خالد صاغيةكلّما زار لبنانَ رأسُ دولة خليجيّة، لا يسع المواطن الصادق إلا الشعور بالخجل. فالمسؤولون عندنا يتدافعون لاستقباله، واللعاب يسيل من أفواههم. فهم لا يرون في الضيف الآتي إلا كيساً كبيراً من المال يقدّمه كمساعدات للشقيق الصغير، أو يضعه وديعة في المصرف المركزي، أو ينفقه في الأسواق اللبنانيّة في فصل الصيف. يلبسون فجأةً ثياب العيد، ويتدافعون للوصول إلى أرض المطار، ويوزّعون ابتساماتهم يمنة ويسرة، ولسان حالهم يقول: «إجت الرزقة».
والضيف عادةً يعرف تماماً ما يجول في خاطر اللبنانيين. لكنّه يدخل اللعبة معهم. فهو يحبّ الوجاهة والاحتفاء به وبأمواله. وقد يكنّ محبّة خالصة للبلد الذي يراه جميلاً ولأهله المضيافين، وقد يكون هذا الشعور متبادلاً. إلا أنّ ثمّة إحساساً عامّاً يقنعك دائماً بأنّ هذه المشاعر الجيّاشة ليست هي مصدر الحفاوة.
والواقع أنّ العلاقات اللبنانية الخليجية الممتازة، لم تكن تستدعي دائماً كلّ هذا الابتذال. لكنّ ما جرى على المستوى الاقتصادي منذ نهاية الحرب الأهليّة إلى اليوم، حوّل البلاد إلى كرنفال تسوّل دائم. فها نحن نمدّ أيدينا لنعمّر مدرسة. ونمدّ أيدينا لنعمّر قرية. ونمدّ أيدينا لأنّنا أنفقنا من دون حساب، وأسرفنا في الاستدانة. ونمدّ أيدينا لنرمّم قصراً. ونمدّ أيدينا لنخوض معركة انتخابيّة. ونمدّ أيدينا لاستضافة مؤتمر. ونمدّ أيدينا لنقبل بمصالحة بعضنا بعضاً...
ولا نكفّ خلال حفلة الذلّ هذه عن ابتزاز العالم. فنحن البلاد التي ينبغي إنقاذها لأنّها رسالة التعايش بين الأديان. ونحن عنوان الاعتدال في المنطقة. ونحن الرئة الحديثة التي يصدر عنها شعاع التنوير. ونحن صلة العرب بالغرب. ونحن الفرفور الذي ذنبه مغفور، فأنقذونا يا عرب.
لقد أعيدت هيكلة الاقتصاد اللبناني ليصبح اقتصاد تسوّل. لكنّه تسوّل متلازم مع النهب. فالحيتان تطوّع الدورة الاقتصادية لتصبّ أموال الخزينة في جيوبها، ثمّ تمارس التسوّل لرمي الفتات للمواطنين. والمواطن الذي يأكل الفتات، يعود، بدوره، ليتسوّل على أبواب المسؤولين. الكلّ يبدو سعيداً على التلفزيون، في المطار وأمام صناديق الاقتراع. غير أنّ رائحة المهانة تملأ المكان.