أول طلقة في حروب المياه!أحمد بهاء الدين شعبان *عطشان يا صبايا، دلوني على السبيل
عطشان والنيل فى بلدنا، والميّه سلسبيل
فلكلور مصري

على مدار التاريخ، لم يلعب نهر دوراً محورياً في حياة شعب من الشعوب، مثلما لعب النيل دوره في حياة الشعب المصري، حتى قدّسه المصريون الأقدمون، واحتفلوا بفيضان مائه «المبارك»، وقدموا له العطايا والقرابين، وترنموا له بأناشيد العرفان والتبجيل:
«أنت خلقت النيل في العالم الأرضي / وأنت تخرجه بأمرك فتحفظ به الناس / يا إله الجميع / أنت الذي خلقت في السماء نيلاً / لكي يتنزل عليهم ولهم / يتساقط الفيضان على الجبال كالبحر الزاخر / فيسقي مزارعهم وسط ديارهم / ما أبدع تدابيرك يا إله الأبدية / في السماء نيل للأمم الغربية / أما النيل الذي يروي مصر، فإنه يتدفق من باطن الأرض!»، (من ترانيم إخناتون).
وليس هناك من سر في هذه المكانة السامية التي احتلها النيل في حياة قاطني واديه الخصيب، فهو سبب حياتهم، بالمعنى المباشر للكلمة. فأكثر من 95% من المياه التي يتعيّش عليها سكان الوادي هو مصدرها، مع ندرة الأمطار ومحدودية كميات المياه الجوفية المتاحة، حتى الآن.
ولعل هذه المكانة الرفيعة، التي احتلها النيل في حياة المصريين، هو ما يفسر أسباب حرص حكّامهم، منذ أقدم العصور، ومهما كانت الظروف وبلغت التكلفة، على تأمين أوضاع «النهر الخالد» من منابعه وحتى المصب، فلا يملك حاكم أن يُفَرّطَ في شريان الحياة في بلده، ولا في أن يترك للصدف مهمة حماية مصدر الوجود والنماء لوطنه، ومن هنا، كان طبيعياً، كما يقول العالم الكبير رشدي سعيد، (في سفره الجليل: نهر النيل: نشأته واستخدام مياهه في الماضي والمستقبل، ص: 274)، أنه: «عندما بدأ صراع القوى الأوروبية للاستيلاء على أفريقيا، في منتصف القرن التاسع عشر، رأت مصر التي كانت قد أدخلت في ذلك الوقت نظام الري المستديم، أن تعمل على تأمين منابع النيل قبل أن تسقط في أيدي القوي الأجنبية، وبالفعل قامت مصر، في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، بعدد من الحملات العسكرية، التي ساعدت في الكشف عن منابع النيل، ومدت سلطتها إلى هضبة البحيرات الاستوائية من حدود الكونغو غرباً إلى هرر والصومال شرقاً».
لكن مصر لم تعتمد وحسب على القوة العسكرية و«حملات الفتح» في حماية مصدر حياتها، الأول والأخير، بل لجأت إلى قواها «الناعمة» أيضاً، وربما كان لسطوة هذه القوة الدور الأكبر في تدعيم الوجود المصري في أفريقيا، وضمان عدم المساس بمصدر حياتها الذي لا بديل منه. فعلى امتداد العصر الملكي، وطوال عهد الرئيس عبد الناصر، بسياسته التحررية، المعادية للاستعمار، والمنحازة لمصالح الشعوب، فتحت مصر صدرها وأبوابها لأبناء أفريقيا، من الطلاب والسياسيين، ينهلون من أزهرها ومعاهدها العلمية وجامعاتها، ويناضلون على أرضها دفاعاً عن الحقوق الوطنية والاستقلال. وهو ما كان له أبلغ الأثر في القبول الأفريقي العام للاعتراف بحقوق مصر التاريخية المشروعة، في مياه النيل، واستقرار هذا الحق، لعقود طويلة، دون صعوبات تُذكر.
