strong>عصام العريان*للشيخ الإمام القرضاوي مشروع فقهي علمي كبير بدأه بكتابه الأشهر «الحلال والحرام في الإسلام»، ولن يكون سفره الأخير عن فقه الجهاد نهاية المطاف. وقد استعرضت في الحلقتين السابقتين أهم ما جاء في كتاب «فقه الجهاد» بجزءيه وطرحت أسئلة فرعية، لكن هنا أطرح فكرة أخرى. ولأنني طالب علم في مدرسة القرضاوي، فإنني أضع بين يديه هذه الأسئلة التي أرى أنها ما زالت حائرة في الموضوع نفسه، فقه الجهاد.
لقد كان الباعث على الإسراع بهذا البحث كما قال الدكتور في كتابه أمرين:
1. ما يتعرض له الإسلام وأمته اليوم من غارة شعواء وما تعرض له مفهوم الجهاد من تشويه بين إفراط وتفريط، والحاجة إلى عرض القضية من منظور وسطي معتدل. وأشار في ذلك إلى الكيان الصهيوني، والدعم الأميركي الكبير له ودمغ الإسلام بالإرهاب.
2. الأمر الثاني كان غلو بعض الشباب المتحمسين في قضية الجهاد... وأشار إلى ما يُعرف بالأفغان العرب الذين تنكر لهم الذين شجعوهم وأيدوهم ثم نتج منهم تنظيم «القاعدة»، وسبقته جماعات الجهاد المختلفة، وتفرعت عنه جماعات أخرى أصبح لها فقه تروّجه وفكر تسوّق له.
ومن هذا الباعث جاء هذا الكتاب الجليل ليجيب عن الأسئلة التى يطرحها هذان الموضوعان.
أمّا الأسئلة التي غابت، فكان مبعث غيابها هو عدم طرحها من البداية، وهي أسئلة المستقبل التي تتعلق بسلوك الحكومات الإسلامية التي تجعل الإسلام عقيدة لها ومرجعية تشريعية لها وتبحث عن مقاربات عصرية لأسئلة اليوم والغد في النظم والقوانين التي يجب عليها اتباعها لتحقق التزامها بالإسلام عقيدة وشريعة وخلقاً وسلوكاً دولياً في العلاقات بين الدول، وخاصة في ما يتعلق بما يعرف بـ«قانون الحرب».
الباعث الذي غاب هنا هو ما يتعلق بمستقبل هذا الدين ودوره في الإسهام في بناء حضارة إنسانية جديدة والمشاركة في وضع نظم دولية تحقق الأمن والسلم الدوليين وتطرح إجابات شافية لموضوع الحرب. علماً بأنّ الإسلام غاب عن توجيه الحضارة الإنسانية قروناً عدة عرفت شقاءً عالمىاً وإنسانىاً بالغ الخطورة. فقد عرفت أوروبا حروباً مستديمة على مدار قرنين من الزمان، الثامن عشر والتاسع عشر، بسبب النزعات الاستعمارية والتنافس على السيطرة على العالم، ثم نقلت إلى بقية العالم حروبها الدامية في القرن العشرين الذي شهد حربين كونيتين أشعلهما الصراع بين الإمبراطوريات الأوروبية وسبب فناء أكثر من مئة مليون إنسان ودمار مدن بكاملها في اليابان وألمانيا وبريطانيا وغيرها، نتج منها بعد ذلك ما نراه اليوم من أمم متحدة واتفاقيات دولية بشأن الحروب ووضع الأسرى والصليب الأحمر وغيرها... جرت كلها في غياب كامل لممثلي الإسلام والحضارة الإسلامية.
