سعد الله مزرعاني * لا يكفّ الدور التركي عن طرح مزيد من التساؤلات بشأن «وظيفة» تركيا الراهنة في المنطقة: هل هي استمرار لدور سابق في حلّة جديدة، أم هي وظيفة جديدة أملتها جملة مصالح ومتغيّرات وتناقضات وتفاعلات تركية وإقليمية ودولية؟
يزداد طرح هذه التساؤلات، كما ذكرنا، مع كلّ مبادرة تضطلع بها الحكومة التركية. آخر هذه المبادرات، وربّما أهمها، المساهمة المباشرة والنشيطة من رئيس الوزراء التركي ووزير خارجيته، مع الرئيس البرازيلي، في التوصّل مع الحكومة الإيرانية إلى اتفاق بشأن بعض جوانب الملف النووي الإيراني.
في هذا العنوان، كما في سواه، يزداد الجدل حول «حقيقة» الدور التركي. ولقد أُتيح لي في الأسبوع الماضي، أثناء زيارة إلى كبرى المدن التركية اسطنبول، لحضور ندوة عن متغيّرات الوضع في المنطقة، وكذلك في لقاءات حوار مع قادة في الحركة اليسارية التركية، أُتيح لي أن أستمع إلى وجهة نظر تجزم بأنّ الدور التركي الراهن، إنّما هو دور منسّق بالكامل مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. إنّ هؤلاء المعارضين اليساريين الذين دخل بعضهم السجون التركية مرات عديدة، ولسنوات طويلة، يؤكّدون أنّ حزب «العدالة والتنمية» (الذي بات يُعرف بالأبيض) قد حظي ولا يزال، برعاية أميركية لطالما عبّر عنها مبكرًا ومباشرة أو غير مباشر، رجل الحزب القوي وزعيمه رجب طيّب أردوغان، من خلال القول إنّ تجربة تركيا هي لإثبات «أنّ الإسلام لا يتعارض مع الديموقراطية». وتعود جذور التخلّي الأميركي عن «حكم الجنرالات» إلى مرحلة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش. وكان دعمه للتغيّر في تركيا جزءًا من أسلحته في الحرب على «الإرهاب» الأصولي الذي يمارَس باسم الإسلام، السنّي منه خاصة. يضيف هؤلاء أنّ مصالح البورجوازية التركية كانت تستدعي مثل هذا التغيير في الفريق الحاكم وفي الأسلوب وفي العلاقات. فحكم العسكر الذي اعتمد التغريب والقمع والفرض والإكراه، قد وصل إلى طريق مسدود. فهو، من جهة، مرفوض أوروبيًا لأسباب اقتصادية وديموغرافية (ولو كانت الأسباب المعلنة سياسية)، وهو من جهة ثانية، ملحق بالولايات المتحدة وبحلف الأطلسي وبالغرب وبإسرائيل، بما يمنعه من أن يلعب دورًا إقليميًا يتعدّى دور الهراوة الأمنية الحائلة دون الانفتاح المطلوب على المحيط الشرق أوسطي عمومًا والعربي خصوصًا.
ويردّ هؤلاء اليساريون سبب الانفتاح التركي النسبي لأردوغان وحكومته وحزبه في الداخل، كما في الخارج، إلى تشجيع أميركي أيضاً، وخصوصًا لدعم أردوغان في مواجهة البيروقراطية العسكرية. ومعروف تماماً أنّ الجيش والمحكمة الدستورية العليا هما أداة النظام العسكري التركي في البقاء في السلطة وفي الاحتفاظ بها.
حزب «العدالة والتنمية» حظي ولا يزال برعاية أميركية لطالما عبّر عنها أردوغان
ويضيف أصدقاؤنا أنّ أوباما قد ذهب أبعد في دعمه للنظام السياسي الراهن في تركيا، وخصوصًا بعد فشل استراتيجية الرئيس السابق جورج دبليو بوش. ويردّ هؤلاء ما يسمّونه المناكفات التركية مع القيادة الإسرائيلية الراهنة، إلى ضيق أوباما بهذه القيادة التي تمنع من خلال تطرّفها وسياساتها وإجراءاتها، كلّ انفراج في الموضوع الفلسطيني الذي هو لبّ الصراع في المنطقة. ومعروف أنّ قيادة أركان الجيوش الأميركية قد قدّمت طلبات واضحة للرئيس أوباما بضرورة إحراز تقدّم في معالجة الملف الفلسطيني، لأنّ من شأن ذلك أن ينعكس إيجابًا على سلامة الجنود الأميركيين في المنطقة. والمقصود بذلك طبعًا، إضعاف قدرة «المتطرّفين المسلمين» والعرب على استخدام مأساة الشعب الفلسطيني لتعزيز المواجهة وتأجيجها مع الجيوش والمصالح الأميركية في المنطقة!
يذهب أصدقاؤنا الأتراك في تحليلهم هذا إلى أقصى درجات الوثوق والاطمئنان. وينطلقون من ذلك، أي من كون الدور التركي الرسمي الراهن منسّقًا مع واشنطن وفي خدمة متغيّرات سياستها، من أجل تصعيد معارضتهم للحكومة التركية التي يقودها حزب «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيّب أردوغان. وهم، في هذا السياق، يتحدّثون بزهو شديد عن احتفالهم الرسمي بعيد الأوّل من أيار الجاري. فقد أجازت الحكومة، رسميًا، الاحتفال. وتمكّن المنظّمون من أن يحشدوا حوالى ثلاثمئة ألف مواطن في ساحة «تقسيم» في وسط اسطنبول، المدينة التركية الأهم والأكبر والأكثر ضجيجًا بالحركة السياسية والسياحية والاقتصادية في آن واحد. وأهمية الأوّل من أيار هذه السنة أنه كرّس، حتى إشعار آخر، نهاية مرحلة المنع والقمع بعدما كان أحد التجمّعات في أوّل أيار عام 1973 قد تحوّل إلى ما يشبه المجزرة حين قتلت قوات السلطة من جيش وقوى أمن، سبعة وأربعين متظاهرًا، فضلاً عن مئات الجرحى!
لا تفتقر وجهة النظر هذه إلى براهين إضافية لإثبات جديّتها. لكنّها، مع ذلك، غير كافية لإثبات أنْ «ليس بالإمكان سوى ما يقرّره الأميركان»! لا شكّ بأنّ مراكز القرار الأميركية: في الإدارة وكتل المال والمجمع الحربي ــــ الصناعي وفي الاحتكارات الكبرى، تبحث عن بدائل للسياسات التي اعتمدتها الإدارة البوشية السابقة. وهي، في مجرى هذا البحث، تشجّع سياسات جديدة في تركيا وفي سواها. لكنّ ذلك لا يعني أبدًا، أنّها تمتلك كامل القدرة على التحكّم بمجريات الأمور على النحو الذي يراه أحد أطراف المعارضة في الداخل التركي. إنّ ثمّة عوامل أخرى أساسية، في تحديد التوجّهات التركية الراهنة وبلورتها، ومنها: إخفاقات السياسة الأميركية في المنطقة وفي العالم على المستويين الاستراتيجيين العسكري والمالي. إخفاقات العدو الإسرائيلي التي برزت خصوصًا في عدوانه في تموز عام 2006 على لبنان وفي أواخر عام 2008 على غزة. تضعضع مواقع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، مما جعل الفراغ الذي خلّفه التعثّر والإخفاقات الأميركية والإسرائيلية يغري بملئه: والأقربون أولى بالمعروف في كلّ من تركيا وإيران وصولاً إلى البرازيل وفنزويلا...!
إنّ متغيّرات كبيرة هي التي ترعى وتشجّع سياسات ومبادرات وتوجّهات تحصل في غير منطقة من العالم. وفي مجرى ذلك تتقدّم قوى نحو البحث عن أدوار وبلورة «وظائف» ارتباطًا بمصالح وبتنافس كتل ومجموعات اقتصادية يتعاظم حجمها وتتزايد قدراتها في أربع أرجاء المعمورة، وخصوصًا: الصين والهند والبرازيل وتركيا وإيران...
السؤال يبقى: ماذا عن الدور العربي؟ بدايات التحوّل والتغيير ما زالت خجولة. وهي، إذا قيست بالتحديات التي يواجهها الوضع العربي والمصالح العربية، ما زالت دون المستوى إلى درجة مقلقة.
* كاتب وسياسي لبناني