لكن دورة الأيام لم تبق على توجهات مصر، بعد رحيل عبد الناصر، على مساراتها القديمة. فالتحولات العاصفة التي قادها أنور السادات، حوّلت مصر عن مواقع الزعامة لمعسكر التحرر الوطني، إلى المراكز المناوئة، وخاصة بعد تبني مقولة «99% من أوراق اللعبة في يد أميركا»، التي كانت محور التوجهات الانقلابية الساداتية، والتي سعت إلى خلع مصر من بؤرة الحركة التحررية العربية والعالمية، وإلحاقها، تابعاً للسياسات الأميركية والإسرائيلية، المعادية لمصالح شعب مصر وباقي الشعوب العربية وشعوب أفريقيا أيضاً، وخاصةً بعد اتفاقية «كامب ديفيد»، التي عنت من ضمن ما عنت، تنكّر سياسة مصر (الرسمية) لحاجات ومصالح أشقائها العرب والأفريقيين.
وقد كان طبيعياً والحال هكذا، أن سقطت الملفات الأفريقية الأساسية، كما سقطت الملفات العربية المصيرية من الأجندة الرسمية، إذ لم تعد قضية فلسطين «قضية مصر المركزية». فالنظام أخذ يتخفف، بالتدريج، من أحماله (القومية)، منتقلاً، شيئاً فشيئاً، من موقف التربص والإدانة للفلسطينيين إلى موقع المتحالف، موضوعياً، مع الطرف الإسرائيلي، وظل جلّ همه الانتساب إلى معسكر أميركا والغرب، عبر البوابة الإسرائيلية، ولم يعد الحكم يفخر بالانتماء للقارة السمراء التي تناضل من أجل النور والحرية، بل تعامل باستعلاء مهين وعنف، غير مُبرر، مع شؤونها وقضاياها، مثلما حدث في الصدام مع لاجئي السودان المعتصمين من أجل تحسين أحوالهم أمام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالقاهرة، وكذلك في مطاردة فقراء الأفارقة المتسللين، عبر الحدود، للعمل في إسرائيل، حيث أسفر التدخل العنيف في الحالتين عن سقوط عشرات القتلى والجرحي دونما ضرورة، فضلاً عن الإهمال العام الذي أصبح سمة التعامل مع قضايا القارة. فلم يعد النظام مهتماً بتوثيق العلاقات مع الأفارقة، بأي صورة من الصور، وأصبحت سفارات القارة، كما يشير الأستاذ «فاروق جويدة»، (جريدة «الشروق» القاهرية، 25 أبريل 2010)، منفى المغضوب عليهم من الدبلوماسيين، وتقطعت علاقات الأزهر والكنيسة بنظائرهما في أفريقيا، وتعاملت السلطة المصرية مع مؤتمرات القمة الأفريقية باستهتار. لقد تبدد الرصيد الذي بنته، بدأب وجهد وتضحيات بالغة، مصر الرصينة، الواعية، وما بُني على مدار القرون والعقود، «تلاشى في فترات زمنية قصيرة»!
ومن عجبٍ أن هذا الانسحاب الخطير، من منطقة ذات أهمية استثنائية لمصر، كان يتم في وقت تتقدم فيه الدولة الصهيونية لـ«ملء الفراغ» الناشئ، مقدمةً (مساعدات) محدودة، لكنها مدروسة، ومؤثرة، في مجالات عدة: الصحة والتعليم والزراعة والاقتصاد، والأهم في التعاون الأمني وبيع السلاح للفرقاء المتصارعين على السلطة والثروات والنفوذ، والأخطر في ما يخص مشاريع استثمار ماء النهر وبناء السدود والحواجز، والدس لمصر، العدو التاريخي اللدود، رغم كل الاتفاقات واللقاءات، والأحضان والتنازلات أيضاً!

تضاءل نصيب الفرد المصري من المياه، من 1700 م3 في الستينيات، إلى 985 م3 في بدايات القرن الحالي
والخطير في هذا الوضع أنه يتواكب مع التزايد المطّرد في الاحتياجات المصرية للمياه. فالاتفاقات التي تحدد نصيب مصر والسودان من مياه النيل، وقّعت عامي 1929 و1959، حين كان تعداد السكان محدوداً، وحاجاتهم من المياه بسيطة. أما اليوم فقد تضاعف العدد مرات، ووصل، في مصر وحدها، إلى ثمانين مليوناً، فيما ظلت الحصة المُقررة، طوال هذه المدة، ثابتة!
