علاء اللامي*خبراء اقتصاديون وموظفون في هيئة النزاهة يسلطون ضوء كافياً على هذا الموضوع، ويكشفون عن أن البرلمان المنقضي العهدة هو السبب الرئيسي في كل ما حدث ويحدث بخصوص رواتب الرؤساء والساسة الكبار، ذلك لأنه رفض المصادقة على عدة مواد مقترحة لتنظيم موضوع الرواتب. بهذا الصدد يقول القاضي رحيم العكيلي رئيس هيئة النزاهة «إن المشكلة الأساسية في مصروفات الرؤساء هي عدم صدور القوانين التي نص عليها الدستور، فهناك 3 قوانين تنظم 3 فقرات دستورية تتعلق بالوضع المالي للرئاسات الثلاث، لكن البرلمان رغم أنه عمل طبيعياً 4 أعوام، فإنه لم يشرع هذه القوانين». ويبدو أن العكيلي طلب من البرلمان مراراً أن يشرع هذه القوانين لكن النواب لم يحرّكوا ساكناً، فهو يقول «وهم يتحملون كامل المسؤولية بشأن نقص المعلومات عن رواتب الرئاسات ومنافعهم الاجتماعية التي يفترض أن تنفق في وجوه الخير العامة». هكذا يتبين لنا، أن البرلمان الذي كان يملأ الجو السياسي زعيقاً ضد الفساد والتخريب الاقتصادي، رفض أن يشرع ثلاثة قوانين تنظم نفقات الرئاسات والحكومة والبرلمان، وهي بمئات الملايين، ليمنع أو يحدَّ من الفساد والنهب والتبذير. إن حالة الفراغ القانوني هذه، ولَّدت حالة غريبة أخرى على الصعيد الإجرائي، فقد كشف مسؤول كبير آخر في هيئة النزاهة اشترط عدم كشف هويته لصحيفة «العالم» العراقية، أن السلطات الرقابية في الدولة «ليس لديها نص قانوني مدون يحدد حجم مرتبات أغنى عشرة موظفين في الدولة، لأن مكاتبهم هي التي تتولى تحديد المرتب والمخصصات والمنافع الاجتماعي»، بمعنى أن راتب الطالباني مثلاً يقدره مكتبه الخاص وبزيادة صفر أو أكثر على الأرقام لن تقوم القيامة! وأضاف المسؤول أن «كل المعلومات المتوافرة عن الأمر هي خطابات رسمية من مكاتب الرؤساء توضح تلك الأرقام، رغم أن عدداً من مسؤولي أجهزة الرقابة الكبار غير مقتنعين بدقة الأرقام المقدمة من مكاتب الرئاسات».
بهدف فهم واستيعاب حجم هذه الفضيحة السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تدور منذ بدء احتلال العراق، يمكن من يشاء المقارنة بين هذه الرواتب المهولة للرؤساء والساسة العراقيين، ورواتب نظرائهم في بعض دول العالم ذات النظم الانتخابية والتي تعتمد الشفافية التامة أمام شعوبها رغم أنها قد تكون من ألد شعوب العالم الأخرى «المتمردة». فإذا صح ما قيل عن أن راتب مسعود البرزاني ومخصصاته الشهرية 400 ألف دولار وراتب عبد المهدي والطالباني والمالكي بحدود المليون دولار شهرياً، فإن راتب الرئيس الأميركي باراك أوباما مع المخصصات، وبعد اقتطاع الضرائب هو 37 ألف دولار. أما راتب الرئيس الفرنسي ساركوزي فيبلغ 29 ألف يورو، وراتب المستشارة الألمانية ميركل يبلغ 23 ألف يورو.
قد ينظر البعض إلى هذا الشأن على أنه أحد مظاهر الفساد الشامل الذي يلف الدولة والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في العراق المحتل، ولكن هذه النظرة قد لا تكون كافية لتفسير كل شيء، فليس ثمة دولة تخلو من مظاهر الفساد، وإذا وجدت دائماً أساليب مختلفة لمكافحة الفساد فالأمر ممكن العلاج. ولو كان الأمر يتعلق بالفساد المالي تحديداً، لكانت هيئة النزاهة قد حدَّت منه كما فعلت مع الفساد المالي والإداري في دوائر حكومية عديدة ومع موظفين صغار تورطوا في أعمال الرشى والاختلاس والهدر وما إلى ذلك، ولكننا إزاء مشكلة أخرى مختلفة نوعياً نجمت عن قيام أقطاب النظام الحاكم من زاعمي تمثيل الطوائف والأعراق في السلطتين التشريعية والتنفيذية بعملية نهب منظم لا مثيل لها، ورسمياً، وبتعمد إيجاد حالة فراغ دستوري. إن جميع المشاركين في العملية السياسية، سواء كانوا في حكومة المالكي القائمة اليوم، أو في الحكومات السابقة لها، أو في معارضتها كما في قائمة علاوي، في الرئاسات أو البرلمان أو في جهاز القضاء، متورطون فعلياً في هذه العملية المدمرة للاقتصاد والثروة العراقيين والمزدرية للشعب وحقوق المواطنين. وعليه، فإن إمكانية مقاضاة كل من تورط في هذه العملية لنهب العراق، من جانب المواطنين والمنظمات المدنية الآن، وبوجود برلمان جديد في ظل الاحتلال، أو مستقبلاً بعد جلاء قوات الاحتلال، هي إمكانية متوافرة ومبررة ولها كل شروط المقاضاة الجنائية.
تفصيل صغير قد يثار لإنصاف بعض أقطاب العملية السياسية المشاركين في نهب الثروة العراقية من قبيل أن المالكي كان قد اقترح خفض مرتبات الرؤساء والساسة بنسبة 20%. وهذا مجرد كلام للاستهلاك المحلي لا أكثر ولا أقل، فالمالكي هو الحاكم الفعلي للبلد وقائد السلطة التنفيذية ومن حقه الدستوري أن يقترح مشروع قانون بهذا الخفض إلى البرلمان، فهل فعل ذلك أم أنه اكتفى بإطلاق تصريح بهذا الخصوص ثم ذهب ليستلم راتبه؟ ولماذا لم يبادر المالكي ــــ إذا كان قلبه حقاً على ثروات العراق ــــ إلى أن يعلن رقماً معقولاً لراتبه هو ويتنازل عن الباقي، وليكن بنسبة عشرين بالمئة أو أكثر، ويسحب البساط من تحت أقدام الآخرين.

البرلمان رفض المصادقة على عدة مواد مقترحة لتنظيم موضوع الرواتب
لا أحد سيحلم أو يطالب بأن يكون راتب المالكي أو علاوي أو طالباني مثل راتب الرئيس الأوروغوي والمتمرد اليساري السابق خوزيه موكيخا الذي أعلن مكتبه قبل أيام أن «مصدر عائداته الوحيد هو معاشه الرئاسي وقدره 265 ألف بيزو أي 9700 يورو يتبرع بنسبة 70% منه لبناء مساكن للطبقات الفقيرة». وموكيخا كما ورد متمرد يساري سابق، حمل السلاح ضد الدكتاتورية، وقضى سنين عديدة من حياته في سجونها، وليس لديه اطلاع على التراث الإسلامي والشرقي في الزهد والطهارة الروحية والتواضع للمستضعفين، ولكنه مع ذلك «يتناول الغداء من دون حراسة في مقاهي مونتيفيديو..»، أما رصيده في البنك فلا يتجاوز ألفاً وتسعمئة دولار، إضافة إلى أنه يملك سيارة قديمة من طراز فولكسفاغن تجاوز عمرها 23 عاماً. أفلا يعبر هذه الرجل /الفكرة عن شيء ما؟
أما إن أحبَّ البعض أن يخفف من وطأة هذا النهب لثروة العراقيين من جانب حكامهم بالقول إن من سبقوهم في الحكم، وخصوصاً الرئيس المعدوم صدام حسين، كانوا أسوأ منهم لأنهم جعلوا كل ثروات العراق وعائداته ملكاً شخصياً وسرياً لهم ولأسرهم وعشائرهم يتصرفون بها كيفما شاؤوا، فهو قول ــــ على ما فيه من صحة وواقعية لا يمكن نكرانها ــــ لا يبرر في واقع الأمر شيئاً. وهل يفلح لصٌّ في تبرير سرقته بعيراً بالقول إن لصاً آخر سرق القافلة برمتها؟
* كاتب عراقي