سعد الله مزرعاني * نقلت الوكالات ووسائل الإعلام منذ حوالى عشرة أيام كلام رئيس قسم الأبحاث في هيئة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) البريغادير يوسي بايدتس أمام لجنة الخارجية والأمن في «الكنيست» الإسرائيلي. قال هذا الضابط الكبير «إنّ حزب الله موديل 2010 يختلف تمامًا من حيث قدراته العسكرية عن حزب الله موديل 2006». كان الضابط المذكور يقصد بوضوح كامل، أنّ قدرات «حزب الله» التسليحية خصوصًا، قد أصبحت أكبر ممّا لا يُقاس.
لا ينسحب هذا التوصيف على مجمل الوضع اللبناني الراهن. فالوضع اللبناني نسخة أو موديل عام 2010 لا يختلف عن وضعنا في عام 2006. صحيح أنّ المقاومة تحتاج (واحتاجت دائمًا) وستحتاج، إلى أن تكون أفضل ما أنتجه شعبنا من أجل القيام بدورها، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه المقاومة تكاد تغرّد خارج السرب اللبناني العام، وتكاد تكون الظاهرة الإيجابية الوحيدة في هذا السرب. من أجل ذلك تنبّه فريق وطني وتقدّمي من اللبنانيين، منذ أوّل الثمانينيات، إلى ترابط أزمات لبنان المتعدّدة، وإلى ضرورة إحلال المقاومة العسكرية في نطاق خطة أشمل من أجل معالجة تلك الأزمات. ولا يعني ذلك أبدًا التخلّي عن أولوية الخيار والاستعداد العسكريين في مواجهة التحديات والاستفزازات العدوانية الصهيونية. المقصود بما ذكرنا هو تحصين خيار المقاومة نفسها لجهة تحرير هذا الخيار وتحرير مشروعه وقواه من أعباء، بل من أمراض الواقع اللبناني. وهذه الأعباء والأمراض مجسّدة ومكرّسة، خاصة، في النظام السياسي الطائفي وفي الأزمات التي يولّدها هذا النظام ومن ثمّ يراكمها ويفاقمها لتصبح مصدر إضعاف للبنان ولوحدته الوطنية ولإنجازات شعبه، وفي مقدّمتها مقاومة العدو وحماته.
وتمثّل الانتخابات البلدية نموذجًا عما نذهب إليه من التناقض ما بين موجبات المضي في مشروع المقاومة، وما بين الأحداث والوقائع التي نعيشها كلّ أسبوع بمناسبة مسلسل الانتخابات البلدية الذي سيمتدّ حتى نهاية شهر أيار الحالي في محطّته الشمالية الأخيرة.
إنّ تعثّر مشروع الإصلاح الذي تقدّم به وزير الداخلية زياد بارود هو تعثّر مخزٍ
نشير، بدءًا، إلى تعثّر مشروع الإصلاح الذي تقدّم به وزير الداخلية زياد بارود، بدعم من رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. لقد كان هذا التعثّر مخزيًا بحدّ ذاته. فبعدما أُقرّ مشروع القانون بالإجماع في مجلس الوزراء، تعثّر أيضًا، بشبه إجماع في مجلس النواب. لم يأبه أحد لدلالات ذلك في سقوط مصداقية مجلس الوزراء، ولا حتى في الصورة المأساوية التي بدا عليها معظم النقاش في لجان المجلس النيابي، وصولاً إلى قرار رئيسه بتأجيل غير محدّد للبحث وللبتّ في المشروع وفي إصلاحاته. وما حصل بعد ذلك كان أخطر لجهة إضفاء طابع طائفي ومذهبي على القانون الراهن الذي هو متحرّر من هذين القيدين. ويفاخر رئيس الحكومة الآن، وهو رئيس أكبر كتلة برلمانية أيضًا، بمبدأ «المناصفة» في بيروت بين المسلمين والمسيحيين، باعتبار ذلك مِنّةً وإنجازًا في وقت واحد!
