تضاربت الآراء، في الفترة الأخيرة، حول مدى شرعية مجلس النواب الحالي، الذي عمد إلى تمديد ولايته، ضارباً عرض الحائط بكلّ الاعتبارات الديموقراطية. وقد رفض البعض التفريق بين قانونية المجلس من جهة، وشرعيته من جهة أخرى، إذ عمدوا الى المساواة بين القانونية والشرعية، ما يلزمنا تفكيك هذه المقولة لتبيان تهافتها.
إن معالجة موضوع الشرعية يحتاج في المقام الأول إلى توضيح يظهر الفرق بين الشرعية والقانونية. فالسلطة القانونية قد تكون سلطة غير شرعية، والعكس صحيح أيضاً لأنّ السلطة القانونية هي تلك التي تحترم القوانين الوضعية، بينما السلطة الشرعية هي تلك التي يقبل بها الشعب، ويعتقد أن وجودها هو أمر طبيعي وعادي. هذا الأمر لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن السلطة الشرعية هي تلك التي أتت الى الحكم عبر الطرق الديموقراطية. فالملكيات القديمة، حيث كان الملك يتمتع بسلطة مطلقة، كانت تعتبر شرعية لأن الشعب كان يعتبر أن السيطرة التي يمارسها الحاكم تستند الى مجموعة من التقاليد والأعراف المتوارثة عبر الأجيال. وبالتالي نستطيع أن نقول بأن الشرعية هي هذا الإحساس الداخلي الذي يدفع بالفرد إلى الخضوع طواعية لسلطة الحاكم، ويقوده الى التسليم بمشروعية السلطة الحاكمة.

المجلس الحالي هو
مجلس الأمر الواقع، ما يتعارض
مع فكرة القانون

وهنا يبرز الاختلاف بشكل جليّ بين الشرعية والقانونية. فحكومة فيشي، بقيادة الماريشال بيتان، مثلاً كانت حكومة قانونية، شكّلت حسب دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا، ومنحتها الجمعية الوطنية السلطة المطلقة لوضع دستور جديد للبلاد، بعد اجتياح القوات النازية لفرنسا سنة 1940. لكن هذه الحكومة، برغم احترامها للآليات والنصوص القانونية، كانت غير شرعية لأنها قبلت بالاحتلال وتعاونت مع العدو، بينما حكومة فرنسا الحرّة، بقيادة الجنرال ديغول، كانت شرعية لأنها كانت تعبر عن تطلعات الشعب الفرنسي، الرافض للسيطرة الألمانية، مع العلم بأن حكومة ديغول، من الناحية القانونية الصرفة، تعتبر متمرّدة ومغتصبة للسلطة.
يتبين لنا إذاً أنّ مسألة الشرعية لا تحددها النصوص القانونية، ولا رجال القانون. فتحديد السلطة الشرعية هو أمر يحتاج إلى دراسة معمّقة للمجتمع، وفهم قيمه وتقاليده السياسية والدينية وتركيبته السوسيولوجية. وهذا الأمر يعود الى عالم السياسة، الذي لا يقتصر في بحثه على بعض النصوص، بل يحاول أن يصل إلى المبادئ الأساسية التي يقوم عليها البناء السياسي في دولة ما. فالشرعية هي إشكالية أخطر من أن تترك لقانونيين لا يقاربون المسألة إلا من زاوية حقوقية جامدة لا علاقة لها بالواقع.
جرّاء ما تقدم، يجب علينا معرفة ما هي مصادر الشرعية في لبنان. فحتى تعتبر السلطة شرعيةً، عليها أولاً أن تصل إلى الحكم عبر الطرق والسبل الديموقراطية، المنصوص عليها في الفقرة «د» من مقدمة الدستور اللبناني. والثاني، هو ألا تكون، بأيّ شكل من الأشكال، مخالفة لميثاق العيش المشترك (الفقرة «ي» من مقدمة الدستور) الذي يعتبر العقد الاجتماعي والسياسي الذي يوحّد بين اللبنانيين. فشرط الانتخابات الديموقراطية سابق على تكوين السلطة، أي أنّ السلطة تأتي نتيجة لهذه الانتخابات. بينما الشرط الثاني يتحقق في ديمومته، أي أنّ السلطة تحافظ بشكل دائم ومستمر، من خلال تركيبتها وتصرفاتها، على الوحدة الوطنية. وهذان الشرطان يتكاملان، فلا يمكن للسلطة أن تفقد أيّاً منهما، وإلا فقدت شرعيتها، وتحوّلت إلى سلطة طاغية جاز للشعب الخروج عن طاعتها، والعمل على إسقاطها. وقد أكّد العلّامة إدمون رباط هذا الأمر في تعليق له على الفقرة «ي» من مقدمة الدستور.
وفي السنوات المنصرمة، دار الجدل، بشكل حصريّ، حول الشرعية الميثاقية، أي تلك التي باتت تتعلق بالمحاصصة الطائفية، وفشل الطبقة السياسية المزمن، وعجزها عن إيجاد حلول سلمية وقانونية للمشكلات التي يواجهها لبنان. فعند كل استحقاق، كان تعطيل عمل المؤسسات الدستورية بحجة احترام الميثاق، من الأمور التي تقبلها مختلف الأطراف السياسية بشكل أو بآخر. وهنا يبرز الاختلاف الجليّ، ففي حين يشكل التعرّض «لحقوق الطوائف» مبرراً لنسف أي شرعية قد تتذرع بها أي مؤسسة، لم يشكل ضرب الشرعية الأولى، التي تقوم على فكرة أن الشعب مصدر السلطات، سبباً لنزع شرعية مجلس النواب.
لكن الأدهى، لا يكمن في تصفية ما تبقى من شرعية انتخابية يقوم عليها مجلس النواب، بل تحويل رفض الإقرار بتلك الشرعية إلى التعرّض لكرامة مجلس النواب، وبالتالي إلى مسألة طائفية عملاً بقاعدة الاختزال، التي يتميّز بها النظام الطائفي، بحيث تتمّ المماهاة بين رئيس المؤسسة الدستورية وتلك المؤسسة نفسها. فرفض شرعية مجلس النواب، الذي مدّد لنفسه، في غفلة من الزمن، عبر اتباع أساليب ملتوية، يتحوّل إلى تعرّض لطائفة رئيس هذا المجلس، ما يستتبع ضرورة استحضار «الشرعية الطوائفية» للدفاع عنه.
وحقيقة الأمر أنّ «كرامة» مجلس النواب تنبع من وظيفته التي أناطها به الدستور. فهو يقوم على فكرة تمثيل الأمّة (المادة 37 من الدستور) وتجسيد الإرادة العامة للشعب، عبر انتخابات دورية (المادة 24). فكيف يكون للمجلس من كرامة في حال اغتصاب هذا الأخير كرامة الشعب، أي تلك الجهة التي من المفترض أن يكون ممثلها، وذلك بتمديد ولايته وحرمان الناخبين من ممارسة حقوقهم السيادية. فلا كرامة للوكيل عندما يقوم بهدر كرامة الأصيل، رغم أن عقد الوكالة قد يظلّ قائماً من الناحية القانونية الصرفة.
وما يدعو إلى الاستهجان هو إعلان المجلس الدستوري، صراحة، أنّ التمديد مخالف للدستور، أي أنه عمل غير قانوني، لكن حصوله قبل فترة قصيرة جداً من انتهاء ولاية المجلس يجعل منه أمراً واقعاً «فإبطال قانون التمديد المخالف للدستور، في الوضع الراهن، قد يؤدي إلى فراغ في السلطة الاشتراعية، يضاف إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، ما يتعارض جذرياً مع الدستور، لذلك (...) يعتبر التمديد أمراً واقعاً» (قرار المجلس الدستوري رقم 7 تاريخ 28 تشرين الثاني 2014). فالتوصيف الذي اعتمده المجلس الدستوري لم يقل بقانونية مجلس النواب حتى، بل فقط تحدث عن الأمر الواقع. لذلك يتبين لنا أنّ المجلس الحالي هو مجلس الأمر الواقع، ما يتعارض مع فكرة القانون القائمة على فكرة الظروف العادية والسير الطبيعي للمؤسسات.
ومن الأقاويل التي تفتقر إلى كلّ سند دستوري، مقولة «المجلس سيّد نفسه»، وأن المجلس هو الذي يمنح سائر المؤسسات شرعيتها بغية تبرير التمديد. وكالعادة في لبنان، تتحول هذه الشعارات إلى مسلّمات بديهية يقبلها الجميع من دون التدقيق في مدى صوابيتها، أو التحقق من تماسكها الفكري. فهل يحقّ لمجلس النواب مثلاً مخالفة الدستور؟ وهل بمقدوره أيضاً عدم احترام مبدأ فصل السلطات والتدخل في عمل السلطة التنفيذية؟ وبما أن الجواب المنطقي عن هذه الأسئلة هو قطعاً بالنفي، فكيف نستطيع إذاً أن نفهم مقولة المجلس سيّد نفسه؟ لقد أجاب الدستور عن هذا الأمر عندما نصّت المادة 43 منه على أن «للمجلس أن يضع نظامه الداخلي» أي أنه يستطيع أن يضع القواعد التي ترعى عمله الداخلي بحرية تامّة، كتحديد عدد اللجان، وكيفية التصويت، وما هي الإجراءات الواجب اتباعها عند استجواب الحكومة أو وزير محدد. فالهدف من النظام الداخلي هو حماية السلطة التشريعية من هيمنة السلطة التنفيذية، التي كانت في القدم، ممثلة بشخص الملك، تصادر حرية الهيئات التمثيلية، وتحتكر كل السلطات. لذلك كان من الضروري، بعد انتشار الأنظمة البرلمانية وانتصار الديموقراطية، ترسيخ هذه المكتسبات عبر ضمان حرية المجالس المنتخبة، من خلال منحها حق إقرار أنظمتها الداخلية بنفسها. لذلك يتبين لنا أن «المجلس سيد نفسه» باتت مقولة اعتباطية، وذات أهداف سياسية، هدفها الحقيقي تبرير أي إجراء مخالف للدستور يتخذه مجلس النواب.
إنّ كلّ هذه الاعتبارات تقودنا إلى التأكيد أن مجلس النواب الحالي فقد شرعيته منذ التمديد الأوّل، وهو سلطة أمر واقع، الهدف الوحيد من استمرارها هو تأمين مخرج لأزمة النظام السياسي اللبناني، والأهم من ذلك كله أن المجلس انتهك كرامة الشعب اللبناني بشكل متعمّد، ومن دون أيّ عذر مقبول، ما يجعل منه فاقداً للكرامة الوطنية.
* كاتب وأستاذ جامعي