رموز الاعتراض على هذه الأخطاء وأكبر ضحاياها الشهيد فرج الله الحلو).
لا يخفى أنّ الحزب الشيوعي اللبناني قد تعرّض من الخارج ومن الداخل، لأقسى أنواع الصراع والتجاذبات. التحقت أكثرية من قيادته بالحلف اليميني. إحدى أبرز الذرائع كانت البقاء مع «الحليف التاريخي» للحزب الشيوعي، أي الحزب التقدّمي الاشتراكي الذي انخرط وانخرطت قيادته في تحالف 14 آذار حتى منتهى المبالغة والتطرّف.
موجة الصراع من داخل الأطر الحزبية اليسارية ومن خارجها لم تنتهِ حتى اليوم، وإن كانت قد انحسرت إلى حدّ بعيد. في مجرى ذلك برزت مبالغات واتهامات وتشوّهات متعدّدة، من ذلك مثلاً عدم رؤية الأولوية التي يفرضها الصراع في ذروة احتدامه، بشأن موقع لبنان في خارطة الصراع في المنطقة. ومن ذلك جنوح البعض لتحويل التقاطع إلى تماثل في مقابل بعض آخر جنح إلى النظر إلى التمايز بوصفه تناقضًا يلغي كلّ احتمالات التعاون والتنسيق في الموضوع ذي الصلة. كذلك راج سوق الاتهامات، وهو يروج عادة في البنى التي تجتاحها رياح قوية، فيما هي تملك القليل من أدوات المواجهة والمنعة والصمود. وأبرز هذه الأدوات الوعي السياسي الفردي والمؤسساتي الذي يمثّل الحصانة الأساسية للتحليل والتمييز والاستنتاج وصحة الخلاصات (وكذلك عدم الوقوع في الصغائر من الخلافات والمصالح الصغيرة)!
بديهي أنّ ما ذكرناه من متغيّرات (وبعضها لم نذكره) قد ترك تأثيرًا جليًّا على المشهد السياسي العام. أشرنا إلى تراجع خطر الاحتراب الأهلي. ونضيف هنا ما حصل من الانفراج العام الذي مكّن من استئناف عمل المؤسسات الدستورية (الرئاسة، مجلس النواب، مجلس الوزراء...). كذلك ما حصل من خلط أوراق، وتبديل في المواقع، و«تكيّف» مع المتغيّرات الذي أشار إليه الرئيس سعد الحريري في الولايات المتحدة ومارسه بتشجيع من قيادة المملكة العربية السعودية في علاقاته الداخلية وفي العلاقة مع القيادة السورية.
في السياق نفسه، عاد الملف الاقتصادي ــــ الاجتماعي إلى البروز بروزاً متواصلاً: في تحرّك القطاعات التعليمية. وفي إضراب قطاع النقل. وفي النقاش حول الموازنة والخصخصة (اقتراحات الوزير شربل نحاس) وأولويات الإنفاق، ومسائل الغش والفساد في استيراد المواد الغذائية، وصولاً إلى محاولة الاتحاد العمالي العام النهوض، متعثّرًا، من سباته العميق، إلى إضراب الطيارين...
وكان قد سبق كلّ ذلك نقاش أُجهض مرحليًا، حول قضايا الإصلاح في قانون الانتخاب... إن هذا الأمر لا يجب أن يعني إدارة الظهر لموجبات الصراع على جبهة المواجهة مع مشروع الغزو والهيمنة الأميركي ومع مشروع العدوان والتوسّع الصهيوني.
يتيح كلّ ذلك، موضوعيًا، إعادة تسليط الضوء على ملفات وأزمات كان يحجبها العامل الأمني أو عنوان الصراع الدائر في المنطقة وما يفرضه ذلك من أولويات. ويتيح ذلك خاصة، وموضوعيًا أيضًا، تطوير جملة من النضالات الاجتماعية والاقتصادية والنقابية والتربوية والصحية...
وهو يتيح من خلال الفعل والحركة والنشاط والمبادرة، لا الكلام المجرّد، والرغبات فقط، تطوير التمايز بين الخطوط والبرامج والسياسات والمواقع في الحقول كلها. مثل ذلك يتطلّب أمرين: صياغة رؤى برنامجية ملموسة للمهمات الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المرحلة التاريخية الراهنة. أما الثاني فهو تأهيل الوضع الذاتي لقوى التغيير، للقيام بهذا الدور، ولتجاوز ما تعانيه الأطر القديمة من عجز وترهّل ومراوحة في الماضي! وستكون لنا عودة إلى هذين العنوانين في مساهمة لاحقة.
* كاتب وسياسي لبناني