ساري حنفي *منذ أن وضعت الحرب الأهلية في لبنان أوزارها، شرعت الجمعيات الأهلية الفلسطينية في لبنان في حركة مدنية متضافرة لنيل حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية. وعلى الرغم من المذكرات والبيانات واللقاءات والتظاهرات التي لم تتوقف طوال أكثر من خمس عشرة سنة، فإن أي تجاوب لبناني إيجابي لم يتحقق في هذه الفترة، إلا أن المجتمع اللبناني في بعض مكوّناته، علاوة على بعض القوى السياسية فيه، راحا، منذ ثلاثة أعوام تقريباً، يلتفتان إلى الواقع المزري للفلسطينيين في لبنان. وفي غمرة الأمل الذي تطلع إليه الفلسطينيون في هذا الشأن، وخيبة أملهم من النتائج، فإن الهيئات المدنية الفلسطينية ما زالت تواصل نضالها الدؤوب في سبيل نيل حقوقها البديهية. وتعرض هذه المقالة جانباً من هذه المسيرة، ولا سيما التظاهرة التي جرت في 27/6/2010، والتحديات التي تواجه حملة الحقوق المدنية في لبنان.
لعلّ من الصعب تحديد تاريخ دقيق لبدء حملة الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، ففي كل مناسبة وطنية أو فصائلية كان الفلسطينيون يبادرون إلى التذكير بحق العودة والحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية، مع تركيز مبالغ فيه على الحق الأول على حساب الحقوق الأُخرى، خوفاً من أن يعطي التركيز على العامل الثاني رسالة خطأً فحواها التنازل عن الحق الأول، أي حق العودة.
في مطلع سنة 2005، فرحتُ لرؤية الملصقات الكبيرة (300 سم × 150 سم) التي أعدتها «الحملة المدنية الفلسطينية ــــ اللبنانية لحق العودة»، تنتشر على طول الطريق الممتدة من المصنع (الحدود اللبنانية ــــ السورية) إلى مداخل بيروت؛ لكن سرعان ما تحوّل فرحي إلى أسى لأنني فهمت أن تشديد الطرف اللبناني على حق العودة من دون أن يترافق ذلك مع الحقوق المدنية والاجتماعية ــــ الاقتصادية في بلد اللجوء، يمكن أن يُفسّر كأنه دعوة مبطنة إلى طرد الفلسطينيين من لبنان.
وقد وعت حركة العودة الفلسطينية هذه الإشكالية، وأن تمكين اللاجئين اقتصادياً واجتماعياً، وتمسكهم بحق العودة، هما شرط عودتهم. ولعل الرسالة الرئيسية في كتاب «عبور الحدود وتبدل الحواجز: سوسيولوجيا العودة الفلسطينية» (حنفي 2008)، هي أن المطالبة بالحق لا تكفي لتأمين العودة (الجانب القانوني)، بل يتعين أيضاً على المجتمع المدني والسياسي الفلسطيني تفعيل الروابط والعلاقات الاجتماعية بين اللاجئين الفلسطينيين في مواقعهم الجغرافية المتشظية، والطبقة الوسطى هي المؤهلة أكثر من غيرها للعودة لأنها تتحمل تبعات الهجرة في مناخ سياسي غير مستقر. لذا، لن يكون تجويع اللاجئين في لبنان وإفقارهم المستمر، باباً للعودة، كما أن المخيم الفلسطيني لا يستطيع أن يكون بوتقة لنسيج اجتماعي متماسك، عندما يكون هناك فضاء يفتقد الحد الأدنى من البنى التحتية التي تجعل منه مكاناً للعيش الكريم، وتُطبَّق فيه القوانين والتشريعات الحضرية. ولهذا، ميّزنا المخيمات كفضاءات مفتوحة كما هي الحال في سوريا والأردن، من المخيمات كفضاءات مغلقة، كما في لبنان (حنفي 2010).
وطالبت جمعيات حقوقية فلسطينية نشأت منذ مطلع التسعينيات، بالحقوق المدنية والاجتماعية ــــ الاقتصادية، ورصدت الانتهاكات الرسمية اللبنانية للحقوق الإنسانية للاجئ الفلسطيني، التي تمارسها المؤسسة القانونية أو المؤسسة الأمنية، وعملت على تدريب جيل جديد على استخدام لغة حقوق الإنسان. أمّا الفصائل الفلسطينية، فربطت حق العودة بالحقوق الأُخرى، لكن بعضها تأخر في المزاوجة بين هذه الحقوق، واتسم خطابه المطالب بالحقوق المدنية والاقتصادية ــــ الاجتماعية بالدفاعية والخجل، كي «لا يساء فهمه على أنه دعوة إلى التوطين». لقد استخدم كثير من الأحزاب اللبنانية معزوفتي التوطين والتحليل التآمري لمنع الفلسطينيين من المطالبة بهذه الحقوق، وفعلاً، خفّف بعض الفصائل من هذه المطالب.
في سنة 2005، بشّر إنشاء لجنة الحوار اللبناني ــــ الفلسطيني بحراك سياسي جديد، إلا أن الآمال ما لبثت أن اندثرت عندما شُغلت هذه اللجنة بعملية إعادة إعمار نهر البارد، وأهملت العمل على تحضير القوانين اللازمة لإنهاء التمييز المجحف بحق الفلسطينيين (وخصوصاً في ما يتعلق بحقَّي العمل والتملّك). وقد تألفت، بمبادرة من الأونروا، لجنة تشغيل الفلسطينيين (CEP) التي بدأت عملها كلجنة لتحسين تدريب العمالة الفلسطينية الماهرة، ثم تطور عملها ليتناول قضايا قانونية تتعلق بعمل اللاجئين الفلسطينيين، وحفّز ذلك بعض مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني (وبعض المنظمات الدولية كجمعية المساعدات النرويجية) على إيجاد إجماع حول المطالبة بحقَّي العمل والتملك. ومن النشاطات الرائدة أيضاً تأليف «ائتلاف حملة حق العمل» المكوّن من مجموعة كبيرة من المنظمات الفلسطينية واللبنانية بقيادة «جمعية النجدة الاجتماعية»، كما نشأت حملة الحقوق المدنية الفلسطينية التي وضعت عريضة تطالب بتغيير القوانين، وقد وقّعها، حتى الآن، 331.768 شخصاً موزعين بين لبنان والعالم. ويرأس هذه الحملة الناشط الأميركي فرانكلين لامب الذي حمل قضايا اللاجئين الفلسطينيين إلى الرأي العام العالمي مستخدماً الفضاء الافتراضي ولغة منظمات حقوق الإنسان التي تكتفي بـ«التسمية والفضح».

مسيرة الحقوق المدنيّة والاجتماعيّة الاقتصاديّة

لقد وصل هذا النشاط إلى ذروته خلال مسيرة الحقوق المدنية والاجتماعية ــــ الاقتصادية للفلسطينيين التي انطلقت نهار الأحد في 27 حزيران/ يونيو 2010، لتمثّل معلماً في حركة نضال الشعب الفلسطيني في لبنان من أجل نيل مطالبه ضد التمييز السلبي الظالم الذي عانى جرّاءه طوال أعوام اللجوء. وتكمن أهمية هذا التحرك في إشارته إلى ولادة حركة اجتماعية تتجاوز في معانيها خروج ألوف الفلسطينيين واللبنانيين إلى الشارع في يوم غضب عارم. والجانب غير المرئي من هذه المسيرة لا يقل أهمية عن المسيرة نفسها. فخلال الأشهر التحضيرية الأربعة، جرت لقاءات مع بعض الأطراف اللبنانية التي لم يكن إعطاء حقوق الفلسطينيين على جدول أعمالها، إمّا لأسباب تكتيكية أو شعبوية، وإمّا، ببساطة، لأن فكرة أن «يعيش الفلسطيني بكرامة حتى العودة» (وهو الشعار الرئيسي للمسيرة) لم تكن ضمن أولوياتها. وقد اتسمت أشهر الإعداد الأربعة، بكونها تجربة خصبة بُنيت فيها تحالفات بين مؤسسات المجتمع الأهلي الفلسطيني واللبناني، وخلصت إلى دروس وعبر سأتناولها سريعاً في هذه المقالة.

