strong>سلمان عبد الحسين *في ظل وضوح حركة المحاور الإقليمية في المنطقة، وتكثّف حال الاصطفافات مع هذا الطرف أو ذاك، ووضوح عناوين الصراع السياسي والعسكري والاقتصادي والأمني ومنطلقاته، وتوسّعها وامتدادها على أكثر من جغرافيا سياسية، صار لا بدّ من طرح سؤال الحسم في المنطقة وسيناريوهاته المتوقّعة، بعدما بلغت حال الصراع أشدّها، وتكبّدت بعض أطراف الصراع خسائر فعلية، فيما حقّقت بعضها إنجازات موضعية أو جزئية قابلة للتمدّد والتوسّع إذا استطاعت كسر التوازن بينها وبين الطرف الآخر أكثر فأكثر.
فمن الواضح مثلاً: أنّ المقاومة في لبنان، ممثّلة في سلاحها وقدراتها العسكرية المتزايدة يوماًً بعد يوم، هي عنوان من عناوين الصراع مع الكيان الصهيوني بطريقة مباشرة، ومع المحاور الإقليمية المناوئة لها سواء كانت عربية أو غربية بطريقة غير مباشرة، وسؤال الحسم يطاولها حتى في ظل معادلات الردع التي تفرضها على العدو الصهيوني، لتؤخّر من سؤال الحسم مدة أطول.
سوريا أيضاً تدخل ضمن دائرة سؤال الحسم من موقع الرديف والظهير وفقاً للدور الذي تقدّمه في حماية ظهر المقاومة من جهة، وفي إمدادها بالقدرات العسكرية التي تمكّنها من الجهوزية الدائمة للمواجهة من جهة أخرى. والثمن الذي يمكن أن تدفعه نظير هذا الدور، في ظل مؤشرات تؤكّد أنها تتقدم لتكون محور مواجهة عسكرية أيضاً، لا محوراً داعماً فقط، بتأكيدها على جهوزيّتها لتكون طرفاً في أيّة حرب مقبلة.
أمّا إيران، فهي مركز الصراع الإقليمي حالياً، ومركز استقطاب الحلفاء والمناوئين على خلفية الدور الاستراتيجي الذي تؤدّيه في تظهير المشروع المناوئ والنقيض للمشروع الأميركي بتعدّد الجبهات المعادية للمشروع الأميركي التي تدعمها إيران، وقد يكون البرنامج النووي الإيراني هو عنوان الصراع الظاهري بينها وبين الأميركان، ولكن حقيقة الصراع ترتبط في الأساس بالمشروع النقيض للمشروع الأميركي، في ظل انهياره في أكثر من جغرافيا سياسية، وحلول المشروع الإيراني بدلاً عنه، كما هو واضح في العراق ولبنان وفلسطين.
هذا هو المحور الأساسي لما يسمّى خطّ الممانعة في المنطقة، وقد أعلن عن نفسه في قمة دمشق في اللقاء الذي جمع الرئيسين السوري والإيراني والأمين العام لحزب الله.
وسبب كونه محوراً أساسياً مع وجود جهات تحمل التوجّه ذاته، مثل حركات المقاومة في فلسطين كحماس والجهاد الإسلامي، هو أنّ كلاً من إيران وسوريا وحزب الله كيانات ناهضة بذاتها، وتملك مقوّمات المواجهة الناجزة والقادرة على تحقيق الهدف، فيما الجهات الأخرى ما زالت في دائرة الحصار السياسي والأمني والاقتصادي الذي يفرضه عليها المشروع المناوئ، سواء كان احتلالاً أو جهة نقيضة في الدور والمشروع السياسي لهذه الجهات.
بعد هذا التوصيف يمكن طرح مجموعة أسئلة تمثّل عمق سؤال الحسم وجوهره الإشكالي أمام المعنيّين بالأمر. وهي: هل وجود فرص للحرب من عدمها في المنطقة مرتبط فقط بما يفرضه الطرف الممانع من توازنات عسكرية وسياسية بما يصعّب من مهمّة الحرب على الجهات الطالبة لها، في ظل تداعي المشروع الأميركي وخسارته عسكرياً وسياسياً في أكثر من جغرافيا سياسية؟!! أم أنه قد يكون مرتبطاً بحسابات غير منطقية وتطوّرات مفاجئة قد تفرضها الوقائع على الأرض؟!
