حسّان الزينليس غريباً أن تحصل الجريمة الثانية في كترمايا، التي نفّذها بعضُ الأهالي أمام عدسات التلفزيونات والهواتف، والقلوب، بالتزامن مع الانتخابات البلدية والاختيارية. علماً بأنها يمكن أن تقع في أي لحظة في لبنان الذي يستبطن الحروب والقسوة، ولديه الكثير من عدّة حماية الجريمة، كما في آليات المجتمع والنظام، كذلك في الثقافة والأخلاقيّات. والطائفية واحدة من تلك الآليات والثقافة والأخلاق. فقد تجاوزت الطائفية كونها نظاماً، يحلو للبعض تسميته ديموقراطياً، وباتت شريعة، أي آليات لحماية الجريمة. وغدا اللبناني، بالجملة والمفرّق، ليس بحاجة إلى مرجعيّة تؤمن له الوظيفة، بالواسطة، وحسب، بل إلى مرجعية تحميه وتغطّيه أثناء ارتكابه الجريمة وبعد ذلك.
الأقسى من استعداد الطاقم السياسي دائماً لتقديم مثل هذه الخدمات، هو استعداد المجتمع اللبناني عموماً لدخول هذه اللعبة، تارة بالتضامن مع القتلة وأخرى بالتبرير لهم إلى حد التماهي معهم تحت شعار لو كنت مكانهم وفعل المجرم لفعلت مثلهم. ويخلص أصحاب هذا الشعار وهذه الأخلاق إلى القول: «يستأهل»، ويُقصد هنا المتهم بقتل الأسرة الكترماويّة.
اللبنانيون باتوا ضحايا أنفسهم، ضحايا يبحثون عن ضحايا، متعطشين، حتى الدولة ضحية متآمرة. فالدولة بلا قانون، ومؤسساتها في خدمة الأهل والشرائع، شرائع الغاب بالطبع. أليست تلك المؤسسات، الأمنية والقضائية، هي من أخذ المتهم، بما يثير الريبة، بُعيد ساعات من وقوع الجريمة الأولى التي قُتلت فيها الأسرة الكترماويّة إلى مكان الجريمة؟
أليس نائباً منتخباً من أبناء تلك المنطقة ويمثل زعامتها الطائفية، من أعلن قبل وقوع الجريمة الثانية أن «المجرم» يجب أن ينال عقابه في ساحة كترمايا؟
وأكثر، ماذا فعلت الدولة، ولا سيما رأس سلطتها التنفيذية التي «تمون» على تلك المنطقة وينتمي النائب ذاك إلى كتلتها وتيّارها السياسي، ماذا فعلت إزاء الجريمة؟ وهل صدفة أن تتعطل آلة القضاء والأمن هناك، ولا تتحرّك شكليّاً إلا بعد إجراء الانتخابات؟ وكما لا ثقة لدى الكترماويين بأن الدولة موجودة وهي من يحقق ويتهم ويعاقب المجرم، فلا ثقة بأن يأخذ القانون مجراه في قضية المتهمين بالجريمة الثانية.
الجميع يتصرف باعتبار أن لا دولة، وفي أفضل الحالات فاسدة.
دورة حماية الجريمة هي نفسها، وعلى حساب الدولة ومشروعها.
هذه نتائج التحريض المذهبي والفساد، وتحويل الدولة وسيلة لتبادل المصالح والحمايات.
تارة تحتاج زعامة الطائفة إلى الحماية وإلى مقاتلين فتستعين بالأهل، وتارة يحتاج الأهل إلى حماية فتخدمهم الزعامة، وتحميهم وتغضّ النظر عن أفعالهم، حتى ولو كانت جريمة علنيّة.
مرّة أخرى، تجاوز السلاح مهمّة أن يكون للغلبة. السلاح صار لادعاء دور الضحيّة وتغذية هذه الشخصية المتحفزة لارتكاب الجريمة المحميّة. ولا حاجة هنا ليكون السلاح في يد مَن يدّعي أنه الضحية، يكفي أن يكون في يد أحدهم لتمثيل دور الضحية المستعدّة لارتكاب الجريمة وتبريرها وتوفير بيئة وآلة سلطة مذهبية لحماية نفسها. وما حالة كترمايا التي قُتل فيها المتهم بالقتل، إلا استعاضة عن قتل من في يده السلاح.
هنا، على حزب الله مسؤولية أنه استعمل السلاح في الداخل، مهما كانت الأسباب. في الوقت ذاته على الآخرين مسؤولية توريط ذاك السلاح في الداخل ورفع الغطاء «الوطني» عنه، ودفع البيئات الطائفية إلى مناخات ومواقف وثقافات وشعارات تخالف قضية سلاح المقاومة.
نعم، هناك رابط قوي، بين استعمال حزب الله سلاحه في الداخل والجريمة الثانية في كترمايا ومشهدها العنيف. فسلاح حزب الله استهدف تلك البيئة ونزع سلاحها وغلبها... وتجلّى تنفيسها الغضب في الجريمة وفي تبرير الجريمة.
لا تكتمل الصورة في حال الاكتفاء بهذه الثنائية، لا سيما أن الدولة ليست غائبة بسبب استعمال حزب الله سلاحه في الداخل. الدولة كانت غائبة قبل ذلك، وقبل ولادة سلاح حزب الله والمقاومة، بل إن المقاومة وسلاحها ولدا من ردة الفعل على غياب الدولة، على الحدود وفي الداخل.
إذا كان الأمر لا يستقيم، ودائرة الخوف المُتَمَذْهب لا تتوقف عن الاتساع، إلا بتراجع حزب الله عن مديح اليوم المجيد في أيار 2008، فإنه في المقابل، لا يمكن مشروع الدولة أن يستعيد نفسه ودوره، إلا بإعادة الآخرين صوغ خطاباتهم. فأن تُتَفهّم دوافع موقف البطريرك نصر الله صفير، الذي أعلنه بعد حادثة عيون أرغش، عن حق المجتمعات بحماية نفسها ذاتيّاً، لا يعني أبداً تجاهل أن هذا الموقف يناقض مشروع الدولة وخطاب البطريرك نفسه.
لكن الخطابات اللبنانيّة كلها لا خطاب البطريرك وحده، تخون نفسها ومنطقها، والأهم أنها تغذي مشروع خيانة الدولة لا مشروع الدولة، تغذي الغرائز وتعطل العقلانية. فمنطق البطريرك مغطّياً الحمايات الذاتية للمجتمعات ينتمي إلى منطق استعمال السلاح في الداخل، ولا يناقضه إلا من موقع مذهبي. ما يعني أنه يبيح السلاح ويغطّي استعماله في الداخل، إذا كان لمصلحته ومصلحة جماعته. وهنا المأساة.
خلاصة القول، إنه قبل أن يناقش المتحاورون واللبنانيّون استراتيجيتهم الدفاعية، أو على الأقل بالتزامن مع مناقشتها، عليهم أن يناقشوا دفاعاتهم النفسية والأخلاقية والخطابية. فهذه باتت صواريخ سكود تُستعمل في الداخل. صارت كترماويّة وبلديّة وشعارات تبرر القتل لا الغلبة وحسب.