مصطفى بسيوني *«مطلب واحد مش كتير ... قفل سفارة وطرد سفير» هكذا هتفت حركات المعارضة المصرية على مدى ثلاثة عقود وبلا انقطاع منذ إبرام اتفاقية كامب ديفيد بين النظام الحاكم وإسرائيل تحت الرعاية الأميركية وإقامة علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال. ولكن هذا المطلب الذي بدا متواضعاً بحسب وصف المعارضة له في هتافاتها كشفت السنوات أنه شبه مستحيل. حتى أن ما تحقق على مدى السنوات الثلاثين الماضية هو تجاوز العلاقات الدبلوماسية التقليدية إلى التطبيع في مجالات الزراعة والسياحة والتجارة، وأضيفت إلى معاهدة كامب ديفيد اتفاقيات الكويز وتصدير الغاز، ووصل الأمر للمشاركة في حصار المقاومة في غزة بإغلاق معبر رفح والمساومة على السماح لمواد الإغاثة بالمرور وملاحقة أنفاق المقاومة وبناء الجدار الفولاذي العازل.
لا يمكن النظر لاتفاقية كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس المصري الراحل أنور السادات في نهاية سبعينيات القرن الماضي أنها مجرد معاهدة بين دولتين متحاربتين تقضي بوقف الحرب والتوصل لتسوية سلمية للصراع وتمنع نشوب حروب بينهما في المستقبل. في الحدود تلك فإن اتفاقيات ومعاهدات عديدة تبرم وتطبق وتنتهي وينساها التاريخ دون أن يشعر بها أحد. فمصالح الدول والأنظمة تتحول من مرحلة لأخرى، وليس بعيداً أن اتفاقية الدفاع العربي المشترك لم يعد يسأل عنها أحد، واتفاقيات دول حوض النيل التي تضمن حصة مصر في المياه تتجاوزها دول الحوض اليوم وتبرم اتفاقية أخرى.
ميلاد نظام تتلخص سياسته الخارجية في التحالف مع القوى الاستعمارية وإسرائيل، وفي الداخل في حماية الطبقة الرأسمالية
كامب ديفيد لم تكن من ذلك النوع من المعاهدات التي تمليها مصالح اللحظة وضروراتها، والتي يمكن أن تتبدل لاحقاً. كانت معاهدة كامب ديفيد جزءاً من عملية تحول شاملة في النظام المصري. لم تكن الأزمة بين مصر وإسرائيل ومن خلفها القوى الاستعمارية مجرد النزاع على الأرض أو الحدود. فالمشكلة لدى إسرائيل والقوى الاستعمارية أن النظام المصري في ذلك الوقت كان أحد الأنظمة التي تقود حركة التحرر الوطني ومواجهة المصالح الاستعمارية في العالم الثالث، وخاصة الشرق الأوسط الحيوي بنفطه وموقعه للمصالح الاستعمارية. نظام كهذا لم يكن كافياً بالمرة إبرام معاهدة معه بعد إلحاق هزيمة عسكرية به يمكنه التخلي عنها في لحظة تالية. ولكن المطلوب هو وجود نظام مختلف، ليس فقط نظاماً لا يضع في أولوياته التحرر الوطني والاستقلال، بل نظام ترتبط مصالحه مباشرة بمصالح القوى الاستعمارية. من هنا لم تأت كامب ديفيد مجرد استثناء في سياسات النظام الحاكم في مصر في ذلك الوقت، بل إن خطوات مبكرة كانت تعني أن النظام نفسه يتغير بالكامل. فحرب التحرير التي نادى بها الشعب وتحركت من أجلها التظاهرات فور وقف إطلاق النار في 1967 تحولت في تشرين الأول/ أكتوبر 1973 إلى «حرب تحريك»، أي حرب تهدف إلى تحريك المفاوضات مع إسرائيل للوصول إلى تسوية، وحتى الإنجاز العظيم الذي حققه المحارب المصري على الجبهة أُهدر على مائدة المفاوضات. والولايات المتحدة الحليف الرئيسي لإسرائيل التي أصبحت طرفاً مباشراً في حرب أكتوبر ضد مصر أصبح في يدها 99% من أوراق اللعبة السياسية في المنطقة. في الوقت نفسه الذي كان يتم فيه تجاهل وتهميش الحليف السوفياتي الذي مد مصر بالسلاح والدعم من أجل حرب التحرير. لم يكن ذلك مجرد تحول تكتيكي في التحالفات، فما كان يجري في الداخل كان ينبئ بتغير أكثر عمقاً. ففي منتصف السبعينيات بدأ السادات التحول عن اقتصاد الدولة وأطلق النظام سياسة السوق تحت اسم الانفتاح الاقتصادي، مكوّناً طبقة من التجار والرأسمالية الجديدة تشابكت مصالحها مع النظام الحاكم والغرب. ولكن سياسة التحول المفاجئ الذي اتبعه السادات أدى لتفجر انتفاضة الخبز في كانون الثاني/ يناير 1977 التي أطلق عليها السادات «انتفاضة الحرامية»، عندما أصدر النظام قرارات إلغاء الدعم الموجه للفقراء. والغريب أن عصابات التهريب والأغذية الفاسدة والغش التجاري كانت تنمو في هذا الوقت بالقرب من النظام. واللافت أيضاً أن السادات كان في زيارته للكنيست الإسرائيلي قبل مرور عام على الانتفاضة، وقد أبرم معاهدة كامب ديفيد قبل مرور عامين عليها. تباطأ النظام بعد انتفاضة كانون الثاني/ يناير في تطبيق سياسات السوق، ولكنه لم يتحول عنها، وبقدوم مبارك إلى الحكم بدأ باستكمال ما بدأه السادات عبر تقوية الرأسمالية ممثلة في القطاع الخاص وتصفية القطاع العام والاندماج أكثر فأكثر في اقتصاد السوق العالمي.