ما أريد طرحه على الدكتور القرضاوي وغيره من العلماء والباحثين هو الإجابة عن أسئلة عملية تطبيقية في ضوء المقارنة مع سلوك الدول الكبرى اليوم وما نراه على ساحات المعارك الدائرة في ضوء فرضية أسياسية هي:
ما هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه المسلم الفرد، والجماعة المسلمة المتحركة والمعارضة، والحكومة التي تريد أن تلتزم بالإسلام، عندما يُتطرّق إلى موضوع «الجهاد» أو «الحرب» أو «يُعلن القتال». ما زالت الحروب دائرة حتى الآن وأغلب ساحاتها هي بلاد المسلمين، ومعظم وقودها هم المسلمون، ونحن في حال الدفاع عن أنفسنا ضد هذه الهجمات المتتالية في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان والصومال وغيرها.
ولكن حتى هذه الحروب تطرح أسئلة معقدة ومركبّة حول كيفية التصدى لها ومواجهتها.
إذا عدنا إلى كتاب الشيخ القرضاوي، فسنجد أنه في 1440 صفحة، تطرق إلى مواضيع غاية في الأهمية، إلا أنه لم يتطرق إلى مسائل مثل:
1) قرار الحرب وإعلانه ومن له صلاحية ذلك، وإعلان الجهاد أو النفير العام ومن يعلن ذلك؟ ففيما وضع فصولاً لإنهاء القتال والمصالحة والهدنة وتبعات هزيمة العدو أو هزيمة المسلمين أو أحكام ما بعد القتال والأسرى والجزية وتفصيل ذلك كله، إلا أني لم أجد في الكتاب الضوابط التي تحدد اتخاذ قرار بدء الحرب والقتال ولا المؤسسات المعنية بالمشاركة في اتخاذ القرار.
لقد عانينا في تاريخنا الحديث من قرارات للحروب دمرت أحلامنا في الوحدة العربية ومعها دمرت قرىً ومدناً كثيرة مثل «حرب اليمن» وحروب لبنان الأهلية والحرب الدائرة في الصومال، وبعضها شاركت فيه جيوش وبعضها كان بين جماعات أهلية، وها نحن نشهد حرباً دائرة في اليمن وأخرى في باكستان بين الجيوش وجماعات يمكن أن نسميها معارضة ويمكن أن نسميها متمردة ويختلف الرأي فيها، وكذلك في الصومال، وفي السودان... إلخ.
والسؤال هنا هو عن قرار إعلان الحرب وحشد الجيوش ومدى مطابقة ذلك القرار للشرعية الدستورية والشريعة الإسلامية. هل هو قرار فردي يقوم به الرئيس أو الأمير أو الملك؟ أم هو قرار للشعب عن طريق ممثلين في البرلمان؟ أم يجب استشارة الشعب في استفتاء؟ وهل ذلك يمكن عملياً؟ أم هو قرار للمسؤول الأول ثم عليه أن يعود للبرلمان خلال مدة قصيرة؟ أم هو قرار تشارك فيه القيادات العسكرية العليا؟
وينطبق السؤال على الجماعات التي تعارض الحكومات وتبدأ بالعدوان على القوات المسلحة أو تتمرد، ومدى شرعية مثل ذلك القرار ولماذا يسارع البعض بطاعته دون بصيرة، وما حكم ذلك؟
إذا نظرنا إلى العالم حولنا فسنجد أن هناك خلافاً في أميركا مثلاً حول مدى صلاحية انفراد الرئيس الأميركي بإعلان الحرب وإمكانية الكونغرس في الحد من تلك الصلاحية عبر أدوات تمويل الحرب من الميزانية العامة، وخاصة عند ارتفاع تكاليفها بصورة باهظة، والدور الذي تلعبه قيادات الجيوش مع الرئيس ومجلس الأمن القومي. وفي خلفية ذلك كله يأتي دور المجمع الصناعي العسكري الذي يدير مصانع إنتاج أسلحة الدمار التي يستخدمها الجيش الأميركي والضغوط التي يمارسها هؤلاء من أجل زيادة أرباحهم على حساب أرواح ضحايا الحروب. وقد اعترف جنرال سابق بارز ورئيس أميركي مثل دوايت إيزنهاور بالدور الخطير الذي يلعبه هذا المجمع الاستثماري في شن الحروب وإشعالها.