ولتحديد الصورة أكثر: إلى أيّ مدى يمكن أن تصبر إسرائيل على تسلّح حزب الله وتعاظم قدراته وقوته العسكرية، وبالتالي: تثبيت معادلات الردع التي يفرضها عليها، من دون أن يكون لديها القدرة على وقف نمو هذه القوة العسكرية؟!! هل ذلك خاضع للحسابات المنطقية التي تفرضها معادلات السياسة؟ أم أن هناك فرصاً للحسابات غير المنطقية وغير المتوقّعة مع تزايد هستيريا الخوف والقلق من هذه القوة العسكرية؟!!
أما بالنسبة إلى إيران، فالسؤال هو ذاته في ما يتعلق بعلاقتها مع الأميركان، على خلفية الدور الذي تؤدّيه وتمدّد نفوذها في المناطق التي يتراجع فيها النفوذ الأميركي بعد الأثمان الباهظة التي دفعها الأميركان لتثبيت هذا النفوذ، فضلاً عن الجهوزية العسكرية للإيرانيّين والاستعداد للمواجهة الذي يتعاظم كلّما تراجعت فرص الحرب في المنطقة، والاكتفاء الذاتي بحقول الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، والقدرة على استقطاب حلفاء وشركاء (تركيا والبرازيل نموذجاً) بما يضعف كل عوامل الضغط والحصار الاقتصادي الذي يفرضه الأميركان على الإيرانيّين.
فإلى متى ستكون إيران قادرة على تمديد فترة المواجهة غير الحاسمة مع الأميركان؟!! وإلى متى سيصبر الأميركان على هذا النوع من التمديد في ظل قدرة الإيرانيّين الفائقة على التملّص وإيجاد المخارج؟!!
إنّ التوجّه الحالي للقيادات السياسية المعنية بأمر المواجهة والحرب هو الاعتماد ظاهراً على ما يُفرض على الأرض من توازنات ردع لاستبعاد شبح الحرب عن المنطقة، من دون نفي الصفة العدوانية عن الكيان الصهيوني أو الأميركان، وهذا ما هو واضح في خطاب حزب الله وقادته على مستوى التهديد الصهيوني لجنوب لبنان، ويجري إعطاء هذه الفرضية صدقيةً أكبر بالكشف عن المعادلات العسكرية الجديدة التي يعلنها حزب الله بين مناسبة أخرى.
هناك مؤشرات قوية لفرضية الحسابات اللامنطقية في نشوء الحرب في المنطقة
لكن قد يكون هذا الخطاب المطمئن إلى عدم وجود حرب مقبلة على لبنان أو إيران أو سوريا من جانب الكيان الصهيوني أو الأميركان هو خطاب الظاهر حتى مع وجود مصاديق قوية على الأرض تدعم هذا الخيار. غير أنّ العقل الباطن للقيادات المعنيّة بالأمر لا يستبعد أبداً فرضية الحرب وفقاً للحسابات غير المنطقية، وإرسالها التطمينات بعدم وجود حرب قد يكون جزءاً من التمويه الواعي الذي يحسب حساباً لخيار الحرب من دون أن يعلنه، تماماً كما أنّ العدو الصهيوني يرسل إشارات بعدم رغبته في خوض حرب كتمويه طويل الأمد حتى تحين لحظة الحسم حينما يتراخى الطرف الآخر ويطمئنّ إلى الإشارات المموّهة.
إنّ هناك مؤشرات قوية لفرضية الحسابات اللا منطقية (حسابات الجنون) في نشوء الحرب في المنطقة، وهذه الحسابات مرتبطة بالآتي:
أولاً: في ما يتعلق بالكيان الصهيوني، فإن الأسئلة الوجودية المرتبطة بأصل بقاء الكيان الصهيوني من عدمه، بدأت تتحول من أسئلة يمكن السيطرة عليها إلى أسئلة هستيرية مجنونة، في ظل لعب المقاومة الإسلامية بالسيكولوجيا العامة لشعب الكيان الصهيوني، وملامستها لأدقّ التفاصيل الباعثة على الذعر، وتُعدّ توازنات الرعب التي يفرضها حزب الله أهمّ عناصر الهستيريا، وقد تكون المفارقة أنّ إحساس الكيان الصهيوني بالعجز أمام هذه التوازنات هو أحد أهمّ عناصر الدفع باتجاه حسابات الجنون في الحرب المقبلة.
