لا مجال للشك في أن للسوريين أسباباً كثيرة تدفعهم إلى الهجرة. لكن أن يتحوّل وطنهم إلى نابذ لهم، فهذا يحتاج إلى دراسة مختلفة. ولا ينفصل عن ذلك تسارع انتشار عدوى الهجرة، وتحوّلها إلى ظاهرة مرضية، يَنبذ من يصاب فيها وطنَه. هنا يجب الانتباه إلى أن من هجر وطنه إلى دول الجوار، بداية الصراع، بسبب جحيم المعارك وتقطّع سبل الحياة، لا يُقارن بمن يهاجر حالياً إلى دول أوروبا الغربية.
فأسباب الهجرة الأولى تختلف كثيراً عن أسباب الهجرة التي نلحظ تفاقمها حالياً. ومن اللافت أنّ الكثير من المهاجرين الآن، هم من قاطني المناطق المستقرّة، أو الهادئة نسبياً. وأسباب هجرة هؤلاء تشكّلت في سياق الصراع كظاهرة مركّبة. وإذا كان فائض العنف والتطرّف يدفع الكثيرين إلى الهجرة من مناطق سيطرة المجموعات المسلحة، فإنّ تزامن تراجع سلطة الدولة مع قرارات حكومية مجحفة، وغياب الأمن، وتسلّط المجموعات المسلّحة (الموالية) والتجَّار على مفاصل الحياة اليومية، إضافة إلى انتشار مظاهر النهب والقتل والخطف، في المدن والبلدات التي ما زالت تحت سلطة الدولة، تدفع كثيراً من السوريين أيضاً إلى الهجرة.

من اللافت أنّ الكثير من
المهاجرين هم من قاطني المناطق المستقرّة أو الهادئة نسبياً

معلوم أن معاناة السوريين تزداد تفاقماً مع تقادم الصراع. وتوفير حاجاتهم الأساسية بات من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلاً. ونسبة من يعجز عن توفير حاجاته الأساسية تجاوزت الـ90%. فالأسرة المكوّنة من 5 أشخاص تحتاج لتوفير حاجاتها الأساسية إلى نحو 175 ألف ليرة سورية شهرياً، هذا في لحظة لم يتجاوز فيها متوسط الدخل ثلاثين ألف ليرة. ومع ذلك ما زالت أسعار المواد الأساسية ترتفع بنحو جنوني، وكذلك التضخّم. أمّا البطالة فقد تجاوزت عتبة 3,57%. ومن يجد فرصة للعمل، أو ما زال على رأس عمله، فإن دخله الشهريّ لا يكاد يكفيه أسبوعاً واحداً، فيزداد عجزه، نتيجة ذلك. فالأسر السورية باعت كلّ ما تمتلكه، خلال سنوات الصراع، لتغطية تكاليف معيشتها. وهي الآن تواجه الفقر بيدين فارغتين.
من جانب آخر، يحار كثيرون بمصير أولادهم، وتحديداً الذكور، فإن التحقوا بالجيش، يكون الموت بانتظارهم، وإن تخلّفوا فالسجن مصيرهم، وتخلُّفهم، في كثير من الأحيان، لا يتعلّق بالخوف من الموت، لكن له علاقة بموقفهم من الصراع. أمّا من تهدَّم منزله، وفقد مصدر رزقه في بداية الصراع، فإنه هرب من الموت، إمّا إلى إحدى المدن التي كانت آمنة (يُقدّر عدد هؤلاء بـ 8 ملايين)، وإمّا لجأ إلى دول الجوار، (أعداد هؤلاء تُقدر بـ4 ملايين). ولا يمكن أحداً، أياً كان موقفه، توجيه اللوم إلى هؤلاء. فيما اختار من كان قد شارك في التظاهرات، بالإضافة إلى الناشطين المدنيين، والمعارضين السياسيين، وبعض المثقفين، الهرب من الاعتقال، حيث اعتقال أي منهم من قبل الأجهزة الأمنية، أو جهات أخرى، سيعني نهايته. وكذلك إنّ دمار المشافي، والارتفاع الجنوني لأسعار الأدوية، جعلا من حياة من يعاني مرضاً مستعصياً جحيماً لا يطاق، وقد تفاقم الأمر أخيراً بعد زيادة أسعار الأدوية بنسبة 57%. يضاف إلى كلّ هؤلاء، من يفكّر في الهجرة لإتمام دراسته بعدما بات عاجزاً عن ذلك في بلده، ومن يهاجر بحثاً عن فرصة عمل، و»عيش كريم».
