strong>معتصم حمادة*امتاز سلام فياض بأنه طرح مشروعاً لقيام الدولة الفلسطينية مدته الزمنية سنتان تنتهيان في آب (أغسطس) من عام2011. ويتكوّن المشروع من ثلاث حلقات.
الحلقة الأولى بناء البنية التحتية لمؤسسات السلطة، بحيث حين تحل لحظة الاستحقاق يكون بحوزة الفلسطينيين كل ما من شأنه أن يقيم الدولة: وزارات، وأجهزة إدارية وأمنية وخدمية. في هذا السياق، طرح فياض خطة المشاريع الألف الأولى، وهو بصدد طرح خطة الألف الثانية.
الحلقة الثانية، هي «المقاومة السلمية» للاحتلال والاستيطان، معلناً رفضه اللجوء إلى «العنف» مهما كان شكله. وهو في شرحه للمقاومة السلمية يستشهد بتجربة غاندي ومارتن لوثر كينغ.
الحلقة الثالثة هي التحرك السياسي لمنظمة التحرير، أي العملية التفاوضية، تحت سقف خريطة الطريق الدولية، بتفسيراتها الغامضة والمتباينة.
ليست الصدفة هي التي قادت فياض إلى طرح مشروعه هذا، الذي به تجاوز حدود صلاحياته رئيساً للحكومة. فمشروع فياض يخفي وراءه رجلاً سياسياً له منظومة أفكار عبّر عنها في أكثر من مناسبة، أكثرها وضوحاً حديثه إلى «هآرتس» في 2/4/2010.
يقول فياض:
- لا مشكلة لي مع الفكرة الصهيونية.
- لا اعتراض لي على أن إسرائيل هي أرض التوراة.
- الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي ينتميان إلى قيم مشتركة.
- نعتمد المقاومة السلمية للوصول لأهدافنا. مثالنا غاندي ومارتن لوثر كينغ.
- لدينا، كما لديكم، معتدلون ومتطرفون. والصراع الحقيقي هو بين هذين التيارين.
- نطلب وقف الاستيطان في الضفة. لديكم في إسرائيل أودية وسهول وتلال يمكن استيطانها.
- نجهّز البنية التحتية لاستقبال اللاجئين على أرض الدولة.
- نحن ضد كل أشكال التحريض ضدكم وسنعمل على وقفه.
وإذا ما حاولنا أن نقرأ هذه الأقوال نجد أنفسنا نقف أمام النتائج التالية:
- فياض لا ينكر اعترافه بحق إسرائيل في الوجود، انطلاقاً من موقفه المسالم من الفكرة الصهيونية.
- يعترف بإسرائيل دولة يهودية انطلاقاً من كونها أرض التوراة.
- يزيّف الواقع والتاريخ عبر الحديث عن القيم المشتركة، متجاهلاً أن إسرائيل قامت على الاغتصاب والقتل والتهجير، وأنها جزء من مشروع تقوده واشنطن للسيطرة على العالم، بالمقابل يشكل المشروع الفلسطيني مشروعاً للتحرر الوطني من الاحتلال والاستيطان. وفي إشارته إلى القيم المشتركة يصبح فياض أقرب إلى تبني الرواية الصهيونية للصراع.
- يزيف فكرة المقاومة السلمية، وتاريخ غاندي ومارتن لوثر كينغ. صحيح أن هذين العظيمين اعتمدا المقاومة السلمية في صراعهما ضد الاستعمار البريطاني في الهند وسياسة التمييز العنصري في الولايات المتحدة. لكن الصحيح أنهما لم يفسرا المقاومة السلمية أنها تلك التي لا تتصادم مع الطرف الآخر، وتكتفي بالهتاف ضده من بعيد. فالملاحظ أن أجهزة الأمن التابعة لفياض تتصدى للتظاهرات الشعبية وتمنعها من الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة، مما يقلب الآية، فيصبح فياض مع «المقاومة العنيفة» في ردع التحرك الشعبي الذي يحاول أن يخرج من تحت سقف قراره السياسي. ويفسر أركان فياض هذه السياسة بالقول إن اللجوء إلى العنف ضد الاحتلال سيوفر له ذريعة لتدمير ما بنته السلطة من مؤسسات تشكل البنية التحتية للدولة المستقلة، مستشهدين بما قامت به قوات الاحتلال من تدمير السلطة لمؤسسات ومقارها، عامي 2000، و2002. في محاولة لزرع مفاهيم جديدة في أذهان الناس تقوم على العداء للمقاومة، وتسليم المصير لمشاريع الرباعية والراعي الأميركي. وهكذا تتحول المقاومة السلمية إلى سلاح ضد المقاومة الحقيقية ودعوة للاسترخاء والإيمان بحتمية ولادة الدولة الفلسطينية، وتسليم الأمور لقبضة من السياسيين، هم وحدهم يقررون مصير شعب بأكمله.
وفي موقف ذي مغزى فاضح، يتطوّع فياض ليرشد الإسرائيليين إلى ضرورة استكمال تهويد الجليل الفلسطيني من خلال استيطان ما بقي منه من تلال وسهول وأودية على تعبيره.
ويستمر فياض في كشف مواقفه السياسية حين يعترف بأن حل قضية اللاجئين هو توطينهم في الضفة، وأنه بصدد بناء البنية التحتية لاستقبالهم بعد قيام الدولة الفلسطينية. وبذلك يكون فياض قد نصّب نفسه ممثلاً للفلسطينيين وأعطى نفسه الحق في تقرير مصير اللاجئين، بما ينسجم مع السياستين الأميركية والإسرائيلية.
مشروع فياض لقي ترحيب اللجنة الرباعية ولعله السياسي الفلسطيني الأول (والوحيد) الذي تتحدث عنه الرباعية بإيجابية في أحد بياناتها.
بدوره مدح شمعون بيريز، مشروع فياض، ورأى في الرجل بن غوريون فلسطين. لكن يبدو أن ذاكرة بيريز قد ضعفت. فالفارق بين الاثنين كبير جداً. فبن غوريون كان سياسياً من نوع آخر، انسجم مع المشروع الصهيوني وفلسفته التاريخية. وبنى أجهزته العسكرية والأمنية، واعتمد عليها لبناء دولته الصهيونية، فالعامل الذاتي الإسرائيلي كان العامل الرئيس في صناعة الحدث ورسم المصير وصياغة القرار. في المقابل يحاول فياض أن ينأى بنفسه عن كل مظاهر المقاومة ويراهن على العامل الدولي في صناعة الدولة الفلسطينية، وما كُشف عنه، عبر المشاريع المتداولة، أن دولة فياض لن تكون مستقلة، ذات سيادة، ولن تستعيد الأراضي المحتلة منذ الخامس من حزيران.

هكذا تتحوّل المقاومة السلمية إلى سلاح ضد المقاومة الحقيقية ودعوة للإيمان بحتمية ولادة الدولة الفلسطينية
فالأراضي سوف تخضع لمبدأ التبادل لمصلحة المستوطنات وجدار الفصل العنصري. والقدس ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، إلا إذا رأى فياض أن العيزرية وأبو ديس وجوارهما هي القدس البديلة. ولن يكون للدولة سيادة على حدودها ومعابرها بل ستخضع لقوات دولية تحت علم الحلف الأطلسي. وهو يعني أنها لن تكون حرة في منح جنسيتها لمن تشاء، أو استقبال من تشاء من فلسطينيي الشتات، وإن نظرة إلى «وثيقة جنيف البحر الميّت» التي تعدّ مرجعاً رئيسياً للجنة الرباعية في رسم مستقبل الدولة الفلسطينية، ستوضح لنا كم هو هش وبائس مشروع فياض.
يدرك فياض، بطبيعة الحال، ما يمكن الحصول عليه في نهاية المطاف، إذا ما سار على الطريق الذي رسمه. ويدرك أن ما سوف «يتدخل» العالم لمنحه للفلسطينيين في ظل غياب العامل الذاتي الفلسطيني، سوف يتنازل لمسافات بعيدة عن المشروع الوطني الفلسطيني. لذلك يمهد فياض لمثل هذا الاستحقاق بخطوات تتوزع على محورين اثنين:
المحور الأول توفير قاعدة لمشروعه، عبر اجتذاب النخب السياسية والإعلامية، للترويج لمشروعه عبر المنابر المختلفة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية عبر الخدمات التي يقدمها للفلسطينيين باعتبارها جزءاً من مشروعه. هنا يلفت النظر كيف أن اللجنة الرباعية توفر له الدعم الضروري، و أن موازنة السلطة ارتفعت أخيراً من 1،7 مليار دولار إلى 2،8 مليار. هل يعبّر مشروع فياض عن سذاجة أصحابه السياسية، أم هم يعرفون جيداً ماذا يطرحون، وماذا يفعلون؟
بتقديرنا إن فياض يدرك حقيقة مشروعه، وما سوف يقود إليه. وهو يتقاطع في كثير من جوانبه مع مشروع طوني بلير، مبعوث اللجنة الرباعية. ولا نعتقد أن مشروعاً بحجم مشروع فياض هو من إنتاج عقل فرد، بل إننا أقرب إلى الجزم بأن هذا المشروع هو صياغة جديدة لخريطة الطريق، ووثيقة «جنيف البحر الميت» تبنّاها فلسطينياً الرجلُ الثاني في السلطة، بعدما ارتدت ثوباً فلسطينياً لتدلل على أنها إنتاج وطني.
إن أخطر ما في فياض أنه يحاول أن يؤدّي دوراً خطيراً في الحالة الفلسطينية، هو أقرب إلى دور حصان طروادة.
* كاتب فلسطيني