تأسيس الشبكة وبناء التحالفات

توافقت اثنتا عشرة مؤسسة أهلية فلسطينية ولبنانية، علاوة على شخصيات تمثل معظم الأطياف السياسية من العاملين في المجال الحقوقي، على تأليف شبكة مسيرة الحقوق التي استخدمت بعض تقنيات الشبكات الافتراضية مثل الفايسبوك، لتمرير رسالتها إلى داخل لبنان وخارجه. وقد قررت هذه الشبكة ألاّ يكون هناك أي ناطق رسمي باسمها، كي تحافظ على أهمية العمل الجماعي، ولأن الشبكة تستمد أهميتها من الآلية الديموقراطية في اتخاذ قراراتها. وتطورت الفكرة من مسيرة يومين، من نهر البارد والرشيدية والجبل والبقاع في اتجاه البرلمان اللبناني، كي تصبح مسيرة داخل المدن (وبالتحديد صور وطرابلس وعاليه وشتورة)، ثم يُنتقل بالحافلات في اتجاه بيروت. وسار القادمون من الشمال من الكرنتينا إلى نقطة التجمع أمام مبنى «الإسكوا»، كما سار القادمون من الجنوب من المدينة الرياضية إلى النقطة نفسها. وقد قدّر أكثر من مراقب مجموع المتجمهرين في مدنهم، وأولئك الذين وصلوا إلى بيروت، بتسعة آلاف شخص، وهو أكثر من الآلاف الخمسة التي توقّعتها الشبكة.
وأبرزت المسيرة وعياً فلسطينياً بأهمية النضال السلمي الحقوقي، ونثر بعض اللبنانيين الأرزّ من شرفات منازلهم على المتظاهرين من حاملي الأعلام الفلسطينية واللبنانية، في إشارة لافتة إلى تعاطفهم وتضامنهم. فضلاً عن المسيرة، أقام تحالف الفصائل الفلسطينية وبعض حلفائه اللبنانيين، اعتصاماً صغيراً أمام «الإسكوا»، ومهرجاناً خطابياً في قاعة اليونسكو، في 25 حزيران/ يونيو 2010.
وعلى الرغم من أن فكرة الحقوق المدنية هي فكرة جامعة فلسطينياً (تضم المجتمع الأهلي الحقوقي المستقل والقريب من فصائل منظمة التحرير وفصائل التحالف)، ولبنانياً (تضم الجمعيات المستقلة والقريبة من أوساط 8 و14 آذار/مارس)، فإن الشرخ بين هذه القوى أكبر كثيراً من أن تجمعها فكرة نبيلة. ومع أنه لا يمكن أحداً أن يدّعي أن هذه الشبكة كانت تدعم طرفاً على حساب طرف آخر، إلاّ أن بعض الأطراف استنكف عن المشاركة لأنه اعتاد الهيمنة بدلاً من بناء تحالف واسع.

المجتمع المدني في مقابل الفصائل والأحزاب

استخدمت أحزاب لبنانية معزوفتي التوطين والتحليل التآمري لمنع الفلسطينيين من المطالبة بحقوقهم
«المجتمع المدني يحاول اختطاف القضية السياسية وتحويل قضية الحقوق إلى قضية غير سياسية». هذا هو النقد الذي وُجه إلى المسيرة، لأنها همشت الفصائل الفلسطينية. غير أن ما يجب معرفته هو أن الحركات الاجتماعية هي حركات سياسية بوسائل مغايرة، فقدراتها التنظيمية وقوتها التأطيرية قد تتجاوز، في بعض الأحيان، قدرات الأحزاب السياسية. ولعل من قرأ كتاب: «بروز النخبة الفلسطينية المعولمة: المانحون والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية المحلية» (حنفي وطبر 2005)، يتبين له أن نقدي الأساسي لكثير من المنظمات الأهلية الفلسطينية يكمن في أنه ربما التبس عليها الفارق بين ما هو وطني وسياسي من جهة، وما هو حزبي من جهة أُخرى. فأي ابتعاد عن السياسة هو ابتعاد عن الهمّ الوطني، لأننا لا نزال حركة تحرر ومقاومة لا يمكنها أن تفصل السياسي عن الهمّ اليومي للمواطن أو اللاجئ.
