وائل عبد الفتاحفي مصر قلق مفرط. الأحداث تفور فوراناً جنونياً، والأشخاص يصعدون فجأةً، ويسقطون فجأة. شيء واحد لديه ثبات نسبي: الدولة بأدواتها القديمة. هكذا يسافر مبارك إلى البيت الأبيض، ليثبت أن أصابع نظامه تلعب في مفاوضات تريدها واشنطن مباشرة بين الفلسطينيّين والإسرائيليين. زيارة إعلان حيازة موقع مركزي، لا يمكن الاستغناء عنه، وشرط استمرار اللعب أن تكون الأصابع نفسها، لا أحد يعرف ماذا سيحدث إذا تغيرت الأصابع وصاحبها، لهذا لا بد أن تستقر مصر، ويعبر منعطف نقل السلطة بسلام أو بشبه إجماع تبدو فيه معارضة الاستمرار أقلية تصلح لتكون ديكوراً ديموقراطياً.
العلاقة قوية بين رحلة مبارك إلى واشنطن، وعملية تمهيد الأرض لانتقال آمن للسلطة، الأمن لا يعني مجرد النجاح، بل النجاح المفرط، وبنسبة مدوية، وهذه من علامات القلق المفرط التي تصيب حتى النظام، أو أجنحته الجديدة، رغم الثقة في خبرات الأجهزة القديمة، وإمكاناتها المذهلة الموروثة من أنظمة مختلفة، لكنها قادرة على التحول والتلوّن على هوى اللحظة، فتسعى إلى تمدين هيئتها العسكرية، واحتلال مواقع لم تتعوّدها.
الأجهزة تستهدف الآن الصحافة المستقلة، و«التوك شو» المتداخل مع السياسي اليومي، مساحات صنعت وجودها بعد ٢٠٠٥، ومدت خطوطاً بينها وبين أطراف كانت منبوذة في الحياة السياسية، أو متعالية عليها.
السيطرة ناعمة، وقطع الخيوط يجري باحترافية، ومن دون صراخ تقريباً. الخط بين الصحافة المستقلة وجماعة الإخوان المسلمين يقطع بهدوء، والحركة التي دفعت أحد أطراف السلطة (القضاء) تتحرك باتجاه المجتمع المدني، تنتهي بعداوة بين القضاة والمحامين.
يبحث النظام عن «إجماع أو ما يشبه» ومن أجله يخاف العصيان الداخلي، واخترع شاطر من شطّار الحزب الوطني الحاكم فكرة «توكيلات أحمد عز»، وهي فكرة شبيهة بـ «حزام العفّة» السياسي، سيدخل بها الملياردير المقرّب من الابن والأب في النظام باعتباره الأكثر إخلاصاً ووعياً للقوانين التحتية في عصر مبارك.
توكيل أحمد عز يشبه إلى حد كبير «استمارة الاستقالة» المعروفة في البيروقراطية المصرية باسم «استمارة ستّة». يجبر الموظف على توقيعها في نفس اللحظة التي يتسلّم فيها العمل.
شكل من أشكال الإذعان. وطريقة في اللف والدوران على قوانين العمل. والأهم أنها شكل من أشكال العبودية الحديثة، تتحايل فيها الشركات على حقوق العمال وتفرض فيها عُرفاً سرياً يتحول إلى شرط للموافقة على العمل.
ولأن فرصة العمل عزيزة، يخضع المصريون لشرط العبودية، ويعملون من دون حقوق ولا ضمانات، ولا شعور بالأمان ولا ثقة في المستقبل.
أحمد عز، مثل رواد الفضاء السياسي، نقل «استمارة ستة» من البيزنس إلى السياسة، من الشركة إلى الحزب، هكذا ببساطة المؤمن بشرعية الأمر الواقع ولو ضد القانون.
هذه إشارة أخرى إلى قلق النظام من خروج مرشحيه عن قرار حزب بلا أفكار ولا برامج سياسية، ولا شيء سوى توزيع وكالات تخليص الخدمات.
نائب الحزب الوطني، حالة فريدة، هو الذي يتبرّع للحزب، ويستخدم قواعده ليثبت أنه جدير بالحصول على توكيل «المخلّصاتي» وحده.
القلق المفرط يدفع الحزب إلى «تصنيع» شعب يكتم بالدم وثائق مبايعة جمال مبارك، ويخترع صراعاً بينه وبين أبيه، صنّاع الشعب عادةً من المتحولين، الذين اكتشفوا الحق في تأييد النظام، ودعم استمراره. التحول يبدو بعيداً عن الضغوط المعتادة، مجرد حملات شعبية تدار عن بُعد من خلال أفراد من عائلة مبارك، لا يظهرون في الصورة، ويضعون في الواجهات الزجاجية، شخصيات محترفة في إطلاق الصرخات الغاضبة ضد النظام.
هكذا في ظل القلق المفرط يصعد هتّيف من الصفوف الخلفية، إلى صدارة الصفحات، لأنه تحوّل من «معارض» إلى «داعم» لترشيح الابن.
دوّامة القلق المفرط، تبتلع أسماءً كثيرة أهمها البرادعي، وتلقي إلى السطح بأسماء غير معروفة، رحلتها لم تنضج بعد، ولا تجربتها تؤهلها للصعود، لكن الماكينة القلقة، ترفع تلك التجارب بحركة هستيرية، تحوّل السطح إلى مسرح عبثي، فوّار، يبحث عن الاستقرار.
والاستقرار رهن الأصابع التي تتحرّك بعيداً.