مصطفى بسيوني *بعد أشهر قليلة من انتهاء انتخابات مجلس الشورى التي جرت في حزيران/ يونيو 2010، تحل انتخابات مجلس الشعب. الانتخابات المنتهية عُدت بروفة لما سيجري في الانتخابات اللاحقة والحاسمة بالنسبة للنظام والمعارضة. فهي الانتخابات التي ستؤلف مجلس الشعب الذي سيشهد انتخابات الرئاسة، وقد يشهد أيضاً انتقال السلطة من الأب للابن سواء في الانتخابات الرئاسية عام 2011 أو بعد ذلك خلال الدورة البرلمانية التي تستمر خمس سنوات. المجلس القادم إذاً، لا يحتمل وجود كتلة معارضة خارج السيطرة تثير ضجة في مرحلة حساسة، حتى وإن كانت أقلية غير مؤثرة في قرارات المجلس. وفي الوقت نفسه، لا يليق أن يكون المجلس عارياً تماماً من الشرعية عبر انتخابات لا تمر منها أي معارضة وتحجز المقاعد كلها للحزب الحاكم مسبقاً. انتخابات مجلس الشورى قدمت حلّاً سحرياً للنظام لإخراج الانتخابات بطريقة مقبولة. ففي مشهد فريد من نوعه جرى التزوير ليس لمرشحي الحزب الحاكم بل لمرشحي أحزاب المعارضة. وذلك بطريقة أفزعت حتى أعضاء تلك الأحزاب الذين أعربوا عن غضبهم الشديد من الطريقة التي فاز بها مرشحوهم في انتخابات الشورى بالتزوير حتى ضد مرشحين من الحزب الحاكم. ففي بعض الدوائر طُرد مندوبو المرشحين جميعاً، سواء من المعارضة أو الحكومة أو المستقلين، وتولّى رجال الأمن إخراج النتيجة التي حملت الفوز لمرشحين من أحزاب المعارضة الرسمية بعكس مؤشرات التصويت. وفي الوقت نفسه، حُسم وضع الإخوان المسلمين مبكراً، بحيث يستحيل مرور أي مرشح منهم في الانتخابات.
يبدو ما حدث في انتخابات الشورى متسقاً مع التسريبات التي تدور حول انتخابات الشعب، ومضمونها أن نحو 120 مقعداً بمجلس الشعب، بما يوازي خمس المقاعد تقريباً، ستمنح لأحزاب المعارضة الرسمية، الأمر الذي يعني كتلة معارضة وازنة لا تقل عن الموجودة في المجلس الحالي، لكنّها في الوقت نفسه كتلة معارضة مستأنسة لا تخرج عن الحدود المرسومة لها. وقد بدأ بالفعل الحديث عن صفقات بين النظام وبعض أحزاب المعارضة الرسمية. وبالطبع لن يخلّ ذلك بحصة الحزب الحاكم، بل سيكون على حساب مقاعد الإخوان والمستقلين في المجلس والتي سببت الكثير من المتاعب طوال الدورة السابقة، وهو ما لا تحتمله الدورة القادمة بما ستشهده من أحداث مصيرية.
تلك الصورة دفعت قوى المعارضة للمطالبة بضمانات لنزاهة الانتخابات تتمثل في إشراف قضائي كامل ورقابة محلية ودولية وتنقية الكشوف وغيرها من الضمانات، وإلا ستقاطع الانتخابات المقررة نتائجها سلفاً. لم تتأخر إجابة النظام على مطالبة المعارضة بالضمانات والتي عبر عنها برفض التدخل الأجنبي، و«عدم السماح للمنظمات الغير الشرعية بتعكير صفو الانتخابات»، حسب تعبير رئيس الوزراء. أضف إلى ذلك زيادة القيود على وسائل الإعلام، بالقرارت الأخيرة التي تضمنت شروط التصريح المسبق لبث الأخبار عبر رسائل المحمول وتقييد حركة وحدات البث المباشر وقنص جريدة الدستور بالتعاون مع المعارضة الرسمية وغيرها. فضلاً عن تشديد القبضة الأمنية على احتجاجات المعارضة. فقد بدت واضحة زيادة درجة العنف الأمني تجاه التظاهرات الطلابية وتظاهرة المعارضة أمام قصر عابدين، وكذلك زيادة الملاحقات الأمنية والاعتقالات لجماعة الإخوان المسلمين مع اقتراب الانتخابات.
