لم تكن زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لبنانيّة أو إقليميّة، فقط. بل كانت عالميّة الأبعاد، وخصوصاً أن الإعلام الأميركي الصهيوني ــ وكل الإعلام الأميركي صهيوني باستثناء إعلام اليسار المتطرِّف المُهمّش ــ رَصَد الزيارة ورافقها محطة بمحطة. ناطق باسم الخارجيّة الأميركيّة اعترض على الزيارة ورأى فيها خرقاً لسيادة لبنان. أوّاه. السيادة تعني الكثير لأميركا. هذا يلخّص المشكلة بين العرب (الشعب لا الأنظمة الممقوتة) وبين أميركا. اجتياحات إسرائيل للبنان لا تمثّل خرقاً للسيادة، لكن زيارة أحمدي نجاد تقوّض أسس سيادة لبنان المزعومة
أسعد أبو خليل *
النفاق بلغ أوجه الأسبوع الفائت. كان نفاق فريق 14 آذار (فريق الأمير مُقرن) مضاعفاً: ثار وأزبد قبل زيارة نجاد، ثم صمت ورحّب أثناء الزيارة، ثم عاد وثار من جديد بمجرّد مغادرة نجاد أرض لبنان (ذات الرائحة النَّتِنة نتيجة مكبّات القاذورات التي أتت بها الحريريّة). فارس سعيد اشتهر قبل زيارة نجاد بأنه حذّر من «استفزاز» إسرائيل. هكذا عبّر سعيد عن مخاوفه. أما مخاوف آل الجميّل وآل شمعون، فلا يمكن الالتفات إليها (تمثّلت الدولة اللبنانيّة في تدشين تمثال كميل شمعون في دير القمر، لكنّ الثناء على شمعون من مُكرّميه تغاضى عن رعاية الرئيس الراحل لسعد حدّاد وأنطوان لحد، وعن ركوبه في مركب في عرض البحر وهو في سنّ الشيخوخة من أجل مقابلة من يستدعيه من زعماء إسرائيل. لم يذكر مُكرِّمو شمعون أنّه أشعل حرباً أهليّة للبقاء في سدّة الرئاسة). آل شمعون وآل الجميّل وآل الخليل في صور: هؤلاء كانوا حلفاء لنظام الشاه المُتحالف مع إسرائيل. لهؤلاء حنين خاص وقويّ لعهد الشاه، ولكلّ عهود الرجعيّة البائدة. كان كميل شمعون يعتبر نفسه (ويعتبر لبنان معه) في المحور الرجعي نفسه الذي ضمّ السلالة الحاكمة في الأردن، والنظام الملكي العراقي والنظام الشاهنشاهي. لكنّ تجربة شمعون باءت بالفشل. ثار لبنان والعرب ضدّه، وانتهى منبوذاً خلا البؤر الطائفيّة التي عادت وانتشلته إبّان الحرب، لتحييه ذيليّاً لميليشيا الكتائب. نديم الجميّل وسامي الجميّل في سباق: واضح أن الاثنين جلسا متسمّريْن أمام شاشة التلفزيون لساعات طوال وهما (كلّ على حدة طبعاً) يشاهدان ساعات وساعات مملّة من خطب بشير الجميّل ـــــ أسوأ لبناني على الإطلاق. نديم الجميّل هذا لم يعترض فقط على سياسة أحمدي نجاد، بل على العقيدة الدينيّة للشيعة الاثني عشريّة. لم يستسغ فكرة المهدي المُنتظر، وقد يطالب قريباً باستبدالها بأخرى ترضى عنها الدولة التي رعت أباه قبل أن ينتهي مشروعه الشرّير تحت أنقاض مبنى في الأشرفيّة. نديم الجميّل هذا قال إن المسيح لن يمدّ يد المساعدة للمهدي المنتظر. لكثرة ما ارتكبت عائلة الجميّل الكتائبيّة من جرائم باسم المسيحيّة، باتت تخال أن المسيح عضو في مكتبها السياسي الذي يبدو أن المارّة قد دعوا للانضمام إليه أمام عدسات الكاميرا.
