لم يستسغ جلبير الأشقر بعضاً من انتقاداتي له في مقال سابق نشرته «الأخبار». عبّر عن ضيقه وخرج عن طوره، واختار أن يشخصن وأن يرسم صورة سيكولوجيّة لي من دون معرفة لي بالرجل كي يعرف هو مكنوناتي. أي إنّ للأشقر قدرة سيكولوجيّة (وإن هزليّة)، إضافةً إلى قدرته السياسيّة. لكنني سأقاوم الرغبة في الردّ على شخصنة بأخرى، وعلى عصبيّة بأخرى لأحصر ردّي بالأمر الأهمّ: أي مكافحة الصهيونيّة، التي يقول الأشقر، مشكوراً، إنه يؤيّدها

أسعد أبو خليل *
يتبدّى الخلاف بيني وبين جلبير الأشقر في الأسطر الأولى من ردّه، عندما كاد أن «يزلغط» ابتهاجاً بردّ الفعل العالمي على المجزرة الإسرائيليّة في عرض البحر: إنه يرى أنّ الاستنكار العالمي كان «عظيماً»، فيما أنا أراه باهتاً هزيلاً وضعيفاً ومحدوداً. لعلّ الخلاف بيننا يعود ليس فقط إلى اختلاف الأساليب في كيفيّة تحرير فلسطين، بل في رؤية التحرير بحدّ ذاتها، وحتى في تحليل طبيعة المجتمع الإسرائيلي. أنا أرى أنّ الردّ الغربي خصوصاً على المجازر الإسرائيليّة يتيح لإسرائيل ارتكاب المزيد من المجازر. جلبير الأشقر يهلّل لردّ الفعل العالمي، وأنا أراه هزيلاً وحافزاً للاعتماد العربي على الذات وعلى الكفاح المسلّح، ويمكن «الفلوتيللا» أن تبحر بالرجل الأبيض أنّى تشاء.
ثم يبدأ جلبير ردّه بالترويج (المُتكرّر إلى درجة الدعاية المُستهلكة) لكتابه الجديد عن العرب والمحرقة. ويسبغ على نفسه مديحاً، وهذا حقّه، وخصوصاً إذا أخذه الإعجاب بنفسه إلى درجة من الطاووسيّة. ولكن ليس هناك من جِدّة أبداً في ما يقوله عن استغلال إسرائيل للمحرقة، إذ إنّ بيتر نوفيك ثم نورمان فنلكستين

لكلّ صحيفة إسرائيليّة اليوم مراسل عربي مهمّته رصد كراهية العرب لليهود

وتوم سيغيف سبقوه بسنوات (وعقود في حالة نوفيك)، ولكن دعنا من ذلك الآن. المحرقة، خلافاً لمقولة الأشقر، ليست «الذريعة الرئيسيّة» في جعبة الصهيونيّة: فالحركة الصهيونيّة نبتت في بلادنا، أو زرعها بالأحرى المُستعمر، قبل عقود طويلة من المحرقة. المحرقة إنما عظّمت الزاد الدعائي للصهيونيّة، وأعطت الغرب فرصة للتكفير عن ذنوبه وجرائمه ضدّ اليهود على حسابنا نحن. لكنّ الأشقر يحتاج إلى أن يبالغ في مركزيّة المحرقة بالنسبة إلى الصهيونيّة لسببيْن: 1) كي يروّج لكتابه ويسوّغ لمقولاته. و2) ليجعل من مقابلته مع الجريدة الإسرائيليّة حتميّة تاريخيّة من منظار القضيّة الفلسطينيّة. والأشقر يبالغ في قدرته على هزم الصهيونيّة وحيداً إلى درجة أنه يصوّر كتابه كأنه «أصدق إنباءً» من تاريخ الكفاح المُسلّح الفلسطيني برمّته. ومن غرور الأشقر أنه يصف الكتابات العربيّة «المُعتادة» بالتافهة، أي هو وحده يستطيع أن يحدّد السبل الأصلح للصراع.