في بلادنا لا يبدو واضحاً ولا حتى في دساتير الدولة الإسلامية الحالية الفروق الواضحة بين تلك الأدوار. ويُجيَّش الرأي العام وفق قرار القيادة العامة التي كانت لسنوات طويلة يملكها عسكريون شنّوا حروباً مدمرة أشار الشيخ إلى بعضها، مثل حرب العراق ضد إيران ثم غزو العراق للكويت (ولو أن صدام حسين لم يكن عسكرياً، بل كان مدنياً بعثياً في حلة عسكرية). وبسبب غياب تلك الضوابط يُطرح سؤال آخر هو:
2) إمكانية معارضة قرار الحرب سلمياً بالتصويت ضده في البرلمان أو التظاهر ضد الحرب الدائرة التي اتُّخذ قرارها بصورة دستورية والكتابة ضد تلك الحرب. وهل يُعدّ ذلك من التخذيل أو النفاق أو الانهزامية؟
ويتعلق بذلك أيضاً سؤال الضمير عند الامتناع عن المشاركة في العمليات العسكرية بسبب عدم الاقتناع بمشروعية الحرب أو بسبب التزام أخلاقي معيّن.
هذا كله نراه اليوم في بلاد غربية، حتى رأينا وما زلنا نرى تظاهرات مليونية «ضد الحرب» تشارك فيها جماعات متعددة ونفرح نحن بها لأنها من وجهة نظرنا ضد العدوان المستمر على بلادنا. ولكننا لا نتساءل هل يمكن أن تسمح حكومة إسلامية بمثل تلك المعارضة الصريحة لحرب تشنها؟
لقد أعلنت حكومة السودان حرباً سمّتها جهاداً ضد الحركة الشعبية في جنوب السودان، ثم بعد سنوات اقتنعت بعدم جدوى حسم الحرب فتوصلت إلى اتفاق سلام وتقاسم للسلطة مع من كانوا متمردين من قبل، وكررت ذلك في دارفور. كيف يمكن وصف ذلك وتحليله؟ وهل يمكن السماح للمعارضة التي خالفت قرار الحكومة بحشد رأي عام ضد قرار الحرب وتفنيد الأسانيد التي استندت إليها الحكومة؟
هناك حديث في الكتاب حول حق غير المسلم في الامتناع عن المشاركة في حرب لا يسمح بها دينه أو لها صفة دينية، فماذا عن المسلم الذي يرى في الحرب رأياً فقهياً أو سياسياً مخالفاً لرأي الحكومة؟ أليس ذلك يقدح في إمكانية الحشد والتعبئة المعنوية لقرار خطير مثل الحرب؟
وهذا يتعلق به سؤال آخر حول التجنيد الإجباري أو الاختيار والتطوع في الحرب وإعداد الجيوش النظامية.
ولا شك بأن هناك فروقاً بين الحروب الدفاعية عن الوطن، وهذه حال نفير عامة لا يجوز التخلف عنها وهي غالب أحوال البلاد الإسلامية الآن، وبين حال الحروب الهجومية أو الاستباقية وهو ما نشهده في حروب أميركا والغرب حول العالم.
هذه أسئلة عملية تتعلق بالقرار الحربي وما يترتب عليه، وهناك أسئلة أخرى عن خلفية مشهد الجهاد.
3) الدور الذي تلعبه الجيوش في البلاد الإسلامية بعدما تحولت إلى قوة عظمى ودور قياداتها في رسم السياسات العامة والحفاظ على الدستور ومقومات المجتمع، وهل يمكن رسم حدود لذلك الدور داخلياً وخارجياً، ومدى نسبة الميزانية التي تخصص للدفاع وإعداد الجيوش، وهل تكون مهمة الإعداد قاصرة على الدولة والحكومات فقط؟ وكيف نمنع ما يتردد عن رشى وعمولات هائلة وتكديس أسلحة لا حاجة للبلاد لها تتحول بعد حين إلى خردة بعدما استنزفت أموالاً طائلة.