وقد أدى هذا الوضع، كما تشير الإحصاءات إلى تضاؤل نصيب الفرد المصري من المياه، من 1700 متر مكعب في الستينيات، إلى 985 متراً مكعباً في بدايات القرن الحالي، وسيستمر انخفاض نصيب الفرد المصري من المياه، ليصل إلى 620 متراً مكعباً عام 2020. وحين يصل تعداد الشعب المصري إلى رقم المئة مليون نسمة، عام 2025، لن يتجاوز نصيب الفرد المصري 500 متر مكعب من المياه، الأمر الذي يعني أن مصر ستكون قد دخلت مرحلة «المجاعة المائية»، بعد أن تكون قد تجاوزت، بمراحل، حالة «الفقر المائي»، التي يحددها الخبراء بـ1000 متر مكعب من المياه، للفرد الواحد!
ولقد مرت مصر بمقدمات حالة «الفقر المائي» هذه، وعاصرت بعض ملامحها القاسية، العامين الماضيين، حيث ضربت موجات واسعة من العطش، وشح المياه، العديد من المحافظات المصرية، وراح المواطنون الغاضبون يقتتلون، ويسقط منهم الضحايا، من أجل بضعة ليترات من ماء الشرب، أو لري أراضيهم التي شققها الجفاف، وأهلكها الظمأ، وتبحث عن مخرج من الموت المجاني المحتم!
وفي الأزمة الخطيرة الأخيرة، التي عكستها نتائج مؤتمر «شرم الشيخ»، تجمعت إرادات دول منابع نهر النيل الثمانية (أوغندا، إثيوبيا، إريتريا، الكونغو الديموقراطية، بوروندي، تنزانيا، رواندا، كينيا)، في مواجهة دولتي المصب، (مصر والسودان)، وضغطت دول المنابع من أجل إعادة النظر في حصص مصر والسودان، تحت دعاوى استئثارهما بنسب كبيرة من مياه النهر، الأمر الذي يحرم هذه الدول من فرص التنمية وحل مشكلات مواطنيها! وطرح البعض، مثل الكينيين، مطلب التعامل مع مياه النيل بالطريقة نفسها التي تعامل الدول مع البترول الذي يجري استخراجه من أراضيها! «وبالتالي، يجب أن تشتري مصر ما تحتاج من المياه، من دول المنابع! على اعتبار أن كلا من البترول والمياه مصادر طبيعية للدول!».
ولا شك بأن هناك احتياجاً موضوعياً، في دول منابع نهر النيل، إلى خطط تنموية واسعة المدى، تساعد على تحسين أحوال شعوبها، المحاصرة بالفقر والتخلف، ومن ألزم الضرورات مساهمة مصر والسودان بجهد أكبر لمساعدة الأشقّاء الأفارقة، وخاصةً في مجالات التعليم والعلاج والزراعة والمياه، وغيرها من المجالات التي تملك فيها مصر خبرات كبيرة، لكن المشاهد وجود نوع من التطرف والعناد في المواقف، تجاه دولتي المصب، وإصرار من دول المنابع على التصعيد، والانفصال عن مجمل العمل المشترك الذي يربط بين جميع دول حوض وادي النيل، والذي ينطلق من وحدة التاريخ والأرض والمصير، ويثق بإمكانية إدارة أية خلافات بين دول الحوض، في إطار أخوي، يبحث عن المصلحة المشتركة.
وبعيداً عن «نظرية المؤامرة» الشهيرة، فإن المراقب يلمس بوضوح عبث الأصابع الصهيونية من خلف هذه الأزمة، بتحريض دول المنابع ضد دولتي المصب، وحثّها على التصعيد القصدي، والتنصل من الالتزامات التاريخية الواجبة!