أما موضوع مقابلته مع «يديعوت أحرونوت»، فيسوّغها تحت عناوين مختلفة. فهو يقول أولاً إنها الجريدة «الأكثر رواجاً» في إسرائيل. الأشقر هنا اجترح تعريفاً أو مفهوماً جديداً للتطبيع مع إسرائيل. فهو يقول إنّ التطبيع مع إسرائيل جائز إذا كانت الشركة الإسرائيليّة أو المطبوعة هي الأكثر «رواجاً». لا ندري لماذا أقحم موضوع الرواج. ورأى الأشقر أن المقابلة «فرصة لمخاطبة الرأي العام الإسرائيلي دفاعاً عن قضيّتنا». طبعاً، من حق الأشقر أن يخاطب من يشاء، ومن حقّنا النقد والنقد المضادّ وهذه الجريدة، خلافاً لغيرها من الجرائد، تتيح المجال لآراء تتعارض مع آراء كتّابها. ومقولة «الفرصة» لمخاطبة الإسرائيليّين تَلفت النظر لأكثر من سبب: 1) هي نفسها مقولة أنور السادات عندما سوّغ لزيارته للقدس المُحتلّة و«شرحها» للرأي العام العربي. 2) إن الأشقر يرى أن فرصة التحدّث إلى الإعلام الإسرائيلي فرصة نادرة لا تتكرّر، وأنّ على المُتلقّي اقتناصها. لا يعلم، أو يدّعي الأشقر أنه لا يعلم، أن هذه الفرصة تحدث دائماً لفريق من المُطبّعين العرب، وأنّ لكل صحيفة إسرائيليّة اليوم مراسلاً عربياً مهمّته رصد كراهية العرب لليهود، ومراقبة ما يصدر عنهم من أقوال وهمسات عن اليهوديّة والمحرقة. خالد أبو طعمة في الـ«جيروزاليم بوست» يتخصّص في الإعلام الإسرائيلي بتتبّع كراهية العرب للهيود وذمّ العرب والمسلمين. وقد بلغ أبو طعمة شأناً مرموقاً في الدعاية الإسرائيليّة، إلى درجة أنه يُدعى لذمّ العرب في المحافل الصهيونيّة في أميركا. كما أنّ مقاومة التطبيع ورفض إسرائيل الشعبي العربي يدفع بالصحافة الإسرائيليّة إلى استجداء الحديث مع أيّ عربي كان، حتى لو كان من أمثال مثال الألوسي أو علي سالم، وكنعان مكيّة لا يتلقّى تكريماً في إسرائيل حتى يتلقّى تكريماً آخر، كل ذلك لأنه «تحرّر» من «عقدة» رفض التطبيع مع إسرائيل. هذا ما عناه أنور السادات بتخطّي الحاجز النفسي في التعاطي مع إسرائيل. والأشقر تخطّى الحاجز النفسي، وهذا سَرّه أيّما سرور. ولو عرض أيّ لبناني (أو لبنانيّة) نفسه للتحدّث مع الصحافة الإسرائيليّة لهرعت الصحافة الإسرائيليّة إليه، بصرف النظر عن المضمون، لأن الصحافة الإسرائيليّة ودعاية دولة الكيان الغاصب تسعيان إلى كسر حاجز رفض التطبيع تحت أيّ ظرف كان، ومع أيّ كان. لكن الأشقر يقول إن «فرصة» التحدّث إلى الإسرائيلي هي «فرصة نادرة». نادرة لماذا؟
العنصر الثالث في مقولة الأشقر هو الأسخف: يبرّر التحدّث مع الصحافة الإسرائيليّة بالقول إن الصحافة العربيّة تنشر ترجمات عن العبريّة، وإن قناة «الجزيرة» تستضيف إسرائيليّين (وإسرائيليّات). لكن نشر الصحافة العربيّة لترجمات عن العبريّة لا يعني التطبيع بأيّ صورة من الصوّر، واستقاء المعلومات عن العدوّ هو جزء لا يتجزأ من الحروب ومن الإعداد للحروب، والأشقر، على الغالب، يعلم ذلك. أمّا استضافة قناة «الجزيرة» المملوكة من العائلة الحاكمة في قطر، فهي تعني الحكومة القطريّة ولا تلزم إلا نفسها، إلّا إذا كان الأشقر يرى أن السلالة القطريّة الحاكمة تُعدّ قدوة في التعاطي مع الشأن الفلسطيني، مع أن قطر بادرت إلى التطبيع مع إسرائيل منذ التسعينات. كدت أنتظر أن يضيف الأشقر إن السادات تحدّث مع إسرائيليّين، وإن هذا يكفي لتكوين سابقة تُحتّذى.