لم تكن كامب ديفيد مجرد اتفاقية سلام بين متحاربين، بل كانت جزءاً من ميلاد نظام كامب ديفيد الذي تتلخص سياسته الخارجية في التحالف مع القوى الاستعمارية وإسرائيل، وفي الداخل في حماية الطبقة الرأسمالية الصاعدة وتهيئة البيئة الملائمة لها والتي تطورت لاحقاً لتصبح هي والنظام شيئاً واحداً.
إن الحجج التي يسوقها النظام ومنظروه عند الحديث عن كامب ديفيد الذي يصور أن أي حديث عن إلغائها معناه دخول مصر في حالة حرب مع إسرائيل، بما يصور أن المعاهدة أصبحت أمراً مفروضاً على النظام ولا يمكن الفكاك منها، لا تفسر أبداً تجاوز النظام لكامب ديفيد والتزامه بما هو أكبر منها. فالمعاهدة لا تفرض على النظام المصري تصدير الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل بخمس الأسعار العالمية ولا تفرض على مصر اتفاقية الكويز ولا تفرض بالتأكيد بناء الجدار الفولاذي على الحدود مع غزة ومحاصرة المقاومة، ولا يمكن فهم تلك السياسات كالتزامات للنظام بموجب معاهدة ولكنها خيارات واضحة للنظام الحاكم تجعل مصالح المجموعة الحاكمة والطبقة التي تمثلها مرتبطة بألف خيط بالمصالح الأميركية بالمنطقة، وبالتالي أصبحت العلاقات مع إسرائيل أكثر ثوابت النظام رسوخاً، بحيث إن العلاقات مع ليبيا والسودان والجزائر قابلة للتقلب أما مع إسرائيل فلا.
عندما أبرم السادات كامب ديفيد كان يبني نظاماً جديداً للحكم بأهداف ومصالح مختلفة عن سابقه، ومهما كانت مساحة الاختلاف أو الاتفاق مع النظام السابق، أي النظام الناصري، فقد كانت في أولوياته قضية التحرر الوطني. أما النظام الذي تأسس على كامب ديفيد فإن أهم أولوياته هو البقاء في الحكم عبر ارتباطه المباشر بالمصالح الحيوية للقوى المسيطرة في المنطقة، وهو ما يجعل المواقف الرسمية من القضايا الرئيسية كالعراق وفلسطين وأفغانستان متطابقة دائماً مع المواقف الأميركية.
إن المطلب الذي نادت به قوى المعارضة المصرية طويلاً واعتبرته «مش كتير» يبدو آخر ما يمكن أن يستجيب له النظام. فإلغاء كامب ديفيد قد لا يعني إعلان الحرب على إسرائيل أو توريط مصر في أزمات كبرى، ولكنه سيعني تغيير النظام كل توجهاته وخياراته، بما يهدد شبكة مصالح واسعة تشابكت وترسخت على مدى فترة طويلة، وأصبحت تمسك بالسلطة والثروة معاً ولن تفرط في مصالحها من أجل «شعارات الوطنية». لا يجعل هذا قطع العلاقات مع إسرائيل وإلغاء كامب ديفيد أمراً مستحيلاً، بل المستحيل أن يقوم بذلك النظام الذي أنجبته كامب ديفيد نفسها. إن العلاقات بين النظام المصري وإسرائيل ليست أقوى من العلاقات التي ربطت إسرائيل بإيران قبل الثورة، وليست أيضاً أقوى من العلاقات التي ربطتها بتركيا قبل سنوات. تغيرت الأوضاع الأولى بثورة شعبية والثانية بانتخابات. وفي مصر يتمسك النظام بكل قواه بعلاقاته بإسرائيل تماماً مثلما يتمسك بقانون الطوارئ، متصوراً أن ذلك ما يبقيه في مكانه، وقد يكون ذلك ما سيأخذه إلى أسفل.

* صحافي مصري