لكن اعتراضات فريق 14 آذار كانت متعدّدة الوجوه، وترافقت (صدفةً طبعاً، «صاءبت») مع نغمة الاعتراضات الصهيونيّة نفسها في إسرائيل والغرب. فارس سعيد وإسرائيل («صاءبت» طبعاً) كانا السبّاقيْن، وتلاهما الآخرون والأخريات. اعترض البعض على زيارة أحمدي نجاد للجنوب لأن فيها استفزازاً لإسرائيل. لكن لم يعترض هؤلاء عندما ذهب جورج ميتشل إلى الجنوب، أو عندما كانت السفيرة الأميركيّة السابقة، ميشيل سيسون، تجول على بعض المواقع الجنوبيّة (ربّما في محاولة لإنعاش بعض خصوم حزب اللّه في الجنوب، وكان ذلك التدخّل الأميركي في الجنوب اللبناني مؤثّراً، إذ نال حلفاء أميركا في الجنوب نحو 1% من أصوات الشيعة التي كانت أميركا، ولا تزال، تحاول أن تستحوذ على عقولهم وقلوبهم، كما فعلت بنجاح منقطع النظير في العراق).
ثم، لا تجوز مقارنة أي زيارة إلى لبنان، مع الزوّار من لدن آل سعود. المسؤول الأوّل في الاستخبارات السعوديّة، الأمير مُقرن بن عبد العزيز، يأتي إلى لبنان ويُستقبل استقبال الفاتحين، ويولم له الرؤساء الثلاثة، ويجول على المسؤولين ويدوس على سجّاداتهم بحذائه المصنوع من جلد التماسيح. ولم يعترض على الزيارة لا فريق 14 آذار ولا فريق 8 آذار مع أنه مُقرن هذا (الذي يتخصّص في مديحه سمير عطا الله) هو من أكثر من انتهك سيادة لبنان في الأعوام الماضية، وكان المُتدخّل الخارجي الأكبر في الانتخابات النيابيّة (هذا من دون نفي الدعم الإيراني لفريق 8 آذار). ماذا كان سيكون ردّ فريق 14 آذار لو أن مسؤول الاستخبارات الإيرانيّة أو السوريّة أتى إلى لبنان في زيارة مُطَنطِنة؟ هل كانوا ليسكتوا أم ليرحّبوا كما رحّبوا بزيارة مُقرن؟ لكن للأمانة، أكثر من نصف هؤلاء كان يتسكّع على أعتاب ضبّاط معاونين لمعاوني مسؤول الاستخبارات السوريّة السابق في لبنان. وماذا كانت ردّة فعل هؤلاء السياديّين الميامين عندما أتى جو بايدن إليهم في زيارة شد العصب الانتخابي؟ هل انتفضوا للسيادة؟ هل هالهم أن زيارة بايدن كانت لدعم فريق ضد آخر؟ هل يظنّ هؤلاء أن معاييرهم المزدوجة (المدفوعة الثمن إلى درجة أن الواحد منهم لا ينطق بغير ما يصله من أوامر من قريطم؟ لا يحيد هؤلاء عن الأوامر المعطاة قيد أنملة). لو أتى الملك السعودي في زيارة شعبيّة، لتطوّعوا للرقص أمامه كما يفعل بعضهم في مهرجان الجنادريّة.
