حسام كنفاني... وأخيراً لجأت السلطة الفلسطينية إلى السلاح. ليس السلاح بمفهومه العسكري، الذي أخرجته السلطة من المعادلة، لكنه سلاح لا يقل أهمية في الوقت الراهن، على الأقل لإظهار أن للفلسطينيين خيارات أخرى للتعاطي مع الإسرائيليين غير الانتظار على أعتاب طاولات المفاوضات، أو «المقاومة السلميّة» الموسميّة، التي ابتكرت أخيراً لبث بعض الحراك في الشارع الفلسطيني وتنفيس بعض الغليان المرتبط بفشل الرهان السلمي.
من هذا المنطلق يمكن النظر إلى قرار السلطة الفلسطينية مقاطعة منتجات المستوطنات ومنع العمل فيها على أنه «قرار ثوري» قد يكون الأجرأ والأهم منذ تولّي الرئيس محمود عبّاس مقاليد الحكم. والحديث هنا عن قرار يصب في خدمة صراع الفلسطينيين مع إسرائيل، على عكس قرارات الداخل الكثيرة، «الثورية» أيضاً لكن بمعنى معاكس.
القرار جاء متأخراً، لكن الأمر أفضل من ألا يأتي أبداً. فالعديد من الدول الأوروبية كانت قد سبقت السلطة إلى مثل هذا القرار، عندما حظرت استيراد أي بضائع تنتج في المستوطنات الإسرائيلية.
القرار اليوم بحاجة إلى سند وإجراءات احتوائية لتداعيات محتملة على الداخل الفلسطيني، في الضفة الغربية خصوصاً. إجراءات تتوزّع على أكثر من صعيد، اقتصادي وسياسي.
قد يكون السياسي اليوم هو الأكثر إلحاجاً، بعدما بدأت أصوات الاعتراض الإسرائيلية ترتفع في مواجهة «العمل العدائي» المتمثّل بقرار حظر العمل في المستوطنات ومنع استيراد بضائعها. الأصوات قد لا تبقى إسرائيلية، فمن المؤكّد أن الولايات المتحدة ستدخل على خط الأزمة، وربما ستضع القرار في خانة «الاستفزاز» الذي تحمل واشنطن لواء منعه في الآونة الأخيرة، وتحذّر من تأثيراته على «المفاوضات غير المباشرة» التي لم تنطلق بعد.
ولا شك بأن القرار سيكون على طاولة أبو مازن والمبعوث الأميركي جورج ميتشل الذي بدأ أولى جولات «مفاوضات التقارب». القرار سيكون اختباراً جديداً للرئيس الفلسطيني وقدرته على مواجهة الضغوط. التجارب السابقة غير مشجعة، لكن لا بد من إخراج القرار من حيزه الرسمي إلى المستوى الشعبي، على الأقل ظاهرياً، ولا سيما أن السير في التطبيق الجدي، كما هو قائم حالياً، من شأنه أن يحمل الكثير من التأثيرات في التفاوض والعلاقة مع إسرائيل.
من المعلوم بالنسبة للكثيرين أن المستوطنات لم تقم إلا على أكتاف العمال الفلسطينيين، والمصانع فيها لا تنتج إلا بفعل جهود العمال الفلسطينيين، الذين يدفعهم اليأس إلى التوجه إلى العدو للبحث عن لقمة العيش. الكثيرون منهم يأخذون من مسؤولي السلطة الفلسطينية أمثلة تحتذى، إذ إن بعض هؤلاء المسؤولين على تماس مباشر مع «صناعة المستوطنات» عبر توريد الحجارة والأخشاب والحديد وحتى العمال.
ولا شك بأن تصنيف إسرائيل للقرار في خانة «العمل العدائي»، نابع من الإحساس بمدى فداحة تهديده الوجود الاستيطاني عامة في الضفة الغربية. تهديد اقتصادي وسياسي، بما أن بديل العمال الفلسطينيين الذين يعدّون يداً عاملة رخيصة ومتوافرة، هم العمال الآسيويون، ولا سيما التايلانديين، الذين يرتّبون تكلفة عالية على أصحاب المصانع والشركات، إضافة إلى الحكومة في مساعيها للتوسّع المعماري، كما أن حظر استيراد منتجات المستوطنات إلى الضفة يفقد هذه البضائع سوقاً واسعة، ويهدّد استمراريتها أيضاً. وهو ما تنظر إليه الحكومة الصهيونية بقلق، ولا سيما بعدما خسرت في السابق مصانع في شمال فلسطين المحتلة بعد حرب تموز 2006.
الاستمرارية في هذا القرار محورية وحيوية. لكنها تحتاج إلى إجراءات عاجلة على الصعيد الفلسطيني. فالأحكام الجنائية بحق العاملين في المستوطنات أو المستوردين من مصانعها، ليست هي الحل الوحيد. لا بد من بدائل سريعة لآلاف العمال الذين سيؤدي التزامهم بالقرار إلى قطع أرزاقهم وتهديد لقمة عيشهم.
السلطة أمرت المصانع الفلسطينية والمؤسسات الحكومية باستيعاب هؤلاء العمّال. قرار قد يكون صورياً، على اعتبار أن الأزمة المالية التي ترزح تحتها السلطة الفلسطينية غير خافية على أحد، وهي عجزت أكثر من مرة عن تأمين الرواتب الشهرية لعمالها الحاليين. وحتى المصانع الفلسطينية قد لا تكون قادرة على تحمّل المزيد من اليد العاملة، المهدّدة أساساً بالصرف.
استمرارية القرار تستوجب توجّهاً سريعاً إلى الفضاء العربي. عنوان القرار يستحق جدّاً الدعم أكثر من العناوين الهلامية الأخرى التي لا يدري أحد أين تتوجه أموالها إذا وصلت، على غرار «دعم الوجود الفلسطيني» أو «منع تهويد القدس»، وغيرهما من العناوين الفضفاضة التي لا تحمل أي آلية تطبيق.
المعضلة عادة تكون في عدم ثقة الطرف الداعم بالطرف المدعوم، وخصوصاً إذا كان السلطة الفلسطينية الغارقة في بحر واضح من الفساد. لكن العنوان الجديد واضح، ومن الممكن أن يكون تحت إشراف عربي مباشر عبر الاستثمار في الضفة الغربية وضخ إنتاج فلسطيني وعربي يغني عن منتجات المستوطنات، ويوفّر فرص العمل للآلاف.
اليد العاملة متوافرة والسوق أيضاً، الأموال هنا هي العنصر المفقود الذي من الممكن تأمينه عربياً. لو طبّق هذا الأمر جديّاً، فربما هي المرة الأولى التي تكون الأموال العربية مفيدة في الصراع، وهي التي كانت لسنوات وسيلة مناكفات وتزكية الخلافات.
كرة مقاطعة منتجات المستوطنات ليست فلسطينية فقط، فهي ستسقط سريعاً من دون سند، فلا بد من تلقفها سريعاً.