شارل الحائك*عندما نقرأ مداخلة سجعان قزي في تجمع كتائبي في منطقة كسروان، في إطار إحياء ذكرى استشهاد الرئيس بشير الجميل، في ١٤/٩/٢٠١٠ تكشف لنا الكلمات النظرة الكتائبية للتاريخ اللبناني والتاريخ المسيحي في المشرق عامة. فوجود لبنان، المسيحي، بنظر الكتائب، هو وليد حتمية تاريخية تعود إلى القرن السابع، أي فترة الفتح الإسلامي، وقد وقع على الموارنة دونهم، مهمة الحفاظ على استمرارية الدولة المسيحية في المشرق، بعد تراجع الدولة البيزنطية واندثارها... وتظهر هذه المهمة «المقدسة» عبر القرون متزاوجة مع الملاحم «البطولية» منذ المردة، مروراً بالمقدمين الموارنة، وصولاً إلى موارنة الأمير فخر الدين والشهابيين فالمتصرفية ولبنان الكبير... نظرة مبسطة لتاريخ معقد.
فالمصادر التاريخية ترسم مساراً مغايراً لما يتصوره الكتائبيون ومعهم جزء من المسيحيين في لبنان.

الكنيسة المارونية

تكونت، في نهاية القرن الخامس، رهبانية حول ذكرى قديس من قورش شمال سوريا، واتخذت اسم هذا القديس، فعرفت برهبانية «بيت مارون». لكن الكنيسة المارونية وجدت كتنظيم مستقل عن الكنائس الشرقية الأخرى انطلاقاً من القرن العاشر، واتخذت شكلها الحالي ابتداءً من القرن الخامس عشر تحت تأثير الإرساليات الكاثوليكية الأوروبية. وجاءت هجرة الموارنة من شمال سوريا إلى جبل لبنان بين القرن العاشر والقرن الحادي عشر نتيجة الحملات العسكرية البيزنطية المتجددة على تخوم الخلافة العباسية المتفككة، وليس نتيجة اضطهاد مسلم.

الموارنة في الفترة العثمانية: ١٥١٦ــ ١٩١٨

يتكلم قزي عن سفراء وقادة جيوش موارنة في زمن الأمير فخر الدين الثاني (١٥٩٠ــــ١٦٣٦)، وهو أمير جبل الشوف، وتبرز هنا ضرورة إعادة قراءة تاريخ جبل لبنان في الفترة العثمانية على ضوء المصادر العثمانية (الطابو دفتري). فإمارة جبل لبنان لم تكن أبداً دولة مستقلة ذات تنظيم حديث يلعب فيها الموارنة دور المستشارين والسفراء والقادة العسكريين، بل كانت مجرد إقطاع صغير، تحت السيطرة العثمانية الكاملة في إطار نظام الالتزام المتبع في إدارة السلطنة. وكان موارنة القرن السابع عشر فلاحين بحاجة ماسة إلى أراض زراعية، فجاءت الهجرة نحو الشوف حيث الحاجة لليد العاملة ضرورية، وخاصة بعدما كان الشوف مدمراً نتيجة حملة تأديبية عثمانية واسعة النطاق سنة ١٥٨٥ للقضاء على آخر الجيوب الموالية للمماليك في بلاد الشام والمدعومة من المدن التجارية الإيطالية الكبرى كالبندقية.