تمنّى فيلتمان على نجاد أن يتعلّم شيئاً من «التنوّع» اللبناني، لكن من المشكوك فيه أنّه أعطى دروساً في التنوّع لآل سعود
لكن زيارة جيفري فيلتمان للبنان بعد ساعات من زيارة نجاد كانت مُعبّرة. وفيلتمان ـــــ أو العزيز جدّاً «جيف» ـــــ لم يكن غائباً (مثله مثل إسرائيل) عن الزيارة. عبّر عن جزع، وقد تكون زيارته المُستعجلة تعبيراً عن هذا الجزع. فيلتمان هذا تمنّى على نجاد أن يتعلّم شيئاً من «التنوّع» اللبناني. أراد أن يلمّح إلى غياب الديموقراطيّة في إيران، لأن من حق أميركا علينا أن تزهو بازدهار الديموقراطيّة عند حلفائها من الأنظمة في السعوديّة والإمارات وعمان وقطر والبحرين والكويت والأردن ومصر والمغرب وتونس والعراق وليبيا. والطريف أن فيلتمان هذا (والذي يمثّل بقاؤه في منصبه في قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الأميركيّة استمرار الاحتكار الصهيوني في صنع قرار السياسة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط، خلافاً لعقود ماضية عندما كان تداول السلطة في واشنطن يغيّر من طبيعة الفريق الحاكم في مجال السياسة الخارجيّة) أتى إلى لبنان قادماً من السعوديّة، ومن المشكوك فيه أنه أعطى دروساً في التنوّع لآل سعود. فهل حاضر فيلتمان في الرياض عن ضرورة التنوّع والتعدديّة؟ فيلتمان طمأن لبنان إلى استمرار الدعم العسكري الأميركي: وهذا يخيف أكثر مما يطمئِن، لأنه يعني أن الحكومة الأميركيّة والكونغرس تلقيا ضمانات أكيدة من الحكومة اللبنانيّة والجيش اللبناني بعدم استعمال السلاح الأميركي (الخفيف دوماً) ضد العدو الإسرائيلي. من حقّنا أن نسأل عن هذه الضمانات. وقد سارع أنصار السيادة إلى تأييد زيارة فيلتمان وتسويغ منطلقاتها. طارق متري يسارع إلى شاشة «إم. تي. في» ليجد مبرّرات لزيارة فيلتمان (ماذا تقول فيه، هذا؟ ماذا تقول فيه من دخل الوزارة مثقّفاً ويتركها صغيراً آخر في حاشية قريطم؟ هذا المثقف الذي يؤيّد الحرم والتحريم والرقابة الكنسيّة والحريريّة. هذا هو الثمن الباهظ الذي يدفعه أيّ مُتلوّن حربائيّ، مع أنّ متري هذا ينفي أن يكون قد دخل الوزارة للمرّة الأولى بناءً على تزكية من لحّود وصهره الماريشال للّو المرّ (آنذاك)، وهو اليوم يزعم أن «الطائفة» هي التي زكّته. سنذكر من متري أنه ألقى واحدةً من أفشل خطب الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي في نيويورك عندما كان وطنه يحترق بنيران إسرائيليّة). هؤلاء ينطقون بأمر، ويصمتون بأمر. أصبحت زيارة فيلتمان الخاطفة توكيداً للسيادة والاستقلال، وهي التي لم تتّبع الأساليب الدبلوماسيّة التي يريدون أن تسلكها العلاقات اللبنانيّة ـــــ السوريّة بحذافيرها (باستثناء عائلة الحريري طبعاً، إذ إن قناة التواصل بين سوريا ولبنان أصبحت في عهدة فتى من آل الحريري، لا يشغل أي منصب رسمي ـــــ ثم يردّدون كلاماً أبله عن المؤسّسات وعن الدولة المدنيّة).
لكن الزيارة كشفت المضمور عن شعور فريق كبير من اللبنانيّين نحو الشيعة. فهؤلاء ما عادوا ينتمون إلى لبنان. هؤلاء طلّقهم بعض الوطن ولفظهم من رحم نسيجه الاجتماعي. هؤلاء متطفّلون على الوطن. نذكر كيف كان وليد جنبلاط يحذّر من أن يبقى الوطن فريسة هؤلاء الأوغاد لو استمرّت هجرة الشباب «المُتحضّر» من جمهور 14 آذار. وكما أن الإعلام الإسرائيلي يتكلّم على الشيعة كأنهم غرباء عن لبنان (كما كانوا يتكلّمون على منظمة التحرير في لبنان)، فإن فريق 14 آذار اعتنق منطق تطليق الشيعة. وكما أن مزارع شبعا تحتاج إلى إثبات هويّتها (هل هناك من فريق وطني في أي بلد مُحتلّ يلجأ إلى التملّص من تحرير أراضيه عبر التشكيك بملكيّته لتلك الأراضي المُحتلّة؟ لم يكن مسخ الوطن مُستقلاًّ يوماً ولا يستحق أن يستقلّ أبداً)، فإن فريق 14 آذار بات يشكّك في هويّة هؤلاء الشيعة. انظروا ما كتبه علي حمادة في جريدة «النهار» التي تجاهر في سنوات انحدارها باستعلائيّتها الطائفيّة والطبقيّة والشوفينيّة: «هذا في الشكل، الذي تكرر في الضاحية وبنت جبيل، حيث بدا أن فئة انسلخت عن النسيج اللبناني لتدخل في نوبات هذيان جماعي». لو قال هذا الكلام واحد في أميركا عن اليهود أو عن السود، لقامت القيامة، ولتنادت أصوات للتنديد وللاستنكار والاستهجان. لم يصدر صوت واحد من أدعياء العلمانيّة والتعدديّة استنكاراً لكلام حمادة هذا (حمادة هو الذي أشار عليّ قبل اغتيال الحريري بضروة التعرّف إلى بعض قادة أجهزة النظام السوري في لبنان، ولامني على حمل صورة نمطيّة سلبيّة عن أجهزة الاستخبارات السوريّة وقال لي: بهجت سليمان «مثقف» ويجب التعرّف عليه). داعي سيادة هو اليوم.
