ما يشتعل تحت الرماد في تناقضات القوى السياسية حول الملفات الشائكة، هو الوجه الآخر لاتفاق الطبقة السياسية على «التهدئة» بطلب ورعاية سورية ــــ سعودية. فالخلافات السياسية الحادة إن لم تظهر في خطاب احتراب المواقف العصبية في السلطة، تخبو تحت الرماد على شكل حرب باردة إلى حين التهابها في أول مناسبة، على ما اعتادت السلطة «التعايش» منذ «صيغة التعايش». وقد تكون «المحكمة الدولية» اليوم هي عنوان «أم المعارك» بانتظار جلاء ما يحوكه «المجتمع الدولي» للنيل من المقاومة تمهيداً لحرب «دولية» ــــ إسرائيلية استكمالاً لحرب 2006. لكن التناقضات الساخنة الأخرى أكثر من أن تُحصى وتُعد ومعظمها لا حلّ لها من داخل السلطة، بل إن مجرد إثارتها في السلطة جدياً يؤدي إلى احتراب عصبي في السلطة ويقضّ «السلم الأهلي». وفي مقدمة هذه التناقضات غرق الخزينة بالديون ونهب الثروة العامة وعجزها عن تحريك متنفّس في أزمة السياسة الاقتصادية ــــ الاجتماعية وأزمة الطاقة والبطالة و«الشؤون الحياتية».... ثم احتراب حول السياسة الدفاعية بين منحى المقاومة لزيادة دفاعها بتأهيل الجيش للدفاع إلى جانبها، ومنحى «نزع» سلاح المقاومة سبيلاً «لسيادة الدولة». وفي السياسة الخارجية احتراب آخر بين تقديس إعادة انتداب «المجتمع الدولي»، وتحالف قوى «المقاومة والممانعة» على الصعيد الإقليمي. وفي خضم هذه التناقضات الحادة التي يتأسس عليها مشروع أي دولة ومبرر وجود أي سلطة، تنهمر ملفات أزمات المؤسسات الدستورية والإدرات العامة وصلاحيات الرئاسة والأجهزة الأمنية وصلاحية القضاء في شهود الزور والعملاء، وقانون الانتخاب والعلاقة مع سوريا والحقوق المدنية للفلسطينيين... وكل شيء من كل شيء. والعبرة من كل هذا الخراب السياسي أن اهتراء السلطة وصل إلى حد يفضي معه أي تحريك في المستنقعات الآسنة داخل السلطة، إلى احتراب عصبي على شفير هاوية الحرب الأهلية. وأن أي مراهنة على حل الإشكالات السياسية و«الحياتية» داخل السلطة أو حتى مجرد إثارتها بجدية، دونها الاحتراب العصبي بل حرب الشوارع.
والحقيقة أن هذا المأزق العضال ليس رسماً للندب على أطلاله. وليس، بطبيعة الحال، مناسبة لتكرار رومانسية مكرورة في الدعوة لإصلاح السلطة من فوق، دون العمل على تغيير موازين القوى الاجتماعية من تحت بغير الخطابة البدائية. إنما يقرع المأزق ناقوس الخطر لإعادة مقاربة السلطة في متغيراتها القديمة ــــ الجديدة على مستويين: أ ـــ أن تسلّط السلطة على الدولة (على الإدارات العامة في المقام الأول) واحتكارها إدارة الثروة العامة الخام وتوزيعها، هو احتراب دائم بين أطراف السلطة وأساس الانقسام العصبي العمودي بين الناس. وهو أمر لا يتعلق بالتمثيل الطائفي للجماعات في السلطة على غرار سلطات بعض البلدان المتعددة القوميات مثل سويسرا وبلجيكا وغيرها، إنما يتعلق بتوزيع الثروة الخام عبر السلطة في مرحلة باتت فيها هذه الثروة الخام تحت انتداب «المجتمع الدولي» وباتت السلطة له مجرد وكيل إداري. فهذه الآلية مبنية بطبيعتها على أساس أن تأخذ كل جماعة «حصتها» من «حصص» الجماعات الأخرى في حرب دؤوبة لا مفر منها حول وهم «عدالة التوزيع»، وخاصة وقت الجفاف. ب ــــ أن إشكالات السياسات الدفاعية والخارجية والسياسة الاقتصادية ــــ التجتماعية (بما في ذلك المشاكل الحياتية)، لم تكن على مر التاريخ بمستوى التداخل والتعقيد من الكوني إلى الإقليمي فالمحلي كما هي اليوم في لبنان والعالم. وهي تعقيدات تقيّد إلى الحد الأقصى إمكانية التأثير الشعبي على السلطة حتى في البلدان الصناعية حيث ما زالت الدولة مستقلة عن السلطة مثل فرنسا وغيرها. ففي هذه البلدان الصناعية العريقة الديموقراطية يجري التراجع بسرعة فائقة عن الحريات العامة وعن الحقوق الاجتماعية والديموقراطية، ولم تعد تظاهرات الاحتجاج المليونية تؤثر بوصة على خيارات السلطة في سياق النيوليبرالية المعولمة. وفي لبنان الذي باتت سلطته وكيلاً إدارياً في بلد يقاوم نصفه انتداب «المجتمع الدولي»، أصبحت أي مساومة داخل السلطة تتطلب معجزة دولية ــــ إقليمية ــــ محلية وهو أمر يفاقم اهتراء السلطة ويفاقم بالتالي حدّة احتراب الجماعات العصبية، في سعي كل منها للتقوقع ما أمكنها حماية غريزة القطيع من تهديد الأزمات. وفي أي حال تنتشر ظاهرة غريزة القطيع في كل العالم وفي البلدان الصناعية نفسها مع تنامي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فلبنان في هذا السياق ليس فريداً من نوعه وليس الأكثر سخونة.
