سلامة كيلة *عاد الرفيق كريم مروة يدعو إلى إنهاض اليسار في «العالم العربي» بعد رحلة «نقدية» طويلة، بدا فيها كأنه ينقلب على أصوله، وهو المدمج في تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني لكأنهما واحد. وفي هذه الرحلة «النقدية» الطويلة شدد «النقد» على الماركسية إلى حدّ الدعوة إلى تجاوز ماركس، وعلى التجربة الاشتراكية إلى حدّ الدعوة إلى محاكمة لينين. وكان مفصل النقد، ككل الموجة التي سادت منذ انهيار المنظومة الاشتراكية، هو الديموقراطية. والسؤال الذي يفرض ذاته ونحن نتلمّس عنوان كتابه الجديد: نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي (إصدار دار الساقي)، هو، ما اليسار الذي يقصده صديقنا كريم؟
يبدو من كل ما أورده كريم أن اليساري اليوم هو من ينطلق من طبيعة مهمّات المرحلة التالية لانهيار التجربة الاشتراكية، والرامية إلى إحداث «التغيير الديموقراطي». وهو «الاشتراكي»، وانطلاقاً من «منهج ماركس المادي الجدلي»، يدعو «كمهمة لها الأولوية القصوى، إلى بناء الدولة الحديثة»، «وهي الدولة الديموقراطية بالمعنى الحديث والمتطور للديموقراطية»، «دولة الحق والقانون». لكن كريم، على عكس ما يفرض منهج ماركس المادي الجدلي، لا يشير إلى معنى الدولة الحديثة، ويتبنى «الحق والقانون» دون أن يتساءل عن ماهيتهما كما فعل ماركس حين نقد «فلسفة الحق عند هيغل». وهو ينطلق من أن التغيير الديموقراطي يفرض شن هجوم على التغيير الثوري، والعنف، والثورة. وبالتالي، سيبدو أنه اتكاءً على «مهمات المرحلة» ومنهج ماركس، وعلى ضوء انهيار الاشتراكية، يعود من ماركس إلى ما قبل هيغل بدل أن يتقدم إلى الأمام استفادةً من التجربة الاشتراكية، وفهماً لطبيعة المهمات التي يطرحها العصر.
يطرح مروّة «الشعارات» العامّة التي جاءت بها أفكار النهضة الأوروبية
هل هذا يسار؟ سنلمس أن ما هو مطروح هو «الشعارات» العامة التي جاءت بها أفكار النهضة الأوروبية قبل كل التحوّل الكبير الذي تحقّق بانتصار الرأسمالية، من حيث عموميتها، ومن حيث تجردها من الأساس الطبقي. فأيّ دولة؟ وأيّ حق؟ وأيّ قانون؟ ربما كانت هذه الأفكار صحيحة حينها لكونها كانت تتأسس في تضادّ مع فكر القرون الوسطى، الذي لم يكن يعرف الحق والقانون، وكانت الدولة هي الفرد الحاكم، لكنها أصبحت جزءاً من التشكيل الجديد، وبالتالي تموضعت طبقياً، فأصبحت المساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية تعني المساواة أمام القانون، الذي هو قانون الرأسمالية المنتصرة، والذي يقرّ باللامساواة في الملكية، ويشرّع الاستغلال. وأصبحت الدولة التي هي «فوق الطبقات»، كما ينطلق كريم في هذا الوقت من القرن الواحد والعشرين، هي دولة الرأسمالية في مواجهة العمال. وتحوّلت العدالة إلى تفارق طبقي هائل، وتحدَّدت في حق الحصول على الأجر فقط. وكانت مهمة ماركس هي كشف هذه العمومية التي تسم هذه المفاهيم، وتحديدها طبقياً، وهو ما أقام عليه تصوره انطلاقاً من الجدل المادي، الذي تحددت ماديته من كونه قد انطلق من الاقتصاد والطبقات لا من الأوهام الأيديولوجية مثل «دولة الحق والقانون»، و«الدولة الديموقراطية». فقد فسّر هذه الأفكار انطلاقاً من الأساس المادي الذي أوجدها، ولماذا أصبحت شعار الرأسمالية؟ وكيف كانت تغطي على التمايز الهائل في توزيع الثروة؟ وبالتالي ليوضح الطابع الطبقي للدولة، والقانون والحق. ويؤسّس على ضوء ذلك رؤية مختلفة، تنطلق مما هو اقتصادي وطبقي، وتؤسس لرؤية تمثّل الطبقة العاملة. هنا كريم، وباسم منهج ماركس، يعود إلى ما قبل ماركس، إلى الأفكار العامة التي نتجت من عصر الأنوار، قبل أن تصبح جزءاً من التكوين المجتمعي، والوعي الاجتماعي، أي قبل أن تتموضع ويتحدّد معناها في سياق صراع الطبقات. وإذا كان يدعو إلى الانطلاق من العصر، نجده يستحضر أفكاراً تبلورت قبل ثلاثة قرون، ويعتقد بأنها تمثّل أساس نهضة اليسار في القرن الواحد والعشرين. وقد يكون وضعنا هو الذي يفرض البحث عن الحق والقانون والدولة، حيث ما زالت تسكن فينا، وفي الواقع، بقايا القرون الوسطى، التي هي الأساس الذي ينتج هذه الأوهام، وبهذا الشكل. لكن حاجتنا إلى الدولة والحق والقانون تفرض أولاً، أن لا يظل المنطق الذي يحكمنا هو منطق القرن الثامن عشر، بل أن ننطلق من منهج ماركس الذي يبدأ من الاقتصاد والطبقات، وبالتالي تفسير استمرار القرون الوسطى في الواقع، وعدم تحقّق الحداثة التي انتصرت في أوروبا، والتي تشمل الحق والقانون والديموقراطية والعلمانية...، انطلاقاً من هذا المنهج. وملاحظة أن انتصار كل ذلك في أوروبا تحقق بعد التحوّل الكبير الذي تحقّق في البنية الاقتصادية مع نشوء الصناعة. ومن ثم الإجابة عن سؤال لماذا لم تنجح كل محاولات التطوّر عندنا؟ وهل كان ذلك نتيجة تخلّف الوعي وعدم التمسك بالدولة والحق والقانون؟ إن ما يطرحه كريم (وأكثر منه) كان أساس مشروع النهضة العربية، الذي لاقى الفشل، فلماذا لم يتحقق؟
إن الانطلاق من الأفكار لا يفسّر شيئاً، ولهذا ظل كريم في «الأفكار». واللافت هو أنه بات يعدّ المفاهيم الليبرالية هي اليسار، وبات يطرح مهمات لا تخرج عن أيّ تصور ليبرالي، ويميل إلى التكيف مع المنطق العام الذي تفرضه الرأسمالية، كل ذلك باسم اليسار. وكلنا نريد «دولة الحق والقانون»، و«الدولة الحديثة»، لكنّ المسألة تتعلق بتحديد السياق الذي يمكن أن يتحقق فيه ذلك. وهل يمكن أن يتحقّق دون تحقيق التطور الاقتصادي؟ وهل يمكن تحقيق كل ذلك في إطار رأسمالي، أم أن وضع القرن العشرين، ثم القرن الواحد والعشرين يفرض أن تُطرح في سياق مختلف؟
الصديق كريم يهرب من الطبقات والتحديد الطبقي، ليتحدث عن «القاعدة الاجتماعية لمشروع التغيير» لكونها قد «توسّعت، وهي تتوسّع باستمرار، لتشمل أوساطاً جديدة»، وهي أوسع من الطبقة العاملة، كما يشير. لكن هذا الأوسع كان منذ زمن بعيد، حيث إن الوضع في بلداننا كان، وما زال، يفرض تحالفاً واسعاً، فما الجديد الذي يأتي به سوى تمييع اليسار، أي تمييع أفكار اليسار لكي تتحوّل إلى ليبرالية؟
الصديق كريم، لا شك في أن رؤية الحركة الشيوعية كانت خاطئة، ولا شك في أن التجربة الاشتراكية قد انهارت، لكن ليس البديل هو الليبرالية القديمة، ليبرالية الأفكار العمومية. وليس البديل هو تكرار المواقف ذاتها تحت مسميات رؤية جديدة ويسار جديد. هل تعتقد بأن الحركة الشيوعية كانت تهدف إلى تحقيق الاشتراكية في بلداننا؟ ألم يكن هدفها الأساس هو «الحكم الوطني الديموقراطي»، الذي بتّ تسمّيه «الدولة الحديثة»؟ ألم تقبل الدولة الصهيونية ورفضت العنف، وتحدثت عن التضامن العربي، وأسست على ضرورة انتصار البورجوازية؟ ماذا تضيف إذاً؟ باستثناء، ربما، التكيف مع الرأسمالية الراهنة بدل الموقف الشيوعي القديم ضد «الإمبريالية ومشاريعها».
لسوء الحظ، ما زال منهج ماركس بعيداً عن الفهم، وطموح التطور ما زال ملتبساً، ودور العمال ما زال مجهولاً. كما لا نزال ندور في فلك الرأسمالية، ولم نلحظ أنها باتت هي الواقع القائم، وأن كل الأزمات القائمة هي نتاجها، وبالتالي أن التطور يفرض تجاوزها. ومن المؤسف أن كريم مروة ينظّر مساره السابق في الإطار الليبرالي، لكن يمكن القول بأن الوعي «الماركسي» الذي تشبّعه، كما كثير من الشيوعيين، يوصل فقط إلى أفكار القرن الثامن عشر، لكن تلك «الماركسية» كانت صورية، لوّنت المنطق الصوري أكثر مما كانت تجاوزاً له. وهذا ما نلمسه في كتاب «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي».
* كاتب عربي