أما محطّة «إم. تي. في» ـــــ التي تعمد إلى المزايدة على طائفيّة ومذهبيّة ويمينيّة محطة «إل. بي. سي» ـــــ فقد بدأت مبكّراً بشن حملة من دون هوادة على الشيعة في لبنان. وكما نشرت نشرة «المستقبل» الحريريّة «تقريراً» عن بيع أراضٍ في الجنوب للغرباء الشيعة اللبنانيّين (وشبّهت الحدث الجلل بشراء الأراضي من قبل الصهاينة اليهود في فلسطين لأن جَهَلة «المستقبل» يظنّون ويظنّنّ أن الصهاينة استولوا على فلسطين بالنقود لا بالحديد والنار)، فإن محطّة «إم. تي. في» عاجلت إلى بثّ تقرير عن حدث خطير مفاده أن شيعة غرباء من لبنان اشتروا قطعة أرض في «الجديدة» (ما الفرق بين «الجديدة» و«نيو جديدة»؟ نوّروني). وسُرّت المحطة الطائفيّة (التي تبلغ بها الفئويّة درجة أنها لا تغطّي حوادث السرقة وحوادث السير إلا في مناطق معيّنة من مسخ الوطن) بنفسها وبثّت بعد أيّام خبراً خبيثاً عن توزيع منشور في «الجديدة» (لا في «نيو جديدة») يتضمّن تحريضاً طائفيّاً رخيصاً وتنبيهاً من تحويل لبنان إلى «فلسطين أخرى». أي أنها تحذّر من إمكان استيلاء الشيعة الغرباء على لبنان، كما استولى صهاينة غرباء على أرض فلسطين الغالية. أي يوافق إعلام 14 آذار على اعتبار الشيعة غرباء عن الوطن تماماً، ويجوز تشبيههم بالغرباء الصهاينة الذين استوطنوا أرض فلسطين عنوةً. لا يعلم إعلاميّو «إم. تي. في» (إذا كانوا يستحقّون اللقب) أنّ الغرباء الشيعة كانوا لقرون من أهالي كسروان نفسها، قبل أن يتعرّضوا للطرد. لعلّ مشروع 14 آذار ينوي طرد الشيعة من لبنان كما أسرّ نادر الحريري في أذن عضو في المجلس النيابي الحالي أثناء حرب تمّوز (كما أخبرني من سمع تلك المكالمة).