أم أننا بحاجة إلى نظرة جديدة تجعل للقطاع الخاص ــــ كما في الغرب ــــ صلاحية المشاركة في الصناعات العسكرية؟ وكيف نحدّ من خطر تنامي مثل ذلك القطاع؟ وكيف نمنع تغوّل الجيوش الذي يؤدي إلى استنزاف الميزانيات أو شن الحروب غير الضرورية أو حتى الانقلاب على الدستور بدلاً من حمايته.
4) الاقتتال الداخلي وإمكانية معارضته بكل الطرق والامتناع عن المشاركة فيه بالنسبة للقادة العسكريين النظاميين والملتزمين

هل يمكن أن تسمح حكومة إسلامية بمعارضة صريحة لحرب تشنها؟
بالطاعة؟ وهل لهم قدرة على المعارضة كما نرى في بلاد أخرى؟ وماذا لو تدخل الجيش عند تفاقم الأمور للسيطرة على البلاد كما حدث كثيراً؟ ومدى مشروعية ذلك وهل يجب الطاعة لهم إذا تغلبوا، وهنا قد تتكرر الانقلابات العسكرية كما حدث في تاريخنا الحديث. ما هو النظر الشرعي في ذلك كله؟
5) التحقيق في الظروف والقرارات التي اتُّخذت منذ بدء الحرب وحتى نهايتها، كما نرى في بريطانيا الآن حول حرب العراق، وكما حدث في الكيان الصهيوني حول حرب لبنان الأولى ثم لبنان الثانية، وهل يمكن ذلك وما هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه مثل ذلك التحقيق؟
نحن في حاجة إلى نظر شرعي عملي واقعي للإجابة عن مثل تلك التساؤلات المحيّرة. نحن نريد وضع قانون للحرب في الإسلام، ونريد وضع مسودة للعلاقات الدولية من وجهة نظرنا الإسلامية في السلم والحرب. أعلم أن هناك اجتهادات سابقة في ذلك، ولكن من الأهمية بمكان الآن وجود مشروع كبير تتبناه هيئة إسلامية عالمية مثل رابطة العالم الإسلامي أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو مجمع الفقه الإسلامي، يجمع فقهاء كباراً وباحثين شباباً وقانونيين عظاماً وخبراء عسكريين وعلماء في الدراسات السياسية والاستراتيجية ليتناقشوا نقاشاً حراً طويلاً يستعرضون فيه:
تاريخ الحروب الإسلامية.
ما كتبه الفقهاء السابقون.
التجارب الإسلامية الحديثة في الحرب ونتائجها.
الحروب العالمية والإقليمية خلال القرن الماضي وملابساتها.
دراسات مقارنة لدول أخرى مختلفة ومن ثقافات مختلفة.
وضعية الجيوش ودورها فى العالم الإسلامي الآن.
ثم يخلصون في نهاية المطاف ولو بعد سنين إلى مسودة قانون للحرب وآخر للعلاقات بين الحكومات الإسلامية، وبين الحكومات الإسلامية وغيرها من الحكومات والمنظمات والأحلاف الدولية التي تدير شؤون العالم الآن. وتصبح تلك المسودات معروضة للنقاش العام في برلمانات الدول الإسلامية وهيئاتها التشريعية والسيادية المختلفة لإقرارها والعمل بها.
فإن لم تقم تلك الجهات بهذه المهمة العظيمة، فعلى شخص في حجم الإمام القرضاوي ومعه تلاميذه إثارة الاهتمام حول تلك الأسئلة وبدء مسيرة طويلة لوضع البحوث المطلوبة للإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر