خالد صاغيةبات التاريخ يحفل بنوعين من الاعترافات الضخمة: اعترافات جان جاك روسو في كتابه الشهير، واعترافات سعد الحريري في حديثه الأخير إلى صحيفة «الشرق الأوسط». وإذا كان الفيلسوف الفرنسي من دعاة نظرية الإنسان الطيّب الذي يفسده المجتمع، بقي علينا أن نعرف من الذي أفسد رئيس الحكومة كي يتبنّى «الاتهامات السياسية» التي وصفها بالخاطئة، ومن الذي أرسل إلى التحقيق شهود الزور الذين اتّهمهم الحريري نفسه بـ«التضليل».
من الآن وإلى أن نعثر على الجواب، يمكننا أن نتأمّل تلك الكلمة السحرية: «انتهى». تلفّظ بها الحريري كأنّه يخبرنا عن أطباق إفطاراته اليوميّة. كأنّه ما من بلاد وقفت أكثر من مرّة على شفير الحرب الأهليّة بسبب ذلك «الاتهام السياسي» الذي «انتهى». كأنّه ما من جيل كامل تفتّح وعيه على شعارات لن تخرج سريعاً من ذاكرته، قبل أن يقرّر دولتُه أنّ الاتهام «انتهى». كأنّه ما من حرب تمّوز، وما من أحداث حصلت في الجامعة العربية، وما من 7 أيّار، وما من اغتيالات تلت اغتيال «الوالد»، وما من تفجيرات ذهب ضحيّتها مواطنون لا ناقة لهم ولا جمل في إعادة تكوين الإمبراطوريّة الحريريّة... إذا كان هناك شيء اسمه «البيئة الحاضنة»، فإنّ ذاك «الاتهام السياسي» وما تلاه من تداعيات، مثّل البيئة الحاضنة لكلّ تلك الأحداث. وها نحن نعرف الآن من صحيفة سعوديّة أنّ كلّ شيء «انتهى».
وإذا كان من المؤسف النظر إلى نوّاب المستقبل وهم يلحسون كلّ أقوالهم السابقة، ويجهد بهلوانهم في إعادة صياغة الخطابات حتّى تبدو كالتجاعيد التي قبّحتها عمليّات تجميل فاشلة، فإنّ من المحزن حقّاً الاستماع إلى من بدأوا الإشادة بجرأة الحريري الاستثنائيّة، وبترداد حكمة «التراجع عن الخطأ فضيلة». كأنّنا أمام خطأ عابر لم يترك آثاره المدمّرة.
ذات يوم، اعترف روسو بسرقة حزام معلّمته. اليوم، بعد نحو ثلاثة قرون، نعرف تماماً أنّ الحزام لم يكن ذا قيمة، وأنّ السرقة لم تكن بحدّ ذاتها هي المسألة. لكنّ ما أثقل ضمير روسو هو أنّه اتّهم شخصاً آخر بالسرقة. الحريري و14 آذاره لم يسرقوا الحزام وحسب. هذا ما علينا أن نتذكّره جيّداً، وخصوصاً أنّ الاعترافات لا تبغي إلا مزيداً من السرقة.