لقد اتسمت شبكة مسيرة الحقوق بوعيها عدم الفصل بين المدني والسياسي، وعندما وزعت المهمات من أجل تعيين منسقي المناطق، اختيرت المنظمات الأهلية القادرة على الحشد والقريبة من الفصائل الفلسطينية واللبنانية بأطيافها كلها. وقد ظهر الحرص على إظهار الربط الجدلي بين المجتمع المدني والفصائل في المهرجان المركزي في «الإسكوا» حين أعطيت الكلمة لجميع الفصائل القريبة من المؤسسات المدنية المشاركة، الأمر الذي أظهر هذه الفصائل كأنها هي من نظّم المسيرة، وذلك على حساب منظمات المجتمع المدني، ولا سيما المنظمات الشعبية والاتحادات الطالبية التي أدت دوراً رائداً في التعبئة الجماهيرية.

ثقافة التكسير

نستطيع أن نتفهم الشرخ العميق في المجتمع السياسي الفلسطيني منذ انفصال غزة عن الضفة، كما نعرف أنه لم يجرِ أي نشاط مشترك «ذي معنى» بين فصائل منظمة التحرير وفصائل التحالف منذ سنة 1982 في لبنان، الأمر الذي أدى إلى ثقافة عدم التعاون. لكن ما لا يمكن فهمه هو لماذا تنتشر ثقافة التكسير التي تبنى على ثنائيات: المناضل/العميل؛ جدول أعمال وطني/جدول أعمال خارجي؛ المتدين/الكافر؛ إلخ؟ لقد أشاعت بعض الأوساط الفلسطينية أن هذه المسيرة موّلها الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، وأنها تخدم جدول أعمال سياسياً وغير واضح.
كان جدول أعمال المسيرة واضحاً منذ البداية، وهو ما سمح لها بأن تضم أكثر من مئة مؤسسة أهلية فلسطينية ولبنانية. وقد مُوّلت بـ38.600 دولار حُصل عليها من كل من: المجلس الدانماركي للاجئين؛ السفارة النروجية؛ «جمعية المساعدات الشعبية النروجية»؛ تبرعات من أعضاء الشبكة بمبالغ تتراوح ما بين 500 و2000 دولار أميركي. ونحن نعتبر أن التمويل من جهة ما، يعني أن هناك تقاطع مصالح مع هذه الجهة، لا تطابقاً في المصالح، وهذا مبدأ أساسي في العلاقات الدولية. إن أي تمويل يحمل في طياته سؤالاً عن قدرة الطرف المتلقي على المحافظة على جدول أعماله، وكيف يتفاوض على استقلاليتها. وما تم فعلاً من خلال تمويل هذه المسيرة هو أنه لم يكن هناك أي شرط مرفق بهذا التمويل.
أمّا بالنسبة إلى ثقافة التكسير التي ترهن الوطنية بطرف ما، وتلغيها عن طرف آخر، فثمة أمثلة لها، مثل حملة حماية قرار حق العودة («حملة 194») التي بادرت إليها مجموعة شبابية في 29 أيار/ مايو 2010، من أجل كتابة قرار الجمعية العامة 194 بواسطة الكوفيات في ملعب المدينة الرياضية في بيروت، وجرى توثيق ذلك في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأكبر قرار دولي كُتب بالطريقة المذكورة. وقد شكّك بعض الفرقاء الفلسطينيين في المجموعة وأهدافها.
لقد عانت المؤسسات الأهلية القريبة من الإسلاميين ــــ الوطنيين («حماس» والجهاد) في فلسطين، جرّاء قيام بعض الاتجاهات اليسارية والوطنية بإقصائها عن المجتمع المدني، لأن هذا المجتمع هو بالتعريف «علماني». ويبدو اليوم كأن هؤلاء الإسلاميين ـــــ الوطنيين يمارسون ثأرهم بطريقة إقصائية معاكسة معتبرين أن المجتمع المدني، غير القريب منهم، مرتهن بجدول أعمال غير وطني ومشكوك فيه، ولا يمكن العمل معه.