أما بالنسبة إلى الأميركان، فقد تأخذ الحسابات اللا منطقية دورها في الدفع بخيار الحرب حينما يضمر النفوذ الأميركي في المنطقة، ويصبح العجز والتراجع والتقهقر مؤجّجاً لحسابات الجنون، وفي هذا المجال: قد يكون تراجع الدور الأميركي في العراق مثلاً لمصلحة الدور الإيراني، بعد الكُلَف الباهظة التي دفعها الأميركان من جراء احتلال العراق، عنصر الهستيريا الذي يدفع باتجاه الحرب، حتى مع انعدام مقوّمات الحرب، أو انعدام القدرة على خوضها. هذا يعني أن حسابات الجنون واردة بدرجة كبيرة بالنسبة إلى الطرف الخاسر، حينما يفترض أنّ خوضه حرباً خاسرة جديدة لا يعني الكثير في مقابل نزف الخسائر الذي يتكبّدها. فهو يتمثّل قول الشاعر: أنا الغريق فما خوفي من البلل.
ثانياً: حدود صبر الطرف الخاسر أو المتقهقر على بقاء التوازنات المفروضة سبباً وحاجزاً أمام عدم إنجاز الحسم في الصراع. فمثلاً: إلى متى يمكن أن يصبر الكيان الصهيوني على استمرار تسليح حزب الله وتعاظم قوته العسكرية، مع إحساسه بالعجز الكامل عن منع هذا التسليح، وبالتالي تعاظم قوته العسكرية، مع إدراكه لتأثير ذلك في حقيقة بقائه ككيان؟ هل يمكن توازنات الردع التي يفرضها حزب الله أن تكون عنصر تهدئة ولجم مع إحساس الكيان الصهيوني بالتهديد في وجوده؟!!
هذا التقابل المطّرد يوماً بعد يوم بين تعاظم قوة حزب الله العسكرية والخوف الوجودي على الكيان عند الصهاينة هو أحد محفّزات حسابات الجنون في الحرب المقبلة، وبمقدار ما تؤدّي الحرب النفسية التي يمارسها حزب الله باقتدار في اللجم والضبط للنيّات العدوانية للكيان الصهيوني فإنها تثير في دواخله حسابات الجنون كلما شعر بفقدان الخيارات المنطقية لدفع الخطر عنه.
وكما يوجّه السؤال إلى الكيان الصهيوني بشأن حزب الله، يوجّه السؤال أيضاً إلى الإدارة الأميركية بشأن موقفها من إيران، فإلى أيّ مدى ستسمح الإدارة الأميركية بتعاظم القوة العسكرية الإيرانية، بما يجعلها قوةً ضاربة في المنطقة في ظل إحساسها بعدم قدرتها على حماية وجودها ومصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة؟!!
فالإدارة الأميركية، التي كانت تعتمد سياسة ترنيح خصومها لإطاحتهم، كما فعلت مع نظام صدام حسين في العراق، تجد نفسها تترنّح وتتكبّد الخسائر في كل مسعى تريد من خلاله إضعاف النظام الإيراني، ونتيجةً لدخولها في المنطقة ككيان محتلّ، فقد سمح ذلك لإيران بخلق قواعد اشتباك داخل مناطق النفوذ التي يحتلها الأميركان كما هو حاصل في العراق.
وفيما تخوض الإدارة الأميركية معركتها مع إيران وفق قواعد الاشتباك المفترضة بطريقة مباشرة، فإنّ إيران تفرض قواعد الاشتباك بطريقة غير مباشرة من خلال حلفائها، وهذا ما سيجعل الإدارة الأميركية تتجه إلى الصراع العسكري بطريقة مباشرة مع إيران في حال إحساسها أنّ إيران تخوضها معها بالوكالة، وتجبرها على التراجع، مع لفت الانتباه إلى كون الأميركان كمحتلين طرفاً أصيلاً في الصراع في مناطق الاحتلال، ويتكبّد خسائر فادحة، فيما تبني إيران نفوذها على تلاشي هذا الدور، ما يُغضب الإدارة الأميركية كثيراً، ويجعلها تلجأ إلى خيار الجنون في مسألة الحرب بعيداً عن حسابات الربح والخسارة.
ثالثاً: تقويض المشروع السياسي الأميركي من داخله، وتحوّل أطرافه، وخصوصاً دول الاعتدال العربي، إلى أطراف متصارعة، وأهمّ ثيمة لانهيار المشروع الأميركي هي انهيار مشروع السلام مع الكيان الصهيوني، وذهاب الكيان الصهيوني إلى التطرف لكونه يلحظ قوة مشروع المقاومة في المنطقة، لا مشروع الشراكة بينه وبين دول «الاعتدال العربي». وهذا بطبيعة الحال يجعل من هذه الدول قليلة الحيلة، وفاقدةً القرار والتأثير، وكثيرة الشكوى لدى الناظم لهذا المشروع، ألا وهو السيد الأميركي.
وفي المحصّلة: فإنّ النتيجة هي حصر الصراع وحسمه بطريقة قطعيّة بين حركات المقاومة ومحور الممانعة التي يدعمها، وبين الكيان الصهيوني، وهو ما يعجّل بخيار الحرب، ويجعل دول الاعتدال العربي في ذيل هذا الصراع، وبدل أن يُرصَد دورها قبل ذلك كمحرّض على الحرب ضد حركات المقاومة، لن يُرصد لها دور في الحرب المقبلة في ظل انعدام وظيفتها السياسية، وتمحور الصراع بين الأطراف الأصيلة فيه، وحتى دور المباركة لن يكون له ذلك التأثير في ظل تداعي المشروع الصهيوني الأميركي، ورغبته في الدفاع عن نفسه بالإمكانات الذاتية.
رابعاً وأخيراً: بروز عوامل تفخيخ وتفجير جديدة قد تزحزح ما جرى تثبيته من معادلات ردع أسّست لها المقاومة، ومنها: التطور الدراماتيكي الذي حصل بعد اعتداء الكيان الصهيوني على أسطول الحرية، وسقوط الشهداء الأتراك، والتبدّل المتوقع في العلاقات التركية الإسرائيلية، فضلاً عن رغبة القائمين على أسطول الحرية رقم 1 في إرسال أساطيل حرية تنطلق من مختلف البلدان، ويمكن رصد التطور الدراماتيكي بما يفضي إلى بوادر حرب من سفن المساعدات التي ستنطلق من لبنان وإيران تحديداً، في ظل استعداد الكيان الصهيوني لتكرار تجربة الاعتداء على أسطول الحرية رقم 1، والتوقّع المفترض لردّ فعل الجهات المعنية في البلدين.
فمن يرصد الحدث بدقّة، لا يفصل المشهد عن تطوّرات غير محسوبة، ويمكن اعتبار ردّ الفعل التركيّ بروفة أوّلية لتداعيات أكبر إذا ما استمرّ تدفق الأساطيل لكسر الحصار على قطاع غزة. وفي هذا الشأن: لن تكون تركيا أكثر إحساساً بمواطنيها من لبنان أو إيران، بل إنّ المشهد سيكون أكثر ضراوةً إذا ما جرى الانتباه إلى وجود المقاومة في لبنان وحساسيّتها من أيّ اعتداء إسرائيلي على شعبها، وإذا ما جرى الانتباه في المقابل إلى طبيعة العلاقة الطاردة بين الكيان الصهيوني وإيران.
أما في ما يتعلق بعناصر التفجير المستجدة بشأن الحرب بين أميركا وإيران، فيمكن اعتبار الفقرة الواردة في العقوبات المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، التي تعطي الحق لأية دولة بتفتيش السفن الإيرانية في أعالي البحار، عنصر اختراق غير محسوب للتوازنات التي يمكن أن تمنع وقوع الحرب.
فقد يؤدّي أي تصرف غير محسوب من جانب الأميركان بتفتيش السفن الإيرانية إلى تطور دراماتيكي يفضي إلى الحرب من دون التخطيط المسبّق لذلك، وقد تكون هذه الفقرة من قرار العقوبات أخطر في مفاعيلها من العقوبات كلّها، وما عجزت عنه العقوبات السابقة قد يفجّره لغم التفتيش المسبّق للسفن ليبقى رهناً بتداعيات ومفاجآت غير محسوبة، لا يستطيع الطرفان السيطرة عليها.
لذلك، من واجب القادة السياسيّين والمتابعين لشؤون المنطقة أن يضعوا الاحتمالات غير المنطقية لفرص الحرب في المنطقة بموازاة الاحتمالات المنطقية لعدم نشوبها، فسياقات الجنون قد تقضي على كل قدرة على التوقع، وبالتالي تقضي على كل قدرة على الاستعداد وتفادي ما هو أسوأ.

* كاتب بحريني