الاستجابة للمقاطعة لم تلقَ قبولاً إلا بين القوى التي لا تحظى بفرصة كبيرة للفوز
ورغم وضوح رد النظام على مطلب ضمانات نزاهة الانتخابات، فإنّ دعوى المقاطعة لم تحرز نجاحاً جدياً. فأحزاب المعارضة الرسمية لم تبدُ قادرة على التفريط في فرصة الحصول على مقاعد مضمونة في البرلمان، وإن جاء ذلك عبر التزوير تحت إشراف النظام. بعض معارضي القوى السياسية والمستقلين والذين يحظون بشعبية واسعة في دوائرهم الانتخابية، رأوا في المقاطعة إهداراً لما راكموه في تلك الدوائر على مدى سنوات، وترك الساحة خالية في تلك الدوائر لمرشحي الحكومة. جماعة الإخوان المسلمين التي حصلت على 88 مقعداً في الانتخابات السابقة، كانت حساباتها واضحة. فالجماعة «المحظورة» أصبح لديها بموجب تلك المقاعد المنتشرة في 56 دائرة انتخابية مئات المقار المدعومة بحصانة النواب، وقد مثّلت متنفساً هاماً للجماعة ودعماً تنظيمياً غير مسبوق، فضلاً عن زيادة طاقتها في العمل الخدمي الذي يمثل إحدى ركائزها الأساسية. وهو ما يستحيل أن تتنازل عنه الجماعة طواعية عبر المقاطعة. وإن كانت الخسارة محتمة، فعلى الأقل لا تكون من دون معركة، بل معركة قوية أيضاً تؤدي على الأقل إلى الاحتفاظ ببعض المقاعد. لذا كان قرار الجماعة بالمنافسة على ثلث مقاعد المجلس، بما يساوي 170 مقعداً تقريباً. وربما كان دعم الجماعة لحملة محمد البرادعي بعد إسقاط كل مرشحيها في انتخابات مجلس الشورى – الدعم الذي تمثل في حشد أنصار الجماعة في تظاهرات البرادعي في بعض المحافظات وجمع ما يزيد على نصف مليون توقيع على بيان الإصلاح الذي أطلقه – استعراضاً من جانب الجماعة لما يمكن أن تقوم به إذا أصرّ النظام على استبعادها كلياً. الحقيقة أن الاستجابة للمقاطعة لم تلقَ قبولاً إلا بين القوى التي لا تحظى بفرصة كبيرة للفوز بمقاعد برلمانية سواء بصفقة أو بمعركة. ومع ذلك يمثل تكتل المقاطعة فرصة جيدة لخوض معركة تشهير بما يحدث في الانتخابات من تجاوزات وانتهاكات، شرط أن تتحول المقاطعة لآليات عمل وليس مجرد انسحاب من الانتخابات. أو بمعنى أدق، أن تكون المقاطعة أحد أشكال المشاركة في المعركة بمختلف أشكال الاحتجاج.
انتخابات مجلس الشورى، وقبلها انتخابات المجالس المحلية وانتخابات بعض النقابات المهنية، نماذج أكدت أن الدولة لن تترك شيئاً خارج السيطرة. وسوف تستخدم كل الوسائل لحسم أي انتخابات كما تريد. والإجراءات المتخذة قبيل انتخابات مجلس الشعب تؤكد أن النتائج وتأليف مجلس الشعب القادم لن يحملا مفاجآت، رغم أن مقدمات المعركة تؤكد أنها ستكون ساخنة وشرسة، وخصوصاً أنها ستجرى في كل الدوائر في اليوم نفسه وليس على مراحل، بما يستدعي أعلى درجات التعبئة الأمنية وعدم استبعاد وقوع صدامات.
لا بد أن الدولة تدرك أهمية الانتخابات البرلمانية المقبلة وحساسيتها بحيث تتخلى عن حرصها عن محاولة تجميلها وتحشد لها أكبر عدد من الوزراء المرشحين، حتى أن ما يزيد على ربع مجلس الوزراء مرشح في الانتخابات. لكن هل إخراج النظام بتأليف البرلمان كما يريد سيحل أزماته ويريحه من ضوضاء المعارضة؟ لقد استطاعت حكومة الحزب الحاكم في مصر إنتاج الأزمات كلها ابتداءً من ارتفاع الأسعار التي أصبحت كابوساً على المواطنين حتى تهديد مياه النيل مروراً بأزمات التعليم والصحة والكهرباء وغيرها. وتثبيت السياسات والأشخاص المسؤولين عن تلك الأزمات عبر الانتخابات البرلمانية، لن يمنح النظام الشرعية، بل سينزعها عن الانتخابات. وسيعني ببساطة اليأس من إحداث أي تغيير عبر صناديق الانتخاب. وربما كان ما جرى قبل خمسة أعوام مثالاً جيداً. فبعد مقاومة شديدة من القوى السياسية، استطاع النظام تمرير تعديلات الدستور وانتخابات البرلمان وانتخابات الرئاسة. وعندما ظنّ النظام أنه أنجز ما يريد، انفجرت الاحتجاجات العمالية والاجتماعية في أنحاء مصر، حتى أصبحت كابوساً يومياً لم يستطع النظام التخلص منه إلى اليوم. من المؤكد أن النظام يستطيع إخراج نتائج الانتخابات كما يريدها، وأن يستبعد من يشاء ويمنح المقاعد عبر الصفقات لمن يشاء، وأن يحقق انتصاراً حاسماً على المعارضة في انتخابات حسمت سلفاً. لكنه بإغلاقه أبواب التغيير عبر الانتخابات في وجه جماهير تعاني الإفقار وارتفاع الأسعار والبطالة، فإنه يفتح أبواباً أخرى لن يستطيع إغلاقها.
* صحافي مصري