strong>عثمان تزغارت*في حوار مع تلفزيون «فرانس 24» العربي، يتحدّث رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، باندفاع وعفوية لم نعهدهما لدى «مهندس أوسلو». للحظات، يخيّل للمشاهد أن بعضاً من روح الراحل ياسر عرفات تقمصت خلَفَه، وخاصةً حين تنقبض ملامحه فجأةً وتتشدّد نبرته: «لا مفاوضات من دون وقف الاستيطان. وقفُ الاستيطان لم يعد مطلباً فلسطينياً أو عربياً، بل بات دولياً. كل العالم يحكي عن وقف الاستيطان، بَدْكُم إياي أنا ما أحكي!؟» ويتوقف مستنكراً، ثم يضيف: «جلستُ مع نتنياهو بحضور ميتشل وهيلاري كلينتون، وقلتُ له: أوقف الاستيطان. قال: أخاف أن تسقط حكومتي! قلتُ: إذا كان مستقبل حكومتك أهمّ من مستقبل أولادك، فأنت حرّ. إذا كان هيك، أنا ما رح فَاوِض»! هنا تتصلب لهجة الحديث، حتى يخيّل للمرء أن عباس سيستعير من عرفات جملته الشهيرة، ليضيف: اللي مش عاجبو يشرب من بحر غزّة!
لكن حديث المكاشفة/ الاعتراف سرعان ما يجرّ رئيس السلطة إلى منزلق غير متوقع. وقفتُ أمام الشاشة مشدوهاً لا أصدق أذنيَّ. وانتظرتُ حتى رأس الساعة الموالية، لأسمع إعادة النشرة الإخبارية، كي أتأكد أنني لم أُسِئ الفهم. وإذا برئيس السلطة يكرّر: «في كل مرة يطلعوا لنا بـ«شَغْلة» جديدة، آخر شي قال بدهم إيانا نعترف بـ«يهودية» دولة إسرائيل. شو خصنا إحنا؟ هايدي دولتهم، يعملوا فيها اللي بدّهم إياه! إحنا ما خَصْنا. ما دام اعترفنا بدولة إسرائيل، خلصنا»!
لا، يا فخامة الرئيس، ما خلصنا!
الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية معناه إطلاق يد الصهاينة لتنفيذ ما يحلمون به من «تطهير عرقي»، لنزع فتيل ما يعتبرونه «قنبلة ديموغرافية»، عبر إبعاد إخواننا من فلسطينيّي الـ 48، الذين لا يزالون، منذ ستين عاماً، متشبّثين بأرضهم، رغم كل الضغوط والمؤامرات. وهم اليوم يمثّلون 18 بالمئة من سكان «فلسطين التاريخية»، أو ما يسمّيه رئيس السلطة الفلسطينية «دولة إسرائيل».
العالم كلّه يرفض الانسياق وراء حكومة تل أبيب في مشروع «يهودية إسرائيل». فلماذا يعطيها رئيس السلطة الفلسطينية شيكاً على بياض؟ ألا يدرك أن منح الشرعية لهذا المشروع العنصري معناه إعطاء الصهاينة الضوء الأخضر للتخلص من فلسطينيّي الـ 48، أي القيام بـ«ترانسفير» فلسطيني جديد؟
إن لم يفهم الرئيس عباس هذا، فالأرجح أن «صلاحيته» ليست منتهية بالمفهوم السياسي فحسب، بمعنى أن ولايته منتهية، بل بالمفهوم الصحي أيضاً. أي إنه كأيّ مُنتج معلَّب منتهي الصلاحية بات سامّاً ومضرّاً!
رحم الله محمد الماغوط الذي كان يردّد دوماً أنّ المشكلة ليست في «صلاحية» الأنظمة العربية، بل في المواد الحافظة لها!
* صحافي جزائري مقيم في باريس