توصّل فريق 14 آذار إلى خلاصة أن الشيعة وحدهم يقفون عقبة أمام تحقيق مشروع إنشاء جمهوريّتهم (وهي أقرب إلى الملكيّة نظراً إلى تتويج سلالة حريريّة حاكمة). باستثاء قلّة من المرضيّ عنهم (مثل المفتي المطرود الذي يشغل وقته اليوم في تعليم كوادر «القوّات اللبنانيّة» مخاطر ولاية الفقيه ومنافع الوهّابية وأثرها الإيجابي)، لا يستقيم مسخ جمهوريّة 14 آذار بوجود أكبر طائفة، يجب اقتلاعها إذاً. كان حلمهم أن تقوم إسرائيل بالمهمّة في حرب تمّوز، وكان مناهم أن يتحقّق النصر لها فيسهل رميهم عبر الحدود. شكّلت المقاومة عقبة أمام مشاريعهم، ولهذا هم مهووسون لا بالخطر الإسرائيلي، بل بـ«خطر» سلاح مقاومة إسرائيل، كأنّ الصواريخ والأسلحة المضادة للدروع والسفن تمثّل خطراً على أحيائهم. هؤلاء لا فارق في دعايتهم بينهم وبين معلّقي «معاريف» ـــــ يطرب إعلام 14 آذار لكلّ التعليقات الإسرائيليّة ضد حزب الله ويستهلّ بها صحفه وشاشاته. هؤلاء، لولا ما بقي من الحياء، لبرّأوا كل مُتّهم بالعمالة لإسرائيل أو سخروا من الاتهام (كما يفعل فارس خشّان على موقعه على الإنترنت، وهو الذي هتف من على شاشة «إل. بي. سي»: «كلنا إسرائيليّون» أثناء الحرب الوحشيّة على غزة).
أما وليد جنبلاط، فيبقى في منزلة بين المنزلتيْن. هو يرحّب بزيارة أحمدي نجاد، ويرحّب بزيارة فيلتمان. «إيه. شو عليه». هو مؤيّد للنظام السوري، ومؤيّد أقوى للنظام السعودي الذي كان يعدّ العدّة لقلب النظام السوري. هو يؤيّد أحمدي نجاد الذي طالب بمحو إسرائيل من الخريطة، لكنه عاد بعد يوم واحد من لقاء (بالصدفة طبعاً) مع فيلتمان للتذكير باتفاقيّة الهدنة ـــــ واتفاقيّة الهدنة ما هي إلا نسق مُلطّف من اتفاقيّة 17 أيّار. اتفاقيّة الهدنة هي التي سمحت لجنود الجيش اللبناني بلعب كرة القدم مع جنود العدوّ في عهد بشارة الخوري. اتفاقيّة الهدنة لا تتفق مع منطق المقاومة، وعلى وليد جنبلاط أن يقرّر إذا كان هو مع الشيء أم مع عكسه. وليد جنبلاط يؤيّد من دون تحفّظ الدور السعودي في المنطقة العربيّة، كما يؤيّد أيضاً الدور الإيراني في المنطقة.
يوافق إعلام 14 آذار على أن الشيعة غرباء عن الوطن، ويجيز تشبيههم بالغرباء الصهاينة الذين استوطنوا أرض فلسطين
أما حماسة جمهور حزب الله وحركة أمل في استقبال نجاد، فقد فاقت المتوقّع من الأعداء ومن المناصرين. هذه الحماسة ضايقت مناصري آل سعود وآل مبارك، ربّما لأنه ليس هناك من زعيم عربي يجرؤ على الاختلاط بحشود من الناس (سعد الحريري يختلط بالجمهور في جامع في الطريق الجديدة أو برج أبي حيدر فقط، لضرورات الفتنة المذهبيّة بين وقت وآخر، بينما يختلط أمراء آل سعود مع حاشيتهم في مهرجان «الجنادريّة» حيث يُدعى المُصفّقون والمُطبّلون للتهريج، وذلك للترفيه عن صغار الأمراء). هبّ إعلام آل سعود لعلمهم أنه ليس لأمرائهم جمهور وشعبيّة حقيقيّة في أي بلد عربي. هل يجرؤ الملك السعودي الذي يستعصي النطق عليه، التجوال بين حشود حتى في الطريق الجديدة؟ وأبواق آل سعود تذكّروا المعارضة الإيرانيّة لأنهم ينطقون باسم حكومات تتمتّع بالانتخابات الحرّة والمعارضات الديموقراطيّة (سكتت أبواق آل سعود عن موبقات النظام السوري، حتى أن عميد الليبراليّين الوهّابيّين طالب نجاد بالتمثّل بالنظام السوري. جاءهم الأمر بأن يتوقّفوا عن نقد النظام السوري، فانصاعوا من دون اعتراض. هؤلاء الأبواق ينطقون ويشتمون ويصمتون ويتقيّأون بأمر من مساعد الأمير. هؤلاء تركوا عقولهم على عتبة قصور الأمير. هؤلاء نسوا كلّ ما كتبوا قبل لقاء الأمير الأوّل).
لكن حماسة جمهور أمل وحزب الله للقاء أحمدي نجاد تمثّل حقيقة مسخ وطن باتت فيه الطوائف، كلّ الطوائف، جمهوريّات مستقلّة بذاتها، وذات سياسات خارجيّة وتحالفات إقليميّة وعالميّة خاصّة بها. هناك ما يثير القلق في لقاء الجمهور الجنوبي بنجاد. تذكّرني المشاهد بافتراضنا أثناء سنوات الحكم الشيوعي بأن الدعم السوفياتي لقضايا العرب ـــــ وإن بصورة محدودة ومشروطة ـــــ يعبّر عن تعاطف شعبي بين سكّان دول المعسكر الشيوعي مع قضايانا. اكتشفنا أن حكومات أوروبا الشرقيّة باتت تمثّل اليوم اللوبي الليكودي في داخل الاتحاد الأوروبي. هل تريّثنا لبرهة لنتساءل عن مدى تعبير مواقف نجاد من القضيّة الفلسطينيّة (وبعض هذا التعبير مضرّ بالقضيّة لكثرة ما يخلط بين عدائنا المطلق لإسرائيل والتطرّق المهين للمحرقة) عن مواقف الرأي العام الإيراني؟ هل سنكتشف ما يخيّب آمالنا في ما بعد؟ هل ستصبح مناصرة نجاد عبئاً على مناصري القضيّة الفلسطينيّة بيننا في ما بعد؟
لكن مسخ الوطن تقاعد عن السيادة منذ زمن طويل. يكفي أن تقرير تيري رود لارسن (شريك رفيق الحريري في المؤامرة التي ولّدت القرار 1559) أشار إلى أحداث برج أبي حيدر. لا ضرورة للتحليل والتعليق. المندوب المُنتدب على لبنان من قبل الولايات المتحدة (وبرداء مُستعار من الأمم المتحدة المطواعة) يعبّر عن قلقه من اشتباكات الأحياء، وهي تجري في بعض أحياء لوس أنجلوس بين عصابات مُتنازعة. ليس هناك في لبنان من الفريقيْن من يعترض على وجود مندوب من الأمم المتحدة والذي لا يجد موضوعاً لا يدخل في نطاق صلاحيّته التي لم نرَ مثيلها منذ عهد الاستعمار الكلاسيكي (لا النيو كلاسيكي). تيري رود لارسن أورد في تقريره أن «الحكومة اللبنانيّة» تريد بيروت منزوعة السلاح. الحكومة اللبنانيّة هي إشارة إلى عائلة الحريري. نسي لارسن هذا أن في الحكومة اللبنانيّة أكثر من طرف داخلي. لم يردّ أحد على كلامه. سنعرف عاجلاً أو آجلاً طبيعة المشروع الجهنّمي الذي عمل رفيق الحريري عليه مع تيري رود لارسن هذا (يقوم ممثّلو الحريريّة في أميركا بدعم مالي لعتاة الصهاينة في الكونغرس الأميركي، أي أن مشروع الحريري جزء من مشروع شرّير أكبر منه بكثير). الذين هلّلوا ورحّبوا بالاستعمار الفرنسي، والذين رحّبو وهلّلوا للاحتلال الإسرائيلي، والذين رحّبوا وهلّلوا للنفوذ السوري في لبنان، يهلّلون للاستعمار الغربي الذي يثير إعجابهم. الرجل الأبيض يحبّنا حبّاً جمّاً، يقولون في سرّهم. هؤلاء، لا يستحقّون وطناً، ولا يستحقّون سيادة ولا كرامة. هؤلاء جمهوريّة في جزيرة صغيرة نائية كثيراً عليهم، وعليهن. هؤلاء، يستحقّون فقط... لبنان.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)