تحت غطاء تحرير الشام من نظام بشار الاسد، أعلنت في الكويت الحملة الكبرى لتجهيز 12 الف غازٍ، وخلال فترة وجيزة أعلن القائمون على الحملة استكمال المرحلة الاولى وإتمام جمع مبلغ تجهيز اثني عشر ألفاً في كل من الحسكة وحلب وادلب وحماة وحمص ودمشق واللاذقية ودرعا، وأعلنوا البدء بالمرحلة الثانية وهي شراء الأسلحة النوعية. وفي تاريخ 21 يونيو/ حزيران أعلنوا إتمام تجهيز 8700 مقاتل، وقال المشرفون على تجهيز الغزاة إن الحملة الكبرى مستمرة لشراء مضادات دروع تكلف الواحدة 2500 دولار لتقديمها لجيش الاثني عشر ألف مجاهد.
لم تكن هذه الحملة هي الوحيدة في دولة الكويت، بل صاحبها عدد من الحملات المتتابعة والتي تخدم الشأن ذاته، فقد أعلن عدد من شيوخ الدين، وهم في الغالب أعضاء ينتمون إلى تيارات دينية مختلفة كالإخوان المسلمين بالإضافة للجماعات والاحزاب السلفية، «حملة النفير لتجهيز المجاهدين في سوريا»، و»حملة تحرير الساحل السوري» ثم حملة «أسهم لنصرة الشعب السوري»، والتي تبنتها «رابطة دعاة الكويت» غير الرسمية. وقد وضعوا على خلفية ملصق الاعلان صورة مقاتل يحمل قاذفة «آر بي جي»، ثم انطلقت «حملة العلماء لتجهيز المجاهدين في سوريا».

أحد أكثر الأسئلة التي
تحوز اهتمام البحّاثة هو من أين أتى «داعش»؟


أعلن القائمون على الحملة في اوقات متفرقة أن المال الذي تم جمعه في هذه الحملات، والتدريبات العسكرية وتجهيز الغزاة لم تتوجه لجماعة «داعش» الارهابي، وإنما لجهات أخرى تناهض النظام السوري، إلا أن التحقيقات الاولية مع الخلية التي قامت بعملية تفجير وقتل المصلين في مسجد الامام الصادق في الكويت أفادت بأن الكثير من التبرعات ذهبت إلى تنظيم «داعش»، وهو الامر الذي كانت الأوساط السياسية والبرلمانية في الكويت تحذّر منه باستمرار، حيث اشارت أكثر من شخصية سياسية إلى ضرورة مراقبة حركة تلك الاموال والتبرعات من قبل الدولة.
هذه الصورة ذاتها وبتفاصيلها الدقيقة جرت في دول خليجية أخرى، وفي كلّ من المملكة العربية السعودية والبحرين وقطر، حيث اتخذت حملة التبرعات ذات العنوان (تجهيز الغزاة)، وبإشراف شيوخ دين وناشطين ينتمون إلى تيارات موصوفة بالتشدد الديني، بما يشير إلى أن الجهة المشرفة على تجهيز الغزاة في جميع هذه الدول واحدة، وحركة المال وجهود التدريب والتعبئة العسكرية، جميعها تتوجه إلى جماعات محددة سواء في الشام أو العراق كما تبيّن لاحقاً.
بالنظر إلى حجم ومساحة دولة الكويت وتعدادها السكاني - على سبيل المثال - فإن هذا الحجم من التداخل مع المنظمات القتالية في الخارج، وما يفترضه من استعداد نفسي ومادي لدى فئة عريضة من الشباب الكويتي للانخراط المباشر في دعم حركات العنف، وتواصلهم بشكل دائم مع ساحات القتال، وارتباطهم مع قيادات تلك التنظيمات القتالية، فإن حجم الخطر على كيان الدولة والتهديد الفعلي لسلامة المجتمع هو أمر محقق، فلا تتحمل دولة مسالمة هذا القدر من التحريض على العنف، ولا يمكن توقع مدى انتشاره داخل المجتمع الصغير في حجمه السكاني والجغرافي.
إذ تساهم الجهود التعبوية والحربية الكثيفة في المجتمع في انتقال نظرة الأفراد للعنف، من كونه جريمة منظمة إلى عمل جهادي مشروع. وطبقاً للعديد من التجارب فإن انخراط الشباب في عمليات جهادية خارج بلدانهم يخلق منهم مجموعات عنف ترتد على الوطن بالويل والثبور. لقد عانت المملكة العربية السعودية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم ولا تزال ممن عرفوا بالأفغان العرب، وهم المواطنون السعوديون الذين قاتلوا في أفغانستان إلى جانب طالبان وتنظيم القاعدة، ولم تمر سنوات قليلة إلا ووجد النظام السعودي نفسه وجهاً لوجه مع الارهاب.
وبالنظر إلى أن العنف والارهاب هو اتجاه تقويضي للنظام والمجتمع، فإن محرضات العنف لا تقف عند دعم منظمة إرهابية محددة، وإنما هي إنتاج لكل المفاعيل الدينية والاجتماعية والسياسية، فخطيب الجامع والقناة الفضائية والمناهج الدراسية والظروف السياسية كلها تعد من صناع بيئة العنف التي ينمو فيها الفرد، ويستقي منها مفردات الجريمة الاولى، حيث يقرر تالياً في أي جماعة أو منظمة ينخرط أن يفرغ مكبوت العنف الذي عبئ فيه. فلا يمكن الفصل بين تأييد وتمجيد منهج التكفير والاقصاء، وإدانة من ينتمون لتنظيم «القاعدة» أو «داعش» أو «النصرة» أو غيرها من جماعات العنف، وذلك لأن المنظومة المعرفية لكل هذه الاتجاهات واحدة، ولكنها انشقت لأولويات حركية أو ظروف أمنية أو ضرورات تكتيكية.

«داعشية» الخليج المتطرفة

أحد أكثر الأسئلة التي تحوز على اهتمام البحاثة في العالم العربي والاسلامي هو من أين أتى «داعش»؟ وكيف توسع هذا الفكر المتشدد الذي يحمل رسائل القتل والموت والدمار إلى كل العالم؟ وكيف لإنسان مسلم يحمل عقيدة التسامح والسلام والمحبة أن يتقبل منظمة لا تفرق سكينها بين نحر عسكري أو مدني، بالغ أو طفل، رجل أو امرة؟ وكيف يسمح إنسان لنفسه أن يتعاطف مع جماعات تفجّر المساجد ومدارس الاطفال والاسواق التجارية وتستهدف الآمنين؟
من المسلم به أن منظمات العنف كتنظيم «القاعدة» و»داعش» و»النصرة» وغيرها لم تكتشف ديناً جديداً، ولم تؤسس مذهباً مختلفاً عن السائد، بل هي أعادت تفسير وقراءة ذات النصوص الدينية من الآيات والروايات والآراء الفقهية المتداولة في المجتمع ولكن بصورة أكثر تشدداً. وفقهاء الحركات الجهادية والمتشددة، هم في الغالب من شيوخ الدين وطلبة العلوم الشرعية الذين تصدوا لإمامة المصلين، وتدريس الشباب في الجوامع، والقاء المحاضرات الدعوية.
مشايخ الجوامع الموصوفون بالاعتدال والقريبون من السلطة، والحاضرون في برامج التلفزيون الرسمي، هم أيضاً أو بعضهم على الأقل، متهم بالتحريض على كراهية الآخر المسلم ونبذه وازدرائه، فضلاً عن التحريض على غير المسلمين. ولا يترددون من الدعاء عليهم في نهاية كل خطبة بالهلاك والدمار، لا لشيء سوى لأنهم يختلفون معهم في الاجتهاد الفقهي، أو في تفسير أحداث التاريخ. فجماعات التطرف هي نتاج موضوعي للقيم التي زرعت داخل أدمغة الشباب الخليجي، وحفزّت روح الحمية المذهبية والدينية، بما دفع بعضهم تالياً للانتساب إلى أكثر التنظيمات تشدداً للتعبير عن تدينهم.
لقد بدا خلال السنوات الاخيرة أن الجيل المتحمس، يبدأ دعوياً وينتهي متشدداً. ينطلق من المسجد ثم يباينه إلى ساحات المواجهة، وهو في رحلته يبحث عن اكثر الافكار تشدداً، واشدها فتكاً. فعلى سبيل المثال، كان الانضمام للقاعدة هو جزء من البحث عن استراتيجية عمل لتنفيذ ما تلقته تلك الشبيبة من دروس نظرية.
بعد مقتل زعيم القاعدة اسامة بن لادن سرى شعور لدى شريحة كبيرة من اتباعها بأن التنظيم عاجز عن استمراره في المواجهة القتالية مع الغرب. ويمكن أن يلاحظ المتتبع أن الجيل الجديد من القاعدة لاسيما في العراق لم يخفي استياءه من ترهل التنظيم الكبير والذي بدا كعجوز انتهت صلاحياته، وهو ما أدى تلقائياً إلى نشوب صراع على النفوذ مع الجيل الأصغر سناً والاكثر حماساً في التنظيم، والذي وجد نفسه الأحق في خلافة أسامة بن لادن بدلاً من الكهل أيمن الظواهري المختبئ في كهوف أفغانستان، فظهرت في الشام وتالياً في العراق مجموعات قاعدية جديدة بأسماء وعناوين مختلفة، بايع بعضها شكلياً الظواهري حفاظاً على روح الجماعة، فيما أعلن آخرون انشقاقهم رسمياً عبر اعلان قيادة جديدة تحت قيادة الخليفة ابو بكر البغدادي.
من ناحية اخرى، فإن انطلاق جماعات التطرف من ذات القاعدة المعرفية للخطاب الديني الرسمي، جعلها بالضرورة مزاحماً للقاعدة الاجتماعية التي يشتغل عليها ذلك الخطاب. فثمة وسط اجتماعي عام يحتضن هذه الثقافة ويؤهلها للظهور والتألق كلما سخنت مناطق التوتر. نأخذ مثلاً الدعوة السلفية المعترف فيها رسمياً في دول الخليج والتي ترمي غيرها من المدارس الفقهية والمذهبية بالانحراف والبدع، وجماعة الاخوان المسلمين التي اتخذت المسار الثوري في التعبير الديني والنشطة جداً في دول الخليج. ومن جلباب هاتين الجماعتين برزت السلفية الجهادية (السرورية) بنظرياتها المتشددة التي استمدت من ابن تيمية المضمون العقائدي ومن سيد قطب المظهر الثوري، فزادت عليها جماعة القاعدة بتقسيم العالم إلى فسطاطين ودشنوا العمليات الانتحارية ضد المحتل أولا ثم ضد الحكومات الظالمة، ومن ثوبها ولد داعش والنصرة التي اعتبرت جميع من يخالفها هدفا للقتل والنحر.
التطور من السلفية الصافية إلى السلفية الجهادية، هو مثال حي لعدة نماذج دينية أخذت ذات المسار المتصاعد من الاعتدال الفكري إلى التشدد السلوكي، ومن جمع الحقائب المدرسية إلى ارسال الحقائب المفخخة، ومن جمع التبرعات لإغاثة الفقراء والمحتاجين إلى جمع التبرعات لنشر الموت وتقطيع أشلاء المدنيين. فجماعات التطرف تقيم دعائمها على ذات الأسس الفكرية والعقدية المتداولة في مناهج التعليم المدرسية، والاعلام الرسمي، ووسائل الإعلام الحكومية، والذي يقدم عقيدة الولاء والبراء على قيم التسامح والعدل والاحسان، ونواقض الاسلام بما فيها مظاهرة المشركين على مفاهيم التعايش والوحدة الاسلامية، وتوحيد الالوهية والربوبية بما فيها اتهام المخالفين بالشرك وحكم المشرك القتل على مفاهيم حرمة الدماء وحرمة التكفير.
يبدو السؤال هنا بديهياً، عن صواب مد يدّ اللوم لتوحش «داعش» وحده، وتحميله مسؤولية العنف وإراقة الدماء، في وقت تضخ هذه الجماعات عبر وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية الكراهية والطّائفية في كل أنحاء البلاد؟ إن الحديث عن «داعش الخليج» هو واقع تعيشه هذه الدول منذ سنوات عدة وقبل أن تعلن هذه المنظمة ثوبها الأكثر وحشية، فهو فكر ومشروع يتردد صداه يومياً من قبل بعض شيوخ الدين وله شعاراته وكتاباته وجنوده وحساباته البنكية التي لم تتخذ دول الخليج حيالها أي إجراء يذكر.
وفقاً لذلك فإن المسؤولية لا يمكن أن نعلقها على مشجب تسرب الفكر المتشدد من ساحات التوتر في كل من العراق والشام، وإنما تسري المسؤولية على حكومات الخليج التي سمحت لهذا الفكر بالتمدد بشكل شبه رسمي، فتسلم «شيوخ الأزمة» ميكرفونات بعض الجوامع، ودعوا الناس إلى حروب مذهبية، وظلت الدولة صامتة عن جمع الاسلحة وتدريب المقاتلين وتحشيد الأنصار لجماعات العنف. إن النتيجة المتوقعة والتي لا تحتاج إلى مراكز أبحاث ودراسات للوصول إليها هي ما شهدناه من تجنيد المئات من الشباب الخليجي وتهيئتهم كمفخخات جاهزة للانفجار عند انطلاق صافرة الخليفة، والتي يراها بعض المتشائمين قد حانت.
* باحث كويتي