ومعلوم أن الأطماع الصهيونية في مياه النيل قديمة وغير خافية، فلقد حاول «ثيودور هرتزل»، إغراء قادة «بريطانيا العظمى»، وممثلي الاحتلال البريطاني في مصر، أوائل القرن الماضي، بالموافقة على منحه امتياز إنشاء مستعمرة صهيونية على مساحة تقدر بثلث شبه جزيرة سيناء (قابلة للتوسع)، كمحطة وسيطة على مرمى حجر من فلسطين، وضخ مياه النيل، عبر أنابيب ضخمة، من تحت قناة السويس، إليها، حتى تكون «دولة حاجزة»، تحول بين أطماع الدول الاستعمارية الأخرى والمصالح البريطانية الاستراتيجية في المنطقة، وتعثر المشروع بسبب تأثيراته السلبية على حاجة القطن، الذي كان يزرع في مصر لحساب المصانع البريطانية، من المياه، وكذلك لتقديرات بريطانية رأت أن التوقيت غير مناسب، في وقت اتجهت نوايا الغرب لتقاسم لحم «الإمبراطورية العثمانية»، أو «الرجل المريض»، الذي حان أوان رحيله، الأمر الذي كان يوجب التفاوض مع الفرقاء الأوروبيين، على توزيع عناصر الغنيمة!
وفي أجواء الصلح بين العدو الصهيوني والنظام الساداتي، طرحت إسرائيل، عبر دراسة مستفيضة لواحد من أكبر خبراء المياه فيها، المهندس «إليشع كالي»، رؤية لمواجهة أزمة المياه المستحكمة لديها، التي تعوق استجلاب أعداد متزايدة من المهاجرين، طرح فيها، مبكراً، فكرة اعتبار المياه سلعة تباع، حتى للأعداء، مقترحاً جلب مياه النيل لري النقب الشمالي واستزراعه واستيطانه، البالغ نحو ثلثي مساحة الدولة الصهيونية! (أنظر: إليشع كالي، المياه والسلام (وجهة نظر إسرائيلية)، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1991).
وقد تجددت الدعوة لتوصيل مياه النيل إلى العدو الصهيوني، مرة أخرى، عام 1979، في عرض من أنور السادات لتوصيل قسم من حصة مصر إلى النقب من أجل تسكين المستوطنين بها، وإلى القدس أيضاً، في مشروع تصبح معه، «مياه النيل هي» آبار زمزم، لكل المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة!!»، لكن تصدي المعارضة الوطنية أفشل هذا التوجه الخطير!
وبعد توقيع «اتفاقية أوسلو» عام 1993، صرّح وزير الخارجية الصهيوني، آنذاك، شمعون بيريز، عقب لقائه الرئيس مبارك في القاهرة: «إن المبدأ الأساسي لعلاقتنا مع العرب هو الأرض مقابل الماء!!»، لكن حتى هذه «المقايضة» البائسة تم التراجع عنها، بعد قليل، لمصلحة خيار «الماء مقابل لا شيء!!»، ففي مستهل عام 1994، دق شمعون بيريز الطبول، مُبَشِراً ومُهدداً باندلاع «حروب المياه»، في كتابه «The New Middle East»، وفيه اعتبر أن لإسرائيل الحق المطلق في سد احتياجاتها المتصاعدة من المياه، من مياه الدول الأخرى بالمنطقة، والتي يعتبرها مملوكة لجميع القاطنين بالمنطقة، بمن فيهم إسرائيل، وإلا فإن حروب المياه ستندلع لا محالة! وهي وجهة نظر عميقة في الفكر الصهيوني، وسبق أن عبّر عنها ديفيد بن غوريون حين أعلن عام 1955، في خطابه الاحتفالي بذكرى اغتصاب فلسطين، وإعلان تأسيس الدولة الصهيونية: «إن اليهود يخوضون اليوم مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل!».
فهل يذكر التاريخ أن أول طلقة في «حروب المياه» بمنطقتنا، أطلقت من «شرم الشيخ» المصرية، في أوائل شهر نيسان / أبريل 2010، أم تتغلب روح الحكمة الأفريقية، ووشائج التاريخ والمصالح المشتركة، كما نتمنى، وتنتصر إرادة الحياة على التحريض الصهيوني الاستعماري، ومؤامرات المؤسسات المالية الدولية، التي لا تريد الخير لدول المنطقة كلها!؟
* أحد مؤسسي حركة «كفايه» في مصر