ليس هذا فقط، بل إنّ معظم المعنيين بالمعركة الانتخابية، قد بالغ في إبراز العامل العائلي في هذه المعركة. وفي ذلك أيضًا، تشويه كبير لوظيفة المجالس البلدية، سواء في البلديات الصغيرة أو في المدن الكبيرة، ولموقع العمل البلدي في اللامركزية الإدارية التي يجب أن تكون أحد أهم البنود الإصلاحية في ورشة بناء الدولة على أسس عصرية ومؤسساتية سليمة. فالعامل العائلي يطيح موقع البرنامج ودوره، كما يطيح إمكانية المحاسبة، وذلك لمصلحة عصبية تقوم على مبدأ «انصر أخاك ظالمًا كان أم مظلومًا». هذا مع التأكيد على أنّ تعزيز العصبية العائلية، يعيق، على نحو غير بريء أيضًا، إمكانية الاختيار الحر والواعي لدى المواطن. ومعروف أنّ هذا النوع من الاختيار هو الذي يساعد في بناء حالة تغييرية باتت في لبنان حاجة إنقاذية في الوقت نفسه.
إنّ الهمّ الذي يدفع نحو هذا النوع من النقاش، هو همّ وطني بالتأكيد. بل هو أيضًا همّ قوميّ في امتداد تفاعل العوامل المحلية والإقليمية إلى أبعد الحدود. ولقد ثبت بالممارسة والتجربة المُرّتين أنّ معركة تحرير أرضنا لا تنفصل عن معركة تحرير إرادتنا وثرواتنا وحتى عقولنا من عوامل الاستسلام والهوان والتخلّي... السابقة.
يزيد في أهمية ما تقدّم الطابع الذي تتخذه المواجهة في الوقت الراهن، وعلى الأرجح في المستقبل القريب. فهذه المواجهة لم تعدْ، بالدرجة الأولى لبنانية ــــ إسرائيلية منذ عام 2000، أي بعد تحرير القسم الأعظم من الأرض اللبنانية. فالطابع الإقليمي، وحتى الدولي، للصراع في لبنان، ومنه وعليه، يزداد باطّراد. هذا يتطلّب في الشق اللبناني من الصراع التنبّه إلى خطورة ما هو ناشط ومتوسّع من دعوات الحياد والحق في «العيش»، وعدم تحميل اللبنانيين ما لا يستطيعون وما يجب ألا يتحمّلوه وحدهم، أو يتحمّلوه نيابة عن سواهم.
وتنشط الآن قوى دولية وإقليمية عديدة، في مجال احتواء الاعتراض العربي والمقاومة العربية وعزلهما، وتعزيز مناخ التسوية غير الضامنة للمصالح العربية. إنّ جولة الموفد الأميركي الجديدة تستهدف استغلال نقاط الضعف الرسمية العربية، والفلسطينية، من أجل إرساء معالم حلّ راجح رجحاناً شبه كامل لمصلحة العدوّ الصهيوني. من شأن ذلك أن يساعد مشروع الغزو الأميركي في المنطقة، وأن يمكّن الصهاينة من الدخول في علاقات طبيعية مع كامل البلدان العربية.
الانتخابات البلدية، والانتخابات النيابية التي حصلت في حزيران من العام الماضي، أكدتا مراوحتنا في حمأة التخلّف السياسي والإداري والاجتماعي والحزبي والحضاري... أما إنجازاتنا في مجال التحرير فليس أنّها فقط لم تنعكس إيجابًا على الكثير من جوانب حياتنا الوطنية وبنياننا السياسي والتنظيمي والاجتماعي والحضاري، بل هي نفسها باتت مهدّدة إلى حدّ كبير بسبب تخلّف نظامنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ذلك يجب أن يطلق جرس إنذار بالحجم نفسه الذي أطلقه الاحتلال، والذي ووجه بمقاومة ذات أهمية تاريخية في ما أنجزته وفي ما يجب أن ترتقي إليه في أسرع وقت ممكن.
هذه المهمة الكبيرة ليست مهمة المقاومة في صيغتها الراهنة فحسب، إنّها أساسًا مهمة كلّ القوى التي تسعى من أجل حرية أوطانها وحرية مواطنيها وكرامتهم وسعادتهم على حدّ سواء.
* كاتب وسياسي لبناني