ولا يتورّع الأشقر عن اعتبار مقاطعة (وهي بديهيّة) إعلام العدوّ غباوة. أي إن رأس الحكمة عند الأشقر هو في التخاطب مباشرةً مع العدوّ لكن غروره لا يسمح له بتبنّي التخاطب المُباشر مع إعلام العدوّ (وخصوصاً إذا كان رائجاًً كما زها عن مقابلته مع «يديعوت أحرونوت») في المطلق، إذ إنه لا يجد في العرب الآخرين حدّة الذكاء والنباهة التي يجدها في شخصه الكريم. ولعلّه عنى ذلك في إشارته إلى الفرصة النادرة: أي إنّ الندرة ليست في فرصة المقابلة بحدّ ذاتها، بل في صفات شخصه الكريم. وفي مكان آخر من مقالته، يشير إلى الفرصة «النادرة جدّاً»، ولعلّه هنا أيضاً يخبرنا أنه ما كان بالإمكان تفويت فرصة أمام عربي ذكي للتحدّث مع الإعلام الإسرائيلي، خلافاً للعربي الغبي الذي يمكن أن يتحدّث مع الإعلام الإسرائيلي من دون أية فائدة أو نفع ـــــ النفع الذي يراه الأشقر في حديثه مع الإعلام الإسرائيلي. ولا يتورّع عن إفادتنا أنه تلقّى تهاني من «أصدقاء» (بمن فيهم إسرائيليّون «معادون للصهيونيّة») أثنوا على مقابلته. وبالتهاني تدوم النعم وتتحرّر فلسطين.
وينخفض مستوى الردّ عند الأشقر حين يتحدّث عن «حالة من التعب وانخفاض الصفاء الذهني» عندي لمّا قرأت مقالته. أي إن الأشقر محلّل سياسي ونفسي، وهو هنا يضيف صفة الطبيب ـــــ المُشخّصاتي إلى مواهبه التي لا تُعدّ ولا تحصى، والتي تؤهّله للحديث مع الإعلام الإسرائيلي للتأثير فيه. ولا ندري إذا كان أصدقاء الأشقر، الذين أغدقوا عليه التهاني، قد أفادوه إذا كانت اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي قد تغيّرت جذريّاً بعد نشر مقابلته، ولعل الصهيونيّة باتت منبوذة في الكيان الغاصب بعد نشر مقابلة الأشقر. وقد يؤدّي نشر مقابلة ثانية مع جريدة إسرائيليّة ثانية إلى ضعضعة الصهيونيّة في إسرائيل من الداخل، فاحذروا يا صهاينة ـــــ أو لا تحذروا كي نأخذكم مع الأشقر على حين غرّة. وهو يردّ على نقدي بالقول إنه قصد أن يتوجّه بكلامه إلى الإسرائيليّين لا إلى العرب، وأضاف إنه يتوجّه إلى الفلسطينيّين باللغة العربيّة. لعلّ كتاباته ومقابلاته بالعربيّة قد فاتتني إذ إنني لم أقرأ له نقداً للحاج أمين باللغة العربيّة بعد، مع أن كتابه قد تُرجم إلى العربيّة في دار نشر تطبيعيّة لا تمتّ بصلة إلى العمل المُقاوم أو حتى إلى نقد إسرائيل.
ويستشهد الأشقر بنفسه (في معظم ردّه) ويطيّب: ويقول إن المحرقة «أعظم بكثير من آلام الفلسطينيّين». لا ندري كيف يقيس الأشقر آلام الشعوب وإن كانت الجملة المذكورة معقولة نسبيّاً، لكن ما جدوى هذا التفاضل بين الآلام؟ هل يقصد الأشقر أنّ على الشعب الفلسطيني أن يتوقّف عن الشكوى لأنه لم يتعرّض (بعد؟) للإبادة الجماعيّة؟ أم يطمئن الإسرائيليّين إلى أنّ تأييده للشعب الفلسطيني لا يعني أنه يعدّ معاناتهم (ومعاناتهنّ) أفظع من معاناة بعض الإسرائيليّين؟ واختياره لجريدة إسرائيليّة، أو لكتاب بالإنكليزيّة، للحديث عن معاداة اليهوديّة عند العرب قرار يعود إليه طبعاً، ولكنّي أذكر أنّ دار نشر الأشقر الأميركيّة، متروبوليتان، قد عرضت قبل سنوات على الصديق ـــــ الرفيق جوزف مسعد نشر كتاب عن معاداة اليهوديّة عند العرب لكنه رفض بشدّة واقترح عليهم نشر كتاب عن الصهيونيّة وجرائمها، لكنّ اقتراحه قوبل بالرفض.
ونعود إلى قصّة الحاج أمين الذي يشغل ليل الأشقر ونهاره، على ما يبدو، وهو يستشهد بمقاطع كاملة من مقابلته مع أنها نُشرت في «الأخبار». ويعيب عليّ الأشقر أنني لم أقرأ كتابه بعد، كأنني زعمت يوماً أنني قرأت كل الكتب المنشورة في العالم. ويختلف الأشقر معي في تقويمي لشخصيّة الحاج أمين (ويضيف كلاماً يدخل في باب السباب الشخصي البذيء نوعاً ما، والحاقد، لكنّي لن أجاريه في ذلك احتراماً منّي للقرّاء والقارئات هنا)، ويستشهد بمقطع من «خطاب» للحاج أمين بُث من إذاعة برلين. هنا، وفي هذا الموضوع، يعيد الأشقر، عن علم أو عن مماشاة للكتابات الصهيونيّة عن الحاج أمين، مزاعم من الدعاية الصهيونيّة بحذافيرها. لا يتورّع عن وصف هينرش هملر بـ«صديق» الحاج أمين. يعترض الأشقر على اعتراضي، لكن هذا الوصف محض اختلاق من الدعاية الصهيونيّة وهو لا ينطبق على ما لدينا من وثائق عن علاقة الحاج أمين بالنظام النازي، حتى لو كان الحاج أمين الجاهل قد بالغ في طبيعة علاقته ببعض القادة النازيّين، وحتى لو كان هو قد وصف هملر بالصديق. ووصف الأشقر لهملر كـ«صديق» للحاج أمين يعني شيئاً واحداً: أنه لم يعدّ لكتابه عن المحرقة إعداداً محكماً، لأن الإشارة تنمّ عن جهل بطبيعة العقيدة النازيّة، وبشخصيّة القائد النازي هذا الذي جمع بين عنصريّة متطرّفة وشعوذة غريبة. أن يظن الأشقر أنّ هيملر يمكن أن ينشئ صداقة مع عربي مُسلم يعني أنه يحتاج إلى مزيد من القراءة عن النازيّة وشخصيّاتها. ونعود إلى الفكرة نفسها: لا، ليس هناك من دليل واحد على وجود علاقة تحالف عميق بين الحاج أمين والحكم النازي. ولقد تأكّدت من ذلك بعدما راجعت المؤرّخ فيليب مطر، الذي أفنى حياته الأكاديميّة في التنقيب عن كل وثيقة وقصاصة ومعلومة عن الحاج أمين. والزميل فيليب يمتعض من المبالغة الصهيونيّة في درجة التعامل ـــــ لا التحالف ـــــ بين الحكم النازي والحاج أمين. نفهم مبالغة الدعاية الصهيونيّة في تصوير طبيعة العلاقة بين الحاج أمين والنازيّة، لكننا لا نفهم سبب مبالغة الأشقر إلى درجة أنه اختلق صداقة بين الحسيني وهملر ـــــ ولا يهمّ هنا وصف الحاج أمين نفسه، الذي أثبت في أكثر من مرّة غباوته الشديدة وقصر نظره.
أما الخطاب الذي بُثّ في إذاعة برلين فهو محض صياغة نازيّة، والحاج أمين سمح لهم على الأرجح بوضع اسمه على دعايتهم. هذا لا يعفي الحاج أمين من المسؤوليّة ولكن من السخف وصفه بالنازي أو بالمُعادي لليهوديّة. يستطيع الأشقر أن يعود إلى كلام للحاج أمين قبل هربه من فلسطين يتحدّث فيه عن التمييز بين اليهود والصهاينة. عندما قلت إنّ الحاج أمين ليس معتنقاً لأيديولوجيا عداء لليهود لم أكن أقصد أنه لم يصدر عنه كلام كريه عن اليهود، لكن الفرق فات الأشقر. الفرق هو بين من تأقلم ظرفيّاً مع دولة تكنّ العداء لعدوّه، واعتناق أيديولوجيا عداء لم تكن ترحم العرب والمسلمين. هذا لا يعني أنّه ليس هناك عرب اعتنقوا معاداة اليهوديّة. بلى، كان هناك بعضهم من الذين اعتنقوا النازيّة وممن روّجوا بنشاط لـ«بروتوكولات حكماء صهيون».
ويعود الأشقر ليسوّغ بتكرار مملّ سبب تركيزه على تاريخ الحاج أمين وتعظيم دوره كأنه كان عماداً في الحركة النازيّة. يقول الأشقر إنه كرّس وقته وجهده لـ«التنديد» بالحاج أمين ـــــ وهو ليس حيّاً يُرزق، وبالتالي ليس قادراً على ارتكاب أفعال إرهابيّة شنيعة ـــــ بسبب رغبته في «إقناع» الرأي العام الإسرائيلي والتأثير فيه. هنا، نستطيع أن نسجّل عدة ملاحظات. 1) الغرور الذي يدفع بالأشقر للظن أنّ في استطاعته بسبب قوة حجّته، التأثير في الرأي العام الإسرائيلي والدفع به نحو تحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر. أي إنّ الأشقر يرى في نفسه ما لم يره لينين في النخبة. لا يستطيع الأشقر فقط تغيير أهواء المجتمع الإسرائيلي، بل يستطيع بكتاب ومقالة أو مقالتين إقناعهم بصواب حل الدولة الفلسطينيّة الواحدة على كلّ أرض فلسطين. وينسى ـــــ لا بل يتناسى ـــــ أنّ هناك مئات من العرب الذين سبقوه، والذين خاطبوا المجتمع الإسرائيلي مباشرةً، ولم نرَ أثراً لفعلهم إطلاقاً. طبعاً، يستطيع الأشقر أن يعقّب بالقول إنّ لديه من قوّة الحجّة ومن سحر الشخصيّة ما يجعله فريداً ومميّزاً في جهده. لكن أنور السادات سبقه في خطاب للكنيست ظن أنه من خلاله يستطيع أن يصل إلى قلوب الإسرائيليّين. وهو وصل بالفعل، وقد أُطلق اسمه على عدد من المؤسّسات والمعاهد الصهيونيّة.
2) يعكس الأشقر فهماً ساذجاً ـــــ على الأقلّ ـــــ لطبيعة المجتمع الإسرائيلي. تحليل الأشقر يضفي ليبيراليّة مثاليّة على الكيان الغاصب، كأن إسرائيل هي مجتمع مفتوح حيث تتصارع فيه الآراء وتتناقض إلى أن يسود فيها الأفضل. يتجاهل الأشقر تجذّر الصهيونيّة في إسرائيل، كما أنه يصوّر ـــــ دون أن يدري ـــــ الشعب الإسرائيلي تصويراً يقترب من التصوير الدعائي في تلك الأفلام المُقزّزة التي تروّج لإسرائيل وجرائمها. إنّ الشعب الإسرائيلي مُشارك في جرائم الحرب المتعاقبة التي وسمت التاريخ المعاصر لدولة الكيان الغاصب. هل هكذا يفهم الأشقر بنيان الحكم العنصري في إسرائيل؟ هل يظن أنّ خطاباً محكماً أو مقالة موثّقة تستطيع أن تقضي على الصهيونيّة في إسرائيل؟
3) يقول الأشقر إنه ندّد بالهوس الصهيوني بالمفتي وبدوره في حديثه مع الصحيفة الإسرائيليّة. أي إنّ الأشقر ردّ على الهوس الصهيوني بالمفتي بهوس مُضاد بالمفتي. ويضيف إنني أجهل الجوانب المتعدّدة للعلاقة بين الحاج أمين والنازيّة، ولكن ما هو الجديد الذي أضافه الأشقر في هذا الصدد؟
ونصل إلى مسألة ذمّ المفتي في جريدة إسرائيليّة. لا أختلف مع الأشقر في صوابيّة ذم المفتي، قبل الأكل وبعده. ولكن لماذا الآن، وبعد كلّ السنوات والعقود؟ لاحظت أنه ذمّ المفتي في جريدة إسرائيليّة فردّ عليّ بالقول إنني أكتب على مدوّنتي بالإنكليزيّة، وإنّ هناك من يقرأني في إسرائيل. أولاً، لا أدري كيف عرف الأشقر أنّ هناك من يقرأني في إسرائيل، لكن الأمر ليس في يدي، ولم أتوجّه على مدوّنتي إلى المجتمع الإسرائيلي. لا أريد هنا أن أظهر مظهر الواعظ الأخلاقي الطهراني، لكنني بالتأكيد أختلف مع الأشقر في أمر مقاومة التطبيع مع إسرائيل. أنا أتفق معه في مسألة رجعيّة المفتي وعلاقاته الشائنة بالاستعمار البريطاني أولاً، ثم بالنازيّة والنظم العربيّة الرجعيّة، لكنني أختلف معه في ضرورة تشريح الواقع العربي في جريدة إسرائيليّة. يستطيع الأشقر أن يختلق مبرّرات وذرائع لسبب تكريسه وقته وجهده للحاج أمين، ولضرورة ذمّه للحاج أمين في جريدة إسرائيليّة، ولكن يبقى أنه عرّض ظهور الشعب الفلسطيني للسياط، وقبّحهم أمام الصهاينة الإسرائيليّين بسبب غباوة زعيم مرحلة للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ـــــ وهو زعيم أتى بإرادة الاستعمار البريطاني أكثر من إرادة الشعب الفلسطيني نفسه.

فهم ساذج لطبيعة المجتمع الإسرائيلي كأنّه ساحة مفتوحة لتصارع الآراء حتّى انتصار الأفضل

مرّت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بمراحل مختلفة، ونُكب الشعب الفلسطيني المُقاوم بزعماء أقل بكثير من مستوى المرحلة ومستوى صمود هذا الشعب. الحاج أمين كان زعيماً رجعيّاً مرتبطاً بالأنظمة العربيّة الرجعيّة، وقد أدّى خدمة دعائيّة للصهيونيّة. لكن المبالغة الصهيونيّة في مستوى العلاقة بينه وبين النازيّة يجب ألّا تتسرّب إلى التعاطي الأكاديمي الرصين ـــــ بالعربيّة أو بأي لغة أجنبيّة ـــــ مع القضيّة المذكورة. وقد أسهم الأشقر في مدّ الدعاية الصهيونيّة بعون أكيد: 1) عندما أصرّ على تناول قضيّة الحاج أمين في حديث مع جريدة إسرائيليّة، حتى لو أبدى إعجاباً شديداً بقدرته الفائقة على التعبير والتحليل أمام المجتمع الإسرائيلي. 2) عندما بالغ في وصف تلك العلاقة. يكفي أنه أشار إلى «صداقة» بين الحاح أمين وهملر. إذا كان الأشقر قد وقّع على وثائق جديدة، فكان يجب أن ينوّرنا بها قبل أن «ينوّر» الإسرائيليّين.
والأشقر يعنون ردّه بالكلام عن «الكفاح الفعّال» ضد الصهيونيّة. أي إن للأشقر وحده القدرة والمهارة على تحديد طرق الكفاح ضد الصهيونيّة. الجواب هو أن وسائل الصراع ضد إسرائيل تخضع لإجماع نضال الشعب الفلسطيني ومن يسانده (وتسانده) وهناك إجماع على رفض التطبيع مع الكيان الغاصب ومؤسّساته. طبعاً، الأشقر يرتئي غير ذلك، وله من التفاؤل بشأن قدرته على التأثير في الرأي العام الإسرائيلي ما كان لدى أنور السادات قبل أن يتوجّه إلى الكنيست. لكنّ الأشقر لن يتوجّه إلى الكنيست للكلام النيّر عن الحاج أمين. لا أظن ذلك، على أيّ حال.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)