حسّان الزينمن يمكنه أن يُجيب لماذا ما زالت الكتب تصدر في بيروت؟
هذا السؤال لا ينطق بلسان الإحباط من تدنّي نسبة القراءة والقرّاء. تلك نغمة قديمة. بل يعبّر عن يأس من الجدوى من الكتاب في هذا البلد الذي ادّعى أن مدينته الكبرى عاصمة عالمية للكتاب، في عام 2009، وما زالت بعض فاعلياتها مستمرة في عام 2010. ومن يسأل!
مرّت هذه السنة، سنة الكتاب في العاصمة بيروت، على خير، وهناك كثيرون استفادوا منها واستطاعوا الإفادة من المساعدات الدولية والمحلية... هذا مهم، لكن الأهم أن هناك من لم ينفّذ مشروعه المدعوم، وربما قبض، أو ينتظر الموازنات الجديدة ليقبض. والمشاريع تأتي لاحقاً. إذا أبصرت النور.
مما شاهدناه وسمعناه و«أحسسنا» به في هذه العاصمة العالمية للكتاب، إعادة نشر مؤلَّف «عُمر الزعنّي موليير الشرق» مرفقاً بـ«CD» يتضمن مختارات من أغاني الزعنّي، وقد أطلقهما «نادي لكل الناس»، بالاشتراك مع وزارة الثقافة في حفل موسيقي، في قاعة قصر الأونيسكو.
كان يمكن ألا ندري بهذا، وألا يتجسد المشروع من أساسه، لو أن جهة وهمية وراءه. وهي كثيرة. فهذا موسمها في بيروت. منذ انتهت الحرب وهلَّ عصر العولمة، والمسرح للمؤسسات المدنية، وبعضها استعاضة عن الأحزاب، تنشط في المناسبات وتخترع العناوين... وفي لحظة ما، مثل الانتخابات النيابية أو البلدية والاختيارية... لا تجدها أسست لأمر، كأنها غير موجودة.
صحيح أن المجتمع الأهلي القروي أقوى في لبنان، متجذّر أكثر من هذه المؤسسات وعناوينها وأقوى من الأحزاب السياسية والعقائدية، لكن السؤال: ماذا تفعل هذه المؤسسات... المدنيّة؟ في الغالب، هي باعة هواء، تتعامل مع نشاطها وعناوينها كسلع، تحرص على تقديمها بشكل جذّاب. والمجتمع استهلاكي، كل شيء عنده سلع: الانتخابات، الطائفية، الدين، الوطن، الهويّة، القتل، المقاومة... إذا كان الأمر كذلك مع هذه العناوين «الكبرى»، فكيف هو مع شعارات طارئة، عابرة، هوائية، مثل التي تحكي بها المؤسسات المسمّاة مدنية؟
جميلة هي مفاجأة عمر الزعنّي، لا سيما بالتزامن مع الانتخابات البلدية، ولأغانيه معنى في عرس الديموقراطية هذا.
«يا ضيعانك يا بيروت
الجهلاء حاكمين
والأرزال عايمين
والأنذال عايشين
والأوادم عم بتموت».
ليس هذا إسقاطاً سياسياً على بيروت اليوم، فالحال من بعضه وبيت القصيد هذا ينطبق على لبنان وكله. كذلك، لا تختصر هذه العبارات عمر الزعنّي، الشاعر الشعبي الذي كان جريدة أيامه. يُفضي هذا الكلام، تجنّباً للمديح المجاني، إلى قراءة الكتاب المتواضع. فعمر الزعنّي بحاجة إلى دراسة جديدة، لا لأن قصائد ومسيرته ما زالتا تعبّران عن زماننا، بل لارتباطه بلحظة استقلال لبنان والجمهورية التي أنتجها اللبنانيون آنذاك وثقافات المجتمع وأنماط عيشه. قصائد عمر الزعنّي وأغانيه تقول لبنان الحقيقي، من تحت، أوسع من كتب التاريخ السياسي المتعددة. وقبل أن يكون الزعنّي مرثيّة هذا الوطن (بيروت زهرة من غير أوانها)، وقبل أن يكون لسان حال الشعب في نقد الطاقم السياسي والطبقة الثرية الحاكمة، هو السخرية المرّة من اللبنانيين «المفركشين» في بناء مدينتهم ووطنهم:
«من يوم ما صار لبنان كبير
ما عاد في بالدنيا صغير»
«ما شاطرين غير نحنا
العالم ونحنا،
يا جماعة شو نحنا؟
العالم بيزيحنا».
والأمثلة كثيرة، لا تتوقف مع عمر الزعنّي. وربما لهذا «نُسي». فاللبنانيون لا يكرهون أكثر ممن ينتقدهم، إلا من يكشفهم. لا يريدون أن يعرفوا حقيقة أمرهم. وعمر الزعنّي كان قاسياً في التعرية والهزء، وينطلق مع موقع أخلاقي وديني محافظ اجتماعياً. ولعل هذا من أسباب غيابه وإهماله، من دون أن يذهب اللبنانيون في اتجاه معاكس. فاللبنانيون لم يغدوا مدنيين، وما زالت الأخلاق ومعها الدين منطلقات أقرب إلى الشعارات وإعلان هويّة سياسية واجتماعية، هويّة ضدّية. شكلانية لا تنفع معها أدوية المدنيّة المستوردة. فهذه، أي الأدوية، في أفضل الحالات، تؤمّن فرص عمل لباعتها.