لا بد أن يتأسس المشروع المقابل على إعادة النظر في توزيع الثروة الخام عبر السلطة على المناطق والجماعات، وبناء آليات إنتاج ثروة عامة محلية بين المناطق وكل الجماعات. فلا يمكن حل مشكلة مزارعي البقاع والجنوب والجبل دون سياسة زراعية مغايرة لسياسة «المجتمع الدولي» في تصدير الخضار الطازجة، تشمل عكار والشمال وكل الأراضي اللبنانية. ولا يمكن حل «أزمة الكهرباء» دون سياسة طاقة مغايرة لسياسة «المجتمع الدولي» في الاعتماد الحصري على استهلاك الطاقة الأحفورية والمشاريع الكبرى. وهكذا هو الأمر في تخفيف أزمة البطالة والصناعات الحرفية وإعادة التأهيل وأزمة المياه الغذاء والبيئة... ولا يمكن المراهنة على مقاربة حل أي من هذه المسائل عبر سلطة تحت انتداب «المجتمع الدولي» على السياسة الاقتصادية ــــ الاجتماعية. لكن يمكن مقاربة حل كل هذه المسائل في مسار مواجهة الانتداب، اعتماداً على الرأسمال البشري من خارج السلطة كما هي حال السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية. فلبنان يتمتع بطاقة احتياط بشري معطّلة في اهتراء السلطة وفي الاحتراب العصبي حول السلطة. وفي طليعة هذا الاحتياط فائض الانتشار اللبناني في كل أنحاء العالم وأثره الاقتصادي والسياسي في «بلاد الاغتراب». لكن اهتراء السلطة عطّل هذه الطاقة الهائلة في الاحتراب حول انتمائها إلى قطعان الطوائف ولم تفد منها المقاومة والقوى السياسية والاجتماعية المناهضة للانتداب، في إعادة البناء وفي توسيع النفوذ اللبناني مقابل النفوذ الصهيوني في «بلاد الاغتراب». وفي داخل لبنان طاقة بشرية أخرى عطّلها اهتراء السلطة ولم تفد منها المقاومة والقوى المناهضة في تنظيم البلديات وتأهيلها لمشاركة كل المناطق في عائدات الثروة العامة المشتركة. وإلى جانب ذلك يحظى لبنان بنفوذ لا يستهان به بين شعوب البلدان العربية والإسلامية و«العالم الثالث» بفضل مقاومته وقدرته على مناهضة الانتداب. ولم توظف المقاومة والقوى السياسية والاجتماعية هذا التعاطف في تبادل المنفعة حتى دون المرور تحت عباءة السلطات الحاكمة.
محل اهتراء السلطة والاحتراب العصبي، هناك طريق آخر هو طريق إعادة البناء في مسار مشروع متكامل مقابل مشروع انتداب «المجتمع الدولي». ولا بد أن يشمل المشروع المقابل السياسية الاقتصادية ــــ الاجتماعية إلى جانب السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية، بحيث يشمل التحرر من الانتداب أسباب الحياة وسبل عمران الدول والمجتمعات. ولا بد من إعداد ملفات حلول بديلة لسياسة «المجتمع الدولي» في أسباب حياة الناس وبحثها في الأحياء والقرى والبلدات، بحيث يدرك أصحاب الحقوق أن مقاومة انتداب «المجتمع الدولي» هي سبيل الدفاع عن الحق بالحياة مقابل خيار «حب البقاء». وعلى قول المثل الشعبي «يللي بدّو يعمل جمّال، مضطر يعلّي باب داره».
* كاتب لبناني