تأتي الذكرى السابعة والثلاثون لتغييب الإمام موسى الصدر، ورفيقيه، هذا العام، في ذروة التناقضات الداخلية والإقليمية والدولية، وفي ظلّ تصاعد موجات التكفير، والعنصرية الدينية، تجاه الأقليات المذهبية والعرقية في المنطقة العربية، حيث يقع الشيعة العرب على رأس الاستهداف التكفيريّ، وتعاظم استهداف دور الشيعة في الواقع السياسي اللبنانيّ، من خلال تشويه نضالهم الوطني، الذي أرسى أسسه المتينة الإمام الصدر، وعمّدته دماء الشهداء، الذين سقطوا بالآلاف على طريق تحرير الأرض، بعد تعاقب مجموعات المقاومة الوطنية والإسلامية بين 1975- 2006.
شكّل الإهمال الرسمي لقرى الجنوب، والبقاع، والضواحي البيروتية، والأوضاع المزرية للمزارعين وعوائلهم، واستحكام قبضة العائلات التقليدية النافذة سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً على تلك المناطق، منطلقاً للأحزاب اليسارية والتقدمية، منذ منتصف الخمسينيات، لمحاربة الحرمان، وأحادية التمثيل السياسيّ الجنوبيّ، والإجحاف اللاحق بحقوق العمّال والمزارعين، لكنّها أخفقت في إرساء العدالة المجتمعية، بحيث لم تستطع تجيير مكاسبها على الصعيد الاجتماعي نفوذاً في السلطة الرسمية، نتيجة تشرذمها، وتعدّد أطرها وأقطابها، وتقدّم الجانب السياسيّ على ما عداه من قضايا، ما منعها من قطف التحوّلات الاجتماعية في البنية العائلية، وتحويلها إلى بنية مؤسساتية وطنية، فآثرت التجميل على التغيير، والنضالات الاجتماعية ذات المغزى السياسي، والسلطوي، على الثورة الاجتماعية الشاملة، فجاءت الحرب الأهلية، عام 1975، لتطيح الحراك الاجتماعي والحركة الوطنية اللاطائفية، لصالح تركيبة 1943 بوجوهها الجديدة.
فمنذ منتصف الستينيات، أخذت المطالب الاجتماعية تتصدّر واقع الفئات المهمّشة، وعلى رأسها الطائفة الشيعية، التي كانت تعاني من الحرمان على مستوى المؤسسات، والوظائف والخدمات، ومن توزّع طاقاتها بين أحزاب اليسار، والمنظمات الفلسطينية من جهة، وبين الزعامة التقليدية الانتهازية من جهة أخرى، ما جعلها تفتقر إلى هوية محددة، على غرار بقية المكوّنات الاجتماعية في لبنان، فأضحت الظروف الموضوعية أكثر اتساعاً لقيادة من نوع آخر، تحمل سمات التغيير، وتسخّر الإمكانات للارتقاء من التشرذم إلى الوحدة، ومن الشعور بالحرمان إلى الشعور بالقوّة، والحق بالمشاركة في السلطة، وتقسيماتها الإدارية والوظيفية، والتنمية الاجتماعية، والمشاركة في الخيارات السياسية للدولة اللبنانية المحلية والإقليمية والدولية، على أساس مركّب بين هوية دينية، وبعد وطني واحد. فجاءت حركة الإمام موسى الصدر لتحمل عناوين التغيير الاجتماعي، والسياسيّ، كأولوية على أساس «لبننة» الخيار الشيعي، وإدماجه في الدولة اللبنانية، التي لطالما شعروا بأنها تخلّت عنهم لعبث التهميش والإهمال.