ولعل هذه المسيرة تمثّل درساً يحفّز المجتمع المدني والسياسي الفلسطيني على التأمل في كيفية جعل التنوع السياسي الفلسطيني ظاهرة صحية، بحيث تتكاتف الجهود للعمل معاً لإحقاق حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والحقوق المدنية الاجتماعية والاقتصادية، وكي لا يبقى هذا التنوع رمزاً للشرذمة التكسيرية، ولجداول أعمال فصائلية ضيقة. وربما تنقص الساحة الفلسطينية مسحة من الليبرالية التي من دونها سيضيق صدر الفاعلين السياسيين، ويصبحون فريسة الثنائيات التبسيطية التي تحبط أي جهد خلاق.

الخطاب اللبناني اليميني وغياب اللحظة الدريفوسية

تزامن التحضير للمسيرة واللقاءات المكثفة مع القوى اللبنانية مع تطور نوعي في بداية حزيران/ يونيو 2010، إذ طرح وليد جنبلاط، رئيس اللقاء الديموقراطي، أمام الجلسة التشريعية العامة في مجلس النواب اللبناني في 15 حزيران/ يونيو الماضي، بصفة معجل مكرر، أربعة مشاريع قوانين لتحسين شروط حصول اللاجئين الفلسطينيين على إجازة عمل، وما يتبع ذلك من ضمان اجتماعي وتعويضات، إضافة إلى حق الفلسطيني في تملك شقة سكنية. غير أن هذه المشاريع لم تجز للفلسطينيين الانضمام إلى نقابات المهن الحرة. وقد سارع الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى اقتراح قانون أكثر تعبيراً عن المطالب الفلسطينية، ويسمح للفلسطيني بالعمل في المهن كلها، ويمنحه حق التملك. وقد ردّت قوى 14 آذار على المشروعين بمشروع آخر. أمّا القانون، فقد سماه صقر أبو فخر («السفير»، 18/8/2010)، وهو على حق، «الصدقة» التي امتصت باللحظة الحاسمة، وقدم حلاً استنسابياً في يد وزير العمل. بكلام آخر، حُوِّل المرسوم الوزاري إلى قانون مع المحافظة على الأفضلية للبناني وللوائح وزير العمل الممددة للمهن التي يُسمح للأجانب بالعمل فيها. وقد تم التصويت عليه وإقراره في جلسة البرلمان في 17 آب/ أغسطس 2010. ولعل الإيجابية النسبية الوحيدة للقانون الأخير هي تعديل أوضاع فاقدي الأوراق الثبوتية من اللاجئين الفلسطينيين.
أدى عرض اقتراحات اللقاء الديموقراطي إلى مجموعة من ردات الفعل، ولعل المعاني الكامنة خلف ردات الفعل هذه، تتجاوز الموضوع الفلسطيني، مظهرة مدى الانقسام في النخبة السياسية اللبنانية. ويتجاوز هذا الانقسام والفرز الشكل الطائفي المعتاد، أو الانقسام ما بين قوى 8 و14 آذار/ مارس، ليصلا إلى ما وصفه وليد جنبلاط بالخلاف بين اليسار واليمين. وتنبع أهمية هذا التوصيف الجديد من أنه يحمل مقاربتين رئيسيتين: الأولى ذات بعد طبقي، والثانية ذات بعد هوياتي/ ثقافي/ أخلاقي.
