خليل عيسى*إنّ قراءة بعض النصوص عن العلمانية في لبنان لهو أمرٌ لا يخلو من استثارة الفكاهة المرّة عند القارئ اللبناني. هذا ما أحسسنا به عندما قرأنا محاولة السيد همّام الرفاعي في مساءلة العلمانية والعلمانيين في لبنان من خلال تقديم التاريخ على أنّه مجموعة سرديات مختلفة، لكن متشابهة في قيمتها العلمية والأخلاقية. فالتاريخ لديه يصبح في تلك الحالة ملعباً عمومياً ومفتوحاً للمؤرخ والناقد والمعلّم الأخلاقي، كما الروائي على حد سواء، يتعدى الكلّ فيه على كار الآخر!
والحال أنّ السيّد الرفاعي في مقالته «عكس السير: خواطر حول العلمانية اللبنانية» (انظر الأخبار، عدد 1112) يختلق سرديتين للتاريخ اللبناني، سردية «علمانية» وسردية «طائفية». وبقدر ما هما وهميّتان، هما أيضاً متساويتان في اعتباطيّتَيْهِما ومخايلتَيْهِما للواقع التاريخي. كل ذلك من أجل تثبيط همّة أي شخص يتبدى له أنّ النظام الطائفي في لبنان هو المشكلة وأنّ في تغييره يكمن الحل. فالمشكلة بالنسبة إلى السيّد الرفاعي هي سردية للتاريخ ثقافوية في الأساس، تصبح فيها «العلمانية» شعاراً مملّاً يردده أشخاص هم لاديموقراطيّون لأنّهم لا يريد للطوائفيين أن يعبّروا عن وجهة نظرهم ـــــ كأنما المسألة ليست سلطة ومنافع، بل هي مجرّد وجهات نظر ـــــ وهم أيضاً خارج النقاش «الجاد» لأنّهم لم يفهموا بعد أنّها (أي العلمانية) «خرجت عملياً من ميدان النقاش الأيديولوجي الجدي واعتراها ما اعترى السرديات التاريخية الكبرى من جمود وترهل». وتأتي الدعوة الى العلمانية في لبنان، برأي الكاتب، بمثابة إشارة الى وجود روح نكتة «دائمة» عند اليساري اللبناني في أحسن حال، ودليل على جهله الطفولي بما يحدث في العالم في أسوأ الأحوال. وفي هذه الحالة، يصبح هناك شخصان يتنازعان على الأحقيّتين التاريخية والأخلاقية: «علماني» يتهم الطائفي بكل مساوئ النظام، وإنسان طائفي في رأيه أنّ الأمور بألف خير لأنّ الطوائف سمات ثقافية، أزلية ـــــ بل لا يحقّ للفرد تغييرها! ـــــ لولا وجود العلماني الذي «يفتعل» المشاكل وأكبرها... الحروب الأهلية!
من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ الحداثة ـــــ والماركسية أهم أعلام الفكر الحداثي ـــــ بما هي لجوء إلى العقل في أمور الإنسان الأرضية، ودعوة للعلمانية أي لفصل المؤسسات الدينية عن التنظيم السياسي للدولة القومية، واعتبار التاريخ عِلماً يمكن دراسته واستنباط النتائج منه، باتت تتعرّض للهجوم منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي مما أصبح يعرف بالمدرسة الما بعد حداثوية والتي بدأها الفيلسوف الفرنسي ليوتار. وترفض الما بعد حداثوية هنا أي سردية شمولية للتاريخ بحجة أنّ أي سردية مطلقة للتاريخ تخفي أهدافاً أيديولوجيةً. وبما أنّ كلّ الأيديولوجيات تتماثل في انعدام «براءة» أطروحاتها، يرفض الأوروبي كل تلك السرديات إلّا بما هي ممكّنات روائية متساوية. والحق أنّه إذا كان من المفيد الاستماع الى مختلف التيارات النقدية للحداثة الأوروبية المنشأ من أجل لجم النزعة الثقافية الأورومركزية لأفكار عصر الأنوار والماركسية عند مقاربة واقع العالم الثلاثقاري (آسيا، أفريقيا وأميركا اللاتينية)، فإنّ قدرة الماركسية على التكيّف أثبتت جدواها التاريخية وقدرتها على إيجاد أجوبة متعددة في مختلف الأمكنة والأزمنة منذ حروب التحرر من الاستعمار حتى اليوم. ولذلك، فإنّه يمكن القول إنّ ما بعد الحداثويين لا يقلّون مركزية أوروبية في نزعتهم الفكرية عن أخصامهم: فالحداثوية التي اتُّهمت بمحاولة فرض رؤية واحدة للتاريخ على باقي العالم والتي انطلقت من أوروبا، تعرّضت للهجوم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وها هي تُصَدَّر اليوم الى العالم الثلاثقاري من قبل بعض المثقفين الذين ينسون أنّ الما بعد حداثوية هي أولاً وأخيراً هيمنة ايديولوجية تساند عملية الاستهلاك الثقافوي والذي أصبح سِمَة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في عصر النيوليبرالية، وهي بذلك تؤسس لنزعة ثقافوية اختزالية للإنسان. فليس هناك بعد اليوم أيّ طريق للتقدم والتطور ـــــ رغم الطبيعة المتخلفة للاقتصادات الثلاثقارية والتابعة للمركز الإمبريالي الأوروأميركي ـــــ ولذلك فالمفترض بالماركسيين والعلمانيين الثلاثقاريين أنّ يقلّدوا ومن جديد الما بعد حداثويين الأوروبيين الضجرين من حداثتهم والتي حققها لهم أجدادهم... في مللهم!
فهل يعتبر الكاتب أنّ بلداً يقوم نظامه السياسي ـــــ الاقتصادي والاجتماعي بتجديد حروب أهلية طائفية دامية منذ عام 1860ـــــ وللتذكير فقط أنّه في تلك السنة لم يكن هناك يسار «علماني» يخرّب على الطوائف جنّتها المصونة ـــــ لا يجدر البحث بإعادة تركيبه على أسس علمانية من أجل بناء مجتمع أكثر عدلاً وأماناً؟ كيف لا نفهم أنّ مجرّد وجود يسار علماني لم يطالب إلّا بإصلاح النظام في البدء، يُلام هنا بالتساوي مع الميليشيات الطائفية التي قاتلت على جانبي خط التماس من أجل توسيع مناطق النفوذ؟
إنّ تحليل الكاتب الذي يقتصر على بنى الخطاب دون ربطه بالواقع يفشل في الإشارة إلى أنّ من يطالب بالعلمانية اليوم، يطالب أساساً بقانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يساوي في الحقوق الدستورية بين اللبنانيين وبقانون نسبي للانتخابات النيابية على أساس الدائرة الواحدة. ويمكن حينها أن يُطبّق اتفاق الطائف الذي يعطي مجلس شيوخ للطوائف ومجلساً نيابياً بلا قيد طائفي. لم تناقش الحداثة مسألة العلمانية الا باقترانها الوثيق بالديموقراطية مع أنّ عبثية الكاتب هنا تنتهي بالطرح، الغريب العجيب، أنّ الدولة في لبنان مُقامة على أسس علمانية! ولذلك نشير عليه بقراءة المواد 5 و9 و95 من الدستور اللبناني ليدلّنا على»العلمانية» التي يقصدها والتي لا نعلم بها حتى اليوم. ولا تنتهي هذه العبثية إلا مع آيات مديح علمانية تركيا التي نسيَ الكاتب أنّ جنرالات الجيش كانوا وما زالوا يحكمونها تحت حجاب الحداثة المزيّف. أما الأحزاب الإسلامية، وبعدما كانت أحزاباً احتجاجية تمثّل الطبقات الشعبية في الثمانينيات، أعيد إنتاجها من خلال النيوليبرالية اليوم، بما هي أحزاب بورجوازية اندمجت في النظام العالمي، ولم يبق في النهاية من تلك النزعة الاحتجاجية الا النزر اليسير...
ويناقض الكاتب نفسه بإشارته الى «الطابع التقدمي المرحلي للرأسمالية»، مع أنّه أعلن من قبل استياءه من «النظام الرأسمالي العالمي المنخور بالفساد»! كلّ ذلك واليسار الثلاثقاري لم يتبنَّ يوماً وخصوصاً خلال الحروب ضد الاستعمار مقولة ماركس في الطابع التقدمي للرأسمالية، بل اعتمد النظام الاشتراكي، وإلّا فأيّ يسار يكون ذلك؟ ثم لا تلبث أن تتجلّى النزعة الشمولية للكاتب ـــــ والذي يتّهم العلمانيين بأنّهم شموليين ـــــ بقوله «إذا كان المقصود هو قانون الأحوال الشخصية، فهو ليس قسرياً ولا إلزامياً. ومن لا يعجبه قانون الأحوال الشخصية الخاص بطائفته وما ينفك يحاضر بالعلمانية ليل نهار، فليغير طائفته»، مع التغاضي عن الأثمان الاجتماعية المرتفعة التي يدفعها هؤلاء لقاء خطوتهم تلك!

إنّ ما بعد الحداثويّين لا يقلّون مركزية أوروبية في نزعتهم الفكرية عن أخصامهم
وينزح الكاتب أكثر فأكثر نحو المحاضرة الأخلاقية، إذ إنّه يقرر أنّ من يطالبون بنظام علماني هم «طائفة» يتحسسّون من «كفر الطائفيين بنعمة العقل... وغبائهم» كأنّ الموضوع يتعلّق بإرادات بشرية لاعقلانية، من قبيل الشر والغباء وليس بنظام يدخل في أزمة تناقضات كلّ فترة لتنتهي بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وذلك باعتراف الكاتب نفسه. ولنا أن نرى في الحوادث التي أدت الى 7 أيّار 2007 شواهد على فشل نظرية «النيات الحسنة للطائفيين» وعلى عدم قدرتهم على كبت جماح النظام الطائفي التحاصصي والذي كاد أن يبتلع بلداً بأسره! وإذا كنّا نعتقد بأنّ المطالبة بنظام علماني بشكل فولكلوري، وهنا نوافق مع الكاتب، بدون أيّ برنامج سياسي واقتصادي اجتماعي هو أمرٌ لا معنى له، فهذا لا ينفي وجود أكثرية صامتة في المجتمع اللبناني قد لا تتردد في قيادة مشروع كهذا إذا وُجد. ومقابل اتهامه أنصار النظام العلماني في لبنان بالبرجزة والنخبوية، وهي للمفارقة من نوع الاتهامات التي يسوقها اليساريون عادة بوجه أعداء «الثورة»، يأتينا نفَسُ الكاتب الإسلاموي ليحلّ علينا برداً وسلاماً بدعوته هؤلاء الى العمل على «التقريب بين الملل والنحل المتنازعة»... ربما على الأحزاب العلمانية أن تعمل بنصيحة السيّد الرفاعي وتتخصص بالفقه الإسلامي واللاهوت المسيحي من الآن فصاعداً... باسم الآب وباسم الله!
* باحث لبناني