في كتابه الأخير، «وجوه سمراء وأقنعة بيضاء»، يقدّم حميد دباشي ــــ الاستاذ ايراني الأصل في جامعة كولومبيا ـــ توصيفاً لمفهوم «المُخبر المحلي»؛ وهو تعبير يحيل الى ابن الجنوب المستعمَر، الذي يجد مكانه في المركز الغربي عبر التطوع لتأدية دور «الدليل»، الذي ينقل الى الغربيين الخبرة والمعرفة التي يفتقرون اليها عن بلادنا. فيحاول ايجاد القبول في مجتمع عنصريّ ضد بني جنسه، عبر استخدام هويته، لزعم معرفةٍ تعين المستعمِر في غزوه وفي حكمه.
كتب دباشي: «هم قادرون على لعب دور الخبير فيما هم لا يخبرون فاتحيهم بما يحتاجون لأن يعرفوه، بل ما يريدون أن يسمعوه (بالمقابل، يسمّيهم الليبراليون الاوروبيون والأميركيون «أصواتاً معارضة»). حين صدم هؤلاء بالجو الكاره للإسلام في بلادهم الجديدة، تعلّموا فنّ الاعتراف بأصولهم المسلمة وانكارها في الآن ذاته... (المخبر المحلي) هو عارض مرضي أنتجته حالة الاستعمار… هم يمارسون نشاطهم تحت شعارات نبيلة، كالدفاع عن حقوق الانسان، وحقوق المرأة، والحقوق المدنية للمسلمين أنفسهم… الطريقة الفاضحة التي يشيطن بها هؤلاء المخبرون ثقافاتهم ومجتمعاتهم متاحة بفضل الحماية التي يتمتعون بها حين ينتقلون الى مراكز القوة في اوروبا الغربية واميركا الشمالية» (على الهامش: هذه السطور نفسها استُخدمت للهجوم على دباشي في مقال أخير في مجلة «كاونتربنش»، يتهمه بأنه صار «مخبراً محلياً» وفق تعريفه، وأن مواقفه في السنوات الأخيرة كانت داعمة لأجندة «الامبراطورية»، وانه نشر الكثير منها في منبرٍ خليجي قطريّ، ولكن هذه قضية أخرى).
هذه الدينامية لم تعد مقتصرة على العلاقة بين الغرب والجنوب، بل صارت ماثلةً بشكل واضح على المستوى الاقليمي، حيث تحوّل عددٌ كبير من المثقفين والاعلاميين والخبراء العرب، من المشرق ومصر وغيرها، الى «مخبرين محليين» لدى الخليج، يعملون في مؤسساته ولدى أنظمته، ودورهم هو تأكيد وبثّ رؤية النخبة الخليجية الى المنطقة والعالم، والتنظير لها (وهي نظرة مريضة، بالمعنى العيادي للكلمة، يلمسها كل من قابل دوائر الحكم في الخليج واستمع اليهم مؤخراً ــــ ونحن هنا لا نتكلم عن «الجناح الوهابي في العائلة»). لم يعد الأمر مقتصراً، كما في عقود سابقة، على عددٍ محدود من الاعلاميين، أكثرهم لبنانيون ومصريون، يعملون في أبواق الخليج لافتقاره الى الكوادر؛ بل صارت هناك طبقة كاملة، فيها سوريون وعراقيون ويمنيون و، للأسف، فلسطينيون، يخدمون أجندةً تضمن، لو وصلت الى منتهاها، الخلاص الفردي والمادي لهم، والاذلال الدائم لشعوبهم (والعلاقة بين الخليج وجيرانه بدأت تأخذ منحىً استعمارياً بالمعنى المباشر والعسكري، في اليمن وسوريا والعراق).
ولأنهم، كـ «المخبر» في الغرب، يتمتعون بحماية خارجية ورواتبهم لا تعتمد على داعمين محليين، فإنّ بإمكانهم أخذ مواقف جذرية وثورية في بلادهم، والخروج على الاصطفاف السياسي والاجتماعي بالكامل (كمعارضة 8 و14 آذار معاً في لبنان)، طالما أنّهم لا يتجرأون بكلمة على الأمير، وحريمه وعبيده، والنظام البائس الذي يبنيه حولنا. بل يعيدون انتاج الخطاب الخليجي وتقسيماته الكارهة في صيغٍ «علمانية» و»ليبرالية» و»اسلامية» مختلفة، ويتسابق أبناء «الأقليات» التي يستهدفها هذا الخطاب قبل غيرهم، ليقولوا لسادتهم ما يريدون أن يسمعوه.
قبل أيامٍ، نشرت «الحياة» السعودية مقالاً ينتقد كاتبه ما اعتبره اساءة للاجئين السوريين على صفحاتنا، ثم ربط ذلك ــــ لسببٍ ما ــــ بحادثة المصوّرة المجرية الشهيرة. لا بأس الى هنا، فمن النبل التعاطف مع الضعفاء ورفض العنصرية؛ ولكن الكاتب ينسب الحادثتين، بثقة، الى «ثقافة نزق وطني عنصري لطالما شاب الوعي الأقلوي، ودفعه نحو مستويات هذيانية». المشكلة هي أن هذه الجملة قدّمت ببساطة، كأنها حقيقة علمية، أو قاعدة كونية متفق عليها. هل هناك كلامٌ عنصري أكثر من هذا؟ ماذا يعني «الوعي الأقلوي»؟ وهل الأقليات الأوروبية التي أبادها النازيون، والأفارقة واللاتينو في اميركا، والأكراد في المشرق، هم «هذيانيون» و»عنصريون»، وخطرٌ يجب التوقي منه؟ (هذا ما يقوله عنهم من اضطهدهم). كيف يخترع «مثقفونا» هكذا نظريات، ويطرحونها على أنها حقائق و»سوسيولوجيا»، ويجدون جمهوراً يستهلك هذا النوع من الارتجال؟
عام 2004، زار رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون فرنسا، التي كان يتهمها آنذاك بأخذ مواقف عدائية من اسرائيل. أطلق شارون من باريس خطاباً نارياً ادعى فيه أن فرنسا تتجه صوب العداء للسامية، ولم تعد مكاناً آمناً لليهود، محذراً من أن هذه النزعة ستتزايد مع استمرار هجرة المسلمين والعرب الى اوروبا. هنا مقولةٌ، في ظاهرها، تعادي العنصرية من منطلق انسانوي (لا للعداء للسامية)، تليها مباشرة مقولةٌ مغرقة في العنصرية (أن هناك كتلة بشرية في اوروبا، هي المسلمون، كالسرطان، كلما تضخمت تزايد حكماً العداء للقيم الكونية). هذا تماماً ما يفعله مثقفو الخليج في المشرق حين يرفقون ادعاءاتهم «الليبرالية» و»العلمانية» و»النسوية» بالاندماج في مشروع رجعي، يقوم على التحريض الطائفي الممنهج وشيطنة شعوب وعقائد ومجتمعات. ولكن هناك فارقاً هاماً بين «المخبر الغربي» ونظيره الخليجي، هو أن الأوّل يلقى احتضاناً وانتماءً وهوية جديدين، وجواز سفر؛ أما الثاني، فلن يعرض عليه موظِّفوه مشروعاً مشتركاً في السياسة، ولا جنسيةً، ولا حتى لجوءاً انسانياً حين ينقلب الدهر.