من ناحية أخرى، إنَّ هجرة الكوادر العلمية، ستُفضي إلى تفريغ المجتمع من طاقاته الشبابية. وسيكون لذلك انعكاسات خطيرة على مستقبل التنمية البشرية والاقتصادية. وبالمقابل، إنّ حكومات الدول الغربية تشتغل على توظيف المهاجرين السوريين في عدة مستويات: توفير عمالة رخيصة، الاستفادة من الكوادر المؤهلة علمياً، معالجة أزمة الشيخوخة، التي تعاني منها المجتمعات الأوروبية نتيجة ارتفاع متوسّط العمر وانخفاض نسبة الولادات.
بينما يجد المثقفون والمعارضون أسباباً وجيهة تدفعهم إلى الهجرة، تحديداً منها المتعلّقة بالضغوط الأمنية، التي ما زالت، حتى الآن، تشكل مصدر رعب للجميع. وتشكّل الهجرة لكثير من هؤلاء أحد أشكال المحافظة على حياتهم، وهذا حق طبيعي لكلّ إنسان، لكنَّ ذلك يثير تساؤلات عن مدى التزامهم القضايا الوطنية والسياسية الديموقراطية، التي يتنطحون للدفاع عنها؟! فأعدادٌ من هؤلاء هجر وطنه في مسعى إلى تأمين خلاصه الفردي، في وقت لم تبرح، كثيراً منهم، فكرة التحوّل إلى رمز معارض من الخارج، كذلك تحوّل بعضهم إلى تجّار سياسة، فصار الوطن، بالنسبة إلى هؤلاء، حقيبة سفر، وورقة في أسواق البازار السياسي.
قد يكون الحديث عن تحوّل سوريا إلى بلد نابذ للسوريين فيه وجهة نظر، وذلك يتعلق بالسياسات العامة التي شكلت تاريخياً مدخلاً إلى انتشار الفساد السياسي والإداري، وإلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخّم، في المقابل لم تُحرّك أوضاع السوريين الراهنة، ومعاناتهم، مشاعر أصحاب القرار. وكان ذلك يتزامن مع نشوء مجموعات لا تحصى من النهّابين والقتلة، وهؤلاء يتحكّمون بأرواح السوريين وأرزاقهم. وإن كان تحمّل ذلك غاية لم تعد تُدرك، فإن الهجرة ستكون رحيلاً في موتٍ آخر. وأياً تكن الأوضاع، فإنّ سوريا لأبنائها، وبقاؤهم فيها، ودفاعهم عنها، وعن مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، يجب أن يبقى أولوية للجميع، فدون ذلك، لا معنى للوطن. فهل نهجره، ونتركه لمن يعيث فيه فساداً ودماراً!؟ في المقابل، يتوقع المهاجرون مستقبلاً مغايراً في دول المهجر. وفي ذلك قدر من الصحة، ويرى هؤلاء أنّ حاجاتهم الأساسية، من سكن وتعليم وطبابة وغذاء ستكون متوافرة، إضافة إلى ذلك لن يعانوا من أزمة المياه والكهرباء والتدفئة، وسيجدون فرصة للعمل. هذه القضايا تشكل الحدود الدنيا لحقوق أي إنسان، وهي مفقودة من قبل بداية الأزمة. واقتران ذلك بمآلات أوضاع السوريين الراهنة، وفقدانهم مقوّمات الحياة الطبيعية كافة، يجعل من الهجرة خياراً إجبارياً للكثير من السوريين.
لكلّ أزمة نهاية. إلى حينها نتمنى ألا يتحكّم بمستقبل سوريا من هجرها من أدعياء المعارضة، أو فاسدون يطفون على سطح المجتمع. أما حلّ أزمة الهجرة فإنه يرتبط بتجاوز أسباب الأزمة السياسية والاقتصادية، وإنهاء الصراع.
* باحث وكاتب سوري