أظهر مقدرة كبيرة
على القيادة والتأثير بالنخب اللبنانية والجماهير

لم يشكل ظهور الإمام الصدر، في البداية، صدمة سلبية بين العائلات التقليدية والدينية النافذة، لكنه مع تصاعد حركته التغييرية في وجه الإقطاع التقليدي، واتساع تأييده الجماهيري، ما سهّل إطلاق حركته التغييرية، فتوّج نشاطه بصهر العناصر العلمانية الشابة في مشروعه، من خلال تقويض الشرعية الدينية الممنوحة للزعامة التقليدية، مستفيداً من الواقع السياسي والاجتماعي، في الجنوب والبقاع والضواحي البيروتية، لتبدأ مسيرة التغيير الشامل لدور الشيعة في لبنان.
اتخذ الإمام الصدر من القضية الاجتماعية أولوية، وحمل شعار «رفع الحرمان عن الجنوب والبقاع» مرتكزاً لمواجهة خصومه من الزعامات الإقطاعية التقليدية، وعلى رأسهم كامل الأسعد، ثمّ الأحزاب اليسارية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، لمنعها من «التهام الشباب الشيعيّ أيديولوجياً وحزبياً (1).»
فهو على الرغم من تمسّكه بالثابت الديني، فقد سخّره لخدمة الانتماء إلى الهوية الوطنية، وعمل على تأسيس هوية اجتماعية تجمع ما بين إعلاء شأن الطائفة والتمسك بالوطن، على غرار بقية الطوائف. وبذلك استبدل العصب العائلي بالعصب المذهبي الديني، واستطاع من خلاله أن يستقطب شرائح متعددة، كانت مشرذمة الولاءات بين العائلة التقليدية وخياراتها المتعددة، والأحزاب اليسارية وشعاراتها، فضلاً عن إعادة إحيائه فكرة مأسسة الانتماء والهوية الدينية، فأعاد إحياء «جمعية البرّ والإحسان» التي أسسها السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1948 في صور، لتكون منطلقاً لنشاطه الاجتماعيّ والخدماتي، وفي ذلك إعادة لتجربة الجمعية الخيرية العاملية في بيروت، ثمّ جاء تأسيسه للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، عام 1969، ليشكّل نقطة تحول رئيسة، في جوهر الزعامة التقليدية المطلقة. كما استطاع بناء مؤسسات تعليمية ومهنية واجتماعية، بعدما غابت لعقود طويلة، في ظل تقصير الدولة مؤسساتياً، وخدماتياً في الجنوب والبقاع، فأراد من تثبيت وعي الشيعة بهويتهم الطائفية والوطنية التأكيد على كونهم مواطنين لهم الحق في التنمية المتوازنة، ورفع الحرمان، والدفاع عنهم أمام الاعتداءات الإسرائيلية (2).
وقام بنسج علاقات متعددة مع جميع الأطراف الفاعلة وطنياً وجنوبياً، وأظهر مقدرة كبيرة على القيادة والتأثير بالنخب اللبنانية والجماهير، فقد منحه الرئيس فؤاد شهاب الجنسية اللبنانية عام 1963، وأضحى ضيفاً دائماً على الندوة اللبنانية، التي ضمّت في صفوفها النخب السياسية والفكرية اللبنانية، فوصفه ميشال أسمر بـ»رجل الزمن الآتي»، وربطته علاقات مع رجالات الصحافة الكبار، وعلى رأسهم غسّان تويني، وحاول قدر الإمكان الاستقلالية في خطّه السياسيّ، رغم تشبيكه مروحة من العلاقات السياسية الداخلية والخارجية على قاعدة دعم مشروعه التغييريّ.
اتّصف بالجرأة على الاعتراض على تجاوزات السلطة بحقّ مواطنيها الجنوبيين، الذين كانوا يتعرّضون يومياً للاعتداءات الإسرائيلية، فأعلن الإضراب العام لدعم أهل الجنوب، ونشأ نتيجة ذلك «مجلس الجنوب، وشكّل هيئة نصرة الجنوب مع الكاردينال أنطونيوس خريش، ومجموعة كبيرة من علماء ورجال دين مسلمين ومسيحيين، كما أنه اعترض على المقاومة الفلسطينية، رغم تحالفه معها، بعدما زادت تجاوزاتها ضدّ الجنوبيين، فخاطب أبا عمّار قائلاً: «يا أبا عمّار، بعمامتي أحمي المقاومة الفلسطينية، لكن لن أسكت عن تجاوزاتها ضدّ الناس في الجنوب (3).»
وعليه، فالإمام الصدر هو الباعث الحقيقي «للشيعية السياسية اللبنانية»، التي تجعل من البعد الوطني أولوية في حركتها الداخلية، وتجعل من لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه ومكوناته المختلفة، يجب الدفاع عنه بكل الوسائل حتى لو غلت التضحيات، على قاعدة الشراكة لا الهيمنة، والمشروعية الوطنية لا الفئوية، وهذا ما يفسر الاندفاعة الشيعية في حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، والخطر التكفيري.

هوامش

1ـ عبد الرؤوف سنّو: «حرب لبنان 1975-1990، تفكّك الدولة وتصدّع المجتمع»، المجلد الأول، مرجع سابق، ص: 145.
2 ـ طلال عتريسي: «تغيّر أحوال شيعة لبنان»، في: «الشيعة في لبنان من التهميش إلى المشاركة الفاعلة»، مرجع سابق، ص: 245
3 ـ انظر: «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وحقوق الطائفة»، كتيّب خاص صادر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، كانون الثاني 1974، ص: 10.
* أستاذ جامعي