مسألة الأمراء

ينظر جزء كبير من المؤرخين الموارنة خاصة، واللبنانيين عامة، إلى أمراء جبل الشوف في الفترة العثمانية، نظرة تمتزج فيها فلسفة وجودية للبنان المستقل مع مبادئ لا وجود لها في زمانهم، كدولة القانون الديموقراطية... وينظر على نحو شبيه بالقدسية إلى الأمير فخر الدين الثاني المعني «الكبير» (١٥٩٠ــــ١٦٣٦) جاعلين منه المؤسس الواسع الأفق، باني لبنان الحديث ومكرّس العيش المشترك فيه، وهو الأمير الذي تحدّى السلطنة، موسعاً حدود إمارته لتشمل أجزاءً كبيرة من بلاد الشام وصولاً إلى دمشق، حلب، القدس وتدمر، بقوة جيش جبار بقيادة مارونية وذات سلاح أوروبي يستورد من توسكانا في إيطاليا... وتنتهي الملحمة في اسطنبول سنة ١٦٣٦، والأمير المساق إلى الإعدام قد اعتنق المسيحية...
المصادر تتكلم عن «سنجق باي»، يعرف باسم «ابن معن»، عيّنه العثمانيون ملتزماً على جبل الشوف بعد حملتهم التأديبية عليه سنة ١٥٨٥، وعندما لحظت السلطنة خطر توسعه أخرجته من الإمارة وأعدمته ليكون عبرة لكل الملتزمين والإقطاعيين فيها... فهو ليس مؤسساً لدولة لبنان، فاسم لبنان في القرن السابع عشر كان يدل فقط على المناطق الشمالية من جبل لبنان الحالي... ويجدر التذكير بأن الأمير ولد ومات درزياً...
أما بالنسبة إلى الأمير بشير الثاني الشهابي «الكبير» (١٧٨٨ــــ١٨٤٠)، وقد امتد التزامه ليشمل كل إقطاعات الجبل، فقد تقرّب من الموارنة لأسباب عديدة أبرزها ثلاثة:
١ــــ لم يكن بشير الوريث الشرعي لكرسي الإمارة، فهو ابن عم الأمير الحاكم يوسف شهاب، دخل في خدمته، وتوصل سنة ١٧٨٨، مدعوماً من والي صيدا العثماني الجزار وآل جنبلاط، إلى إطاحته والاستئثار بالحكم، وقد أقنع الجزار بإعدام يوسف. لكن بشير سعى لاحقاً للتخلص من نفوذ الشيخ بشير جنبلاط فقتله، فخسر بذلك دعم الدروز فاستند إلى الدعم الماروني.
٢ــــ أصبح الموارنة في بداية القرن التاسع عشر أكثرية سكانية في نطاق جبل لبنان نتيجة النمو الديموغرافي المتأثر بأعمال الإرساليات الكاثوليكية الأوروبية، ونتيجة إخراج الشيعة من بلاد جبيل وكسروان (القرنان السابع عشر والثامن عشر). فباتوا إذاً هم أغلبية من يدفع الضرائب، فظهرت العائلات الإقطاعية المارونية وجاء تنصّر بعض عائلات الأعيان في جبل لبنان كتحرك سياسي اقتصادي يهدف إلى الحفاظ على النفوذ (آل أبي اللمع وبعض أمراء آل شهاب).
٣ــــ تجارة الحرير وصناعته، وكانت فرنسا من أبرز مستوردي حرير جبل لبنان، وهي «الحامي» والراعي التاريخي للموارنة. فمن خلال هذه الحركة تكونت «بورجوازية» مسيحية ومارونية سعى الأمراء إلى التقرب منها للاستفادة من ثرواتها...

لبنان الكبير

ينظر المؤرخون «التقليديون» الموارنة إلى ولادة لبنان الكبير كتتويج «للمسيرة التاريخية» التي ابتدأت عند «سقوط» الدولة «المسيحية» سنة ٦٣٦، فهذا الحدث، والدعم الفرنسي له، ليسا إلا تكريساً للمهمة التاريخية التي أناط الموارنة أنفسهم بها، فلبنان الكبير هو الدولة المسيحية العائدة إلى الوجود... وهي انتصار ماروني... يتناسى هؤلاء المؤرخون أن جزءًا من الموارنة والمسيحيين في جبل لبنان وبلاد الشام كانوا من أبرز دعاة العروبة والقومية السورية... ويتناسى كذلك هؤلاء الإطار التاريخي الذي ولد فيه لبنان الكبير، وسعي فرنسا لإقامة دولة حليفة لها في الداخل السوري بقيادة فيصل، ورفضها توسيع حدود جبل لبنان، وتقسيمها سوريا التاريخية إلى خمس دول، من بينها دولة لبنان الكبير عند تعثر التوصل إلى اتفاق مع فيصل وفرض الانتداب بقوة السلاح سنة ١٩٢٠...
التاريخ ليس قصة تروى لجماهير متعطشة هائمة تبحث عن هوية في هلوسة جماعية كلفت ما كلفت من كوارث. فالنظرات إلى الذات، إن لم تكن مبنية على أسس واضحة، تصبح ترياقاً مميتاً يؤدي إلى الانزواء والاختفاء...
التاريخ في لبنان بحاجة إلى إعادة البحث في أمره، فتُبعَد عن منازله غاياتُ استعماله وقوداً في واقع «ناري».
* أستاذ تاريخ وباحث