وائل عبد الفتاحعلى ماذا يتحدّ العرب في «اتحادهم» الجديد؟ وماذا فعلت عروبة الجنرالات منذ الخمسينيات؟ أسئلة لا يجيب عنها القادة الخمسة في طرابلس، ولا القادة العشرون أو ما يزيدون. القادة هم صنّاع المأساة وهم يرغبون في حلّها. قادة تاريخيون بدون تاريخ إلا الاستمرار في الحكم أو القفز عليه. يريدون ترميم ما أكلته الأيديولوجيا والخطابات الفخمة من رابطة بين عالم عربي ينسى المصالح ويقيم جسوراً من نرجسية مجروحة تريد عودة الأمجاد القديمة، بمجرد الغناء لها. عروبة الجنرالات ذهبت إلى مقبرة الجامعة العربية ولحقت بعروبة ملوك وأمراء الثورة العربية على الإمبراطورية العثمانية.
الميت لا يريد أن يُدفن. يريد أن يَدفن كل شيء معه. وفي صراع الأموات ليس غريباً أن تعود أشباح الخلافة والسلاطين وسلطات الكنيسة وكل ما قد دخل إلى المتحف ويزور الناس في العالم مقاماته، يعود في العالم العربي إلى الحياة، بينما الدول القومية الكبرى تذوب تحت إيقاع كوزموبوليتاني، يعيد صياغة العالم، وفق قواعد جديدة. وكما يشهد المونديال الحالي، يلاعب الغاني فريقه الأصلي بقميص ألماني، في لعبة لم تنته فصولها، لكنها تذهب إلى صورة جديدة للعالم، لا تتحكم فيها أيديولوجيات عرقية مغلقة.
العنصرية القديمة ما زالت تقاوم، لكنّ قانون المصلحة يغيّر اللعبة كلها، وهو ما لم يتعلمه العرب، الذين ما زالوا يجيّشون شعوبهم تحت راية وطنية متعصّبة، تنفي الآخرين، وتعلي العصبة على كل ما عداها، ليصبح القائد هو التمثيل الأعلى للبلد وأصالته.
وطنية العسكرتاريا تريد أن تنزل الملاعب الرياضية، أن تحوّل الفريق الرياضي إلى فصيل في الجيش، يحارب باسم البلاد. الخسارة هنا لا تحمل المرارة التقليدية للمشجعين في الرياضة، ولكنها جرح وطني.
الفارق كبير، وخصوصاً عند المهزومين في المعارك العسكرية، والمنتصرين في حرب الاستبداد الكبرى، التي تقود العالم العربي إلى كارثة التلاشي، أو التحول إلى مقلب قمامة خلفي، يتخلص فيه الأقوياء من نفاياتهم، السياسية والعسكرية.
إنها دول الشمولية الرخوة، في قمة انتصارها، تريد أن تنقل العرب من كارثة إلى كارثة. تتحرّش «حماس» بمصر بشأن المصالحة وتسليم الأسرى، وتتعقّد علاقات مصر بالجزائر في صراع الجبهات الكروية، وتبحث قطر عن دورها بين الأطلال، بينما تسجّل الأرقام الرسمية رفض الشعب للتغيير، ويقاوم المجتمع في السعودية دخول الحداثة، وتبقى ليبيا أسيرة قائد لا يقود إلى شيء، وفي لبنان ليس هناك أحد خارج عن نص الطوائف.
هكذا يتحوّل العرب إلى أقليات في الخارج، بينما في الداخل أسرى حرب الاستبداد الكبرى. تتحالف الأنظمة ومناصروها في الخارج على بقاء المجتمعات في حفرة أقامتها دول التحرر من الاستعمار، التي تحولت إلى استعمار وطني أصعب في التخلص منه.
جنرالات الاستعمار الوطني يريدون مزيداً من الحياة، ويشعرون بالانتصار في حرب الاستبداد، يحرمون التفكير في تداول السلطة، ويحولون الكلام عن المستقبل السياسي إلى مدينة ملاه يتسلّى فيها المجتمع بالخرافات والأساطير. وها هي الدكتورة سعاد صالح التي حصلت على إعارة إلى حزب الوفد، بعدما أدّت خدمات جليلة إلى الحزب الوطني والنظام، في إطار عملها الافتراضي كمفتية للنساء.
لا يعرف أحد من أعارها إلى حزب الوفد، ولا لماذا وقفت أمام كاميرات الصحافيين لتوقّع مع رئيس الحزب الدكتور سيد البدوي، استمارة العضوية.
ماذا تفعل الدكتورة سعاد في حزب يعتمد على السياسة، أي النسبي والمتغيّر، وهي تخصّصت في إطلاق الفتاوى، وتتصور أنها لا تنطق عن الهوى، وأن كلامها هو الكلام النهائي للإسلام.
فتاوى الدكتورة سعاد ليست في اتجاه واحد، أي إنها تغضب المتشددين وتثير دهشة الباحثين عن التسامح. هكذا يثور ويغلي الدم في عروق عشاق النقاب عندما تبدي الدكتورة رأيها في «شرعية النقاب». وعلى الضفة الأخرى، يغضب المتحررون من سطوة الدين الشكلي عندما تحرّم الدكتورة استخدام «جوزة الطيب» في الطعام ، لأنها قد تثير الشهوة.
لا أعرف في الحقيقة المدى العلمي للدكتورة في مجالات الفقه، لأنني أرى وجهها التلفزيوني، وهو وجه ناجح بالنسبة إلى طرفين مهمين في صناعة التلفزيون. الأجهزة المهيمنة من خلف الكواليس، بالنسبة إليهم، الدكتورة سعاد «صورة مثالية» لدعاة يسيرون بجوار الحائط، ولا يخبطون به.
الطرف الثاني جمهور يبحث عن فتوى تشعره بأنه مؤمن، من دون أن تربك له منظومة حياته كما يفعل الغلاة والمتشدّدون والمغرمون بتعذيب الناس ونشر الشعور بالذنب.
الدكتورة لم تمارس عملاً سياسياً، وألعابها تدور في إطار الحياة الاجتماعية، أو في جلسات تدغدغ مشاعر المؤمنين، وتؤكد لهم أن دينهم أفضل دين، وأنهم أعلى من الآخرين الذين آمنوا بأديان أخرى.
لكنها عندما لعبت في ملعب غريب، وهو السياسة، كشفت عن وجه، أقل ما يقال عنه إنه قبيح. الدكتورة وصفت بسهولة شديدة جميع المؤمنين بأديان أخرى بأنهم كفار. وهذه جريمة كبرى. فعلت هذا لتبرر رأيها في أنه لا يجوز للمسيحي أن يتولى رئاسة مصر.
من قال إن المسيحيين في مصر أهل ذمة؟
المسيحي من أهل الذمة بالنسبة إلى دولة الخلافة. هي دولة انتهت. ولا يمكن أن تعود، كما لن تعود إمبراطوريات الاستعمار الكبرى. دولة الخلافة حالة سياسية وليست من أساسيات الدين.
وهذا ما لا تعرفه الدكتورة سعاد… ولن تعرفه، لأن حضورها في الحياة السياسية ابن فوضى يبحث فيها المجتمع عن فتوى، ويقول فيها كل من يتصوّر في نفسه مالكاً للحقيقة ومتحدثاً باسم جوهر الدين، ما يفسد حياة كاملة ويدمر مجتمعاً يعيش عصر انحطاطه فعلاً.