ويشير البعد الأول إلى أن مَن يريد إلغاء، أو تأجيل الحقوق الاقتصادية ــــ الاجتماعية والمدنية الفلسطينية، إنما يريد استمرار الاستغلال الاقتصادي في لبنان لربع مليون فلسطيني مقيم، بحيث لا تمثّل القوة القادرة على العمل أكثر من خمسين ألف شخص، يعمل المحظوظون منهم في الأونروا (17%)، والأقل حظاً في السوق السوداء (30%) من دون عقد عمل (إحصاءات وزارة العمل تظهر 261 إجازة عمل فقط للفلسطينيين من أصل 146.000 إجازة للأجانب)، والباقي لا يعمل، وذلك بحسب إحصاءات المسح الذي أجرته «جمعية النجدة الاجتماعية» (Khalidi 2009). ويستفيد أرباب العمل اللبنانيون من هذه العمالة الرخيصة، إذ يُدفع، في كثير من الأحيان، للمهندس والطبيب والممرض من الجنسية الفلسطينية، ربع ما يُدفع لأترابهم اللبنانيين (بحسب البحث الميداني الذي أجريتُه في سنة 2006) (حنفي وتيلتنس 2009)، ويستطيع رب العمل اللبناني أن يطرد العامل الفلسطيني متى شاء، إذ لا عقد عمل له، ولا حتى ورقة غير رسمية، تحدد العلاقة معه.
أمّا المعنى الثاني للانقسام، أي اليسار في مقابل اليمين اللبناني، فهو انقسام هوياتي/ ثقافي/ أخلاقي، لأنه يقسم اللبنانيين بين الذين يريدون بناء هويتهم وثقافتهم على التسامح واحترام الأقليات وحقوق الإنسان، وأولئك الذين يريدون بناء ههويتهم بناءً ماهوياً، وبالتضاد مع الآخر الذي كُرِّس عدواً أبدياً، ويمثّل خطراً على أمن لبنان. فهذا اليمين الذي رفض حق العمل للفلسطينيين منذ سنة 1948، هو الذي ساهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في دفع المنظمات الفلسطينية إلى ارتكاب خطيئة التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، والمشاركة في الحرب الأهلية (بُرِّر هذا التدخل ذرائعياً أحياناً كثيرة). وقد اعتذر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية السابق، عباس زكي، إلى اللبنانيين عن هذه الخطيئة، ودخلت العلاقات الفلسطينية ــــ اللبنانية عهداً جديداً، واختلطت الأوراق بعدها، حتى صار لا يُعرف مَن هو مع صفاء هذه العلاقات، ومَن هو ضدها.
أقصيت المؤسسات القريبة من الإسلاميين عن المجتمع المدني، ويمارس هؤلاء الإسلاميين ثأرهم
لقد شاعت كلمة «حبيبي» التي يستخدمها اللبنانيون «على الطالعة والنازلة»، وصرنا لا نفرق بين مَن يقصد حباً حقيقياً، ومَن يريد حباً مائعاً (Liquid Love)، كما يسميه زيغمنت باومان، وقد اعتاد بعض زوار السياسيين اللبنانيين من الفلسطينيين، الاستماع إلى تطمينات ومواقف لا تلبث أن تنقلب إلى نقيضها، أو، في أفضل الأحوال، تلتبس معانيها. كنا نظن أن «التقية» سمة أريد إلصاقها بطائفة دينية محددة على اعتبار أنها استخدمتها تاريخياً (بسبب الخوف بالدرجة الأولى)، لكن «التقية» أصبحت نموذج (paradigm) العمل السياسي في لبنان. وأخيراً أصبح «اليمين» عارياً تحت الضوء والاختبار الحقيقي، وبلا ذريعة يستخدمها للتملص من التصويت بـ«لا» التي تكرّس النظرة الأمنية للفلسطيني، أو بـ«نعم» التي تعترف بإنسانيته وحقه في الحياة.
وانفردت بعض الأحزاب السياسية اللبنانية بموقف واضح وجليل ومتماسك لتعديل القوانين المجحفة بحق الفلسطينيين، ولعل ذلك يذكّرنا بقضية دريفوس في فرنسا، التي حوّلت الفرز الطبقي لثنائية اليسار واليمين إلى فرز ثقافي/ أخلاقي. وللتذكير، فإن ألفرد دريفوس، وهو ضابط يهودي في الجيش الفرنسي، كان قد أثار جدلاً حاداً في الطبقة السياسية الفرنسية بعدما ألقي القبض عليه في سنة 1894 بتهمة الخيانة والتجسس لمصلحة ألمانيا، وبالتالي، حُكم عليه بالسجن المؤبد. وقد قسمت محاكمته الرأي العام في فرنسا إلى فريقين ظلا على عداء مستفحل أعواماً عدة، فمن جهة كان هناك الاشتراكيون والجمهوريون الذين آمنوا ببراءته، ومن جهة أُخرى، الملكيون والأحزاب المحافظة الكاثوليكية والنخبة العسكرية الذين أرادوا إدانته.
ونحن الآن في انتظار ما إذا كانت هذه اللحظة الدريفوسية هي لحظة جدل صحي في المجتمع اللبناني لإعادة الوعي إلى الطبقة السياسية اللبنانية، بحيث يتزحزح اليمين المتردد قليلاً نحو اليسار، ويهمّش اليمين المتطرف والمتشنج والشعبوي الذي أصبحت فزاعة التوطين بالنسبة إليه أشبه بحصان طروادة.
ولأن اللاجئين هم طليعة الإنسانية كما تذكِّرنا الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت، كونهم ظاهرة تكشف تناقضات الدولة القومية، فلعل إنصاف حق اللاجئين هو إعادة اكتشاف لروح المجتمع اللبناني الذي اتسم بغنى تعدده الثقافي والديني والسياسي، وبروعة الهامش الديموقراطي الليبرالي. ولحظة الوعي تلك في فرنسا كانت ممكنة عندما تحركت شخصيات مرموقة من عالم الفكر والأدب في فرنسا، على غرار إميل زولا وأناتول فرانس ومارسيل بروست، لتأييد إعادة محاكمة دريفوس، وقد كتب زولا خطابه الشهير «إني أتّهم» الذي صدر في شكل بيان حمل توقيعه وتوقيع كثيرين من الأدباء بعنوان «بيان المثقفين». لقد اعتبر السوسيولوجي الفرنسي كرستوف تشارل ذلك التحرك بداية، ولادة المثقف كفئة فاعلة في المجتمع. والسؤال الذي يبقى مفتوحاً هو: هل هناك من زولا لبناني؟

الخاتمة

نعود إلى ما عرضناه في المقدمة من أنه على الرغم من وجود عناصر لحركة اجتماعية، فإن هذه العناصر (هوية الفاعلين؛ هوية خصمهم؛ المشروع البديل؛ الفرص السياسية) لا تزال ملتبسة وضعيفة. فالطرف الفلسطيني منقسم ومشرذم في هويات فصائلية تحجب هويته الوطنية، مع أن أنصار الفصائل الفلسطينية جميعاً يعيشون تحت مطرقة القوانين التمييزية المجحفة، أمّا هوية الخصم، أي الطرف اللبناني، فهي أقرب إلى «هيدرا» متغيرة الشكل، بل إن حتى الأحزاب المؤيدة للحقوق الفلسطينية ربطت تصويتها بتوافق لبناني كامل! وقد أثار انتباهي في مقابلاتي الأخيرة في المخيمات الفلسطينية، أفراد يؤيدون المقاومة اللبنانية، لكنهم لا يتفهمون موقفها «الذي جعل من تحرير القدس أحد مطالبها الرئيسية، إلا أنها في الوقت نفسه تدفع فلسطينيي لبنان إلى العيش كأجساد بدون كينونة سياسية أو كرامة»، كما عبر عن ذلك أحد المهندسين العاطلين من العمل. وذكرت فتاة جامعية فلسطينية من نهر البارد، تعيش في أحد براكسات المخيم الجديد، أنها لا تفهم لماذا تُرسل السفن إلى غزة المحاصرة من ميناء طرابلس في الوقت الذي يحتاج أهل مخيم نهر البارد القاطنون على بعد 15 كم، إلى هذه المساعدات، كما يحتاجون إلى فك الحصار عنهم، لأنهم يعيشون في فضاء أشبه بمعسكر اعتقال جماعي (إذ إن الجيش يمنع الزائرين من الدخول من دون إذن مسبق، وهو إذن يتطلب الحصول عليه الانتظار أسبوعاً على الأقل، هذا إذا حُصِل عليه)؟ لقد أبدع الياس خوري عندما تساءل: لماذا يحب البعض فلسطين ويكره الفلسطينيين؟
أما عنصر المشروع البديل فلا يقل التباساً عن هوية الفاعلين الاجتماعيين وهوية خصومهم، ذلك أن المطلوب من هذا المشروع أن يتخلى عن جميع مصطلحات العلوم الاجتماعية وأدواتها التحليلية التي تمكننا من الفهم والمقارنة، وذلك باسم خرافة فرادة النظام السياسي في لبنان، ونظريات المؤامرة المنتشرة في المنطقة، وبالتالي، فإنه ممنوع علينا استخدام كلمة الاندماج (Integration) الاقتصادي والاجتماعي والحضري للاجئ الفلسطيني، إذ ربما يحسبها البعض دعوة إلى التوطين. ولا يمكن مقاربة بعض مواقف اليمين اللبناني لأن هناك حالات «استثنائية» يُسمح فيها للتصريحات الإقصائية والمبنية على تمييز مجموعة إثنية بأن تملأ شاشات التلفزة، إلا أنها لا تستطيع استخدام الإطار القانوني لحقوق اللاجئين لأن الفلسطينيين «حالة استثنائية من اللجوء» في مجتمع طائفي. ولا تستطيع أن تذكّر الدول المضيفة (كلبنان) بـ«واجباتها»، لأن ذلك يعني تخلّي المجموعة الدولية عن مسؤولياتها. وبدلاً من الحديث عن الحقوق الاقتصادية ــــ الاجتماعية والمدنية، أصبح الحديث يدور، بخجل، على الحقوق الإنسانية. لقد ساعد ذلك كله، اليمينَ على الهجوم مستخدماً فزاعة التوطين. وكما بيّن عزمي بشارة فإن «عدم التوطين لا يعني العودة إلى فلسطين، بل قد يعني التوطين في أستراليا أو كندا أو الدول الإسكندنافية. هناك يصبح اللجوء اغتراباً، والشتات جاليات».
أمّا في ما يتعلق ببنية الفرص السياسية، فعلى الرغم من الضغط الذي مارسه المجتمع المدني الفلسطيني وبعض جمعيات المجتمع المدني اللبناني على الطبقة السياسية اللبنانية، فإن هذه الضغوط جاءت في الوقت الذي دخل لبنان أزمة جديدة تتعلق بالمحكمة الدولية دافعة قضية الحقوق إلى أجل غير مسمى؛ وعلى الرغم من المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي لا عدّ لها، ووجود خمس عشرة دراسة إحصائية عن موضوعَي العمل والتملك للفلسطينيين في لبنان، فإن البعض لا يزال يطلب مزيداً من الدراسات عن العبء الاقتصادي الذي سيعانيه لبنان جرّاء دخول الفلسطينيين إلى سوق العمل، وكم سيشتري الفلسطينيون من شقق سكنية. وطبعاً، لم يطلب أحد دراسة مساهمة عوائد عمالة المهاجرين الفلسطينيين في دعم أسرهم في لبنان، ولا أهمية 70 مليون دولار تصرفها الأونروا سنوياً منذ سنة 1949، ولا نفقات الفصائل الفلسطينية والمساعدات الغربية والإسلامية لفلسطينيي لبنان، التي تُصرف كلها في لبنان. وأود أن أنهي بتذكير هؤلاء المطالبين بمزيد من الدراسات لكسب الوقت، فأقول: «إن الملك أصبح عارياً حتى من ورقة التوت».
* أستاذ العلوم الاجتماعيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت
(يُنشر هذا النص في مجلة الدراسات الفلسطينيّة التي تصدر غداًimg src="/sites/default/files/old/images/p20_20100927_pic1.jpg" title="التعديلات المقترحة على قوانين العمل" align="center" width="465" height="255"/>

المصدر: المواد الأساسية لهذين الجدولين مصدرها مسودة غير رسمية قدمتها لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني.