حين قررت السعودية الاستعانة بالقوات الأميركية لتحرير الكويت، أثار القرار ردود فعل من مختلف التيارات الإسلاموية والأكاديمية تمحورت جميعها حول هيبة النظام: من «العريضة المدنية» إلى «خطاب المطالب» ثم «مذكرة النصيحة». انتقادات تجاوزها النظام بذكاء مؤسساً لتيار إسلام حركي موال تشتّتت معه أصوات اليساريين والليبراليين تماماً
أحمد عدنان *
بعد رواية قصة «العريضة المدنية» في مقال سابق (راجع «السعودية 1990: مخاض دولة ومجتمع»، «الأخبار» 3 آذار 2010)، من اللازم أن ننتقل إلى رواية قصة «خطاب المطالب» ثم «مذكرة النصيحة» التي رفعها علماء وناشطون معظمهم من التيار الصحوي (الإسلاموي) إلى الملك فهد عام 1991. لكن، قبل الخوض في التفاصيل، يجب أن نشير إلى الأجواء التي أسبغتها حرب تحرير الكويت على السعودية:
كان قرار الاستعانة بالقوات الأميركية الذي اتخذه الملك فهد شجاعاً وضرورياً وفاصلاً، لكنه صدم الشريحة الإسلاموية التي غلب المنظور العقدي على تقييمها للقرار، عبر تساؤلها: كيف نستعين بالكفار من أجل مقاتلة المسلمين؟، وعبر استحضارها حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». حتى أن أسامة بن لادن (الذي كان وقتها نجماً شعبياً بسبب «جهاده» في أفغانستان) اجتمع في حينها بوزير الدفاع، الأمير سلطان بن عبد العزيز، وعرض عليه أن يقاتل الأفغان العرب صدام حسين ويحرروا الكويت كما قاتلوا السوفيات وحرروا أفغانستان، لكن الأمير رد عليه بمنطق في غاية البساطة والوضوح، خلاصته أن تجربة أسامة ورفاقه في أفغانستان لن تكون مجدية في الكويت، فأفغانستان أرض جبلية مزروعة بالكهوف التي لا تحصى، أما الكويت فأرضها منبسطة مثل «كف اليد»، قبل أن يسأله: «ماذا ستفعلون حين تسقط عليكم القذائف العراقية بما فيها الأسلحة الكيماوية؟!». يومها، أجابه بن لادن: «سوف نحاربها بالإيمان!» («نيويورك تايمز»، 27 كانون الأول/ ديسمبر 2001). وفي رواية أخرى، يُحكى أن الأمير رحّب – ولو ظاهرياً – بعرض بن لادن، إذ أجابه: «سنتّصل بك حين نحتاج لك». ويرى البعض أن بن لادن فضح نفسه بهذا العرض لأنه قدّم نفسه خطراً محتملاً.
وإذا كان المنظور العقدي قد غلب على قراءة الشريحة الإسلاموية لقرار الاستعانة، فقد غلب المنظور المثالي أو الرومانسي على قراءة التيارات القومية واليسارية في السعودية (أدان معظمها احتلال الكويت، باستثناء بعض من يميلون لبعث العراق) التي كانت تؤمن بإمكانية حل عربي للاحتلال استناداً إلى المفهوم التقليدي لـ«السيادة»، خوفاً من أن يؤدي الحضور العسكري الأميركي إلى هيمنة على القرارين السياسي والاقتصادي في السعودية، وخصوصاً أن هذه التيارات عارضت بشدة، في الخمسينات من القرن الماضي، إقامة قاعدة «الظهران» الأميركية (سلمتها الولايات المتحدة للحكومة السعودية عام 1962)، حيث إن برامجها السياسية ترفض وجود أي قواعد أجنبية في المملكة. كذلك، رأت هذه التيارات أنه إذا كان احتلال العراق للكويت ضربة موجعة للحلم القومي وانتهاكاً لميثاق جامعة الدولة العربية، فإن قرار الاستعانة يمثل ضربة أكبر.
إلا أن القاسم المشترك في رد فعل مختلف التيارات على قرار الاستعانة تناول هيبة النظام، فقد كان الخطاب الرسمي والإعلامي آنذاك يؤكد مراراً أن نعمة «الأمن والأمان» هي الإنجاز الأهم للوحدة السعودية، إلى أن أصبحت هذه النعمة مهددة في صميمها باحتلال الكويت، كما أن جملة من التساؤلات انطلقت حول صفقات الأسلحة الباهظة التي عقدتها المملكة قبل الاحتلال، حتى أن الملك فهد صرّح، مشيراً إلى الحرب العراقية – الإيرانية: «لدينا جيش قوي، لكنه لا يتمتع بخبرة جيش قاتل 8 سنوات» (صحيفة «عكاظ»، 27تشرين الثاني/ نوفمبر 1990). وبمراجعة كتاب (مقاتل من الصحراء) للأمير خالد بن سلطان، قائد القوات المشتركة، نلاحظ أن المؤلف قد أفرد جدولاً عددياً للفروقات بين جيش العراق وجيوش دول مجلس التعاون لشرح قرار الاستعانة. يقول الصحافي المعروف جمال خاشقجي: «شعرْنا بالإهانة، في ذلك الوقت، لأن بلادنا تعتمد على الكفار لدرء الخطر عنها. وتساءل البعض: إذا لم تكن القوات المسلحة قادرة على حماية البلد فلماذا نصرف عليها؟!». في السياق ذاته، يقول المحامي عبدالعزيز القاسم: «ذهل الجميع خلال أسابيع الغزو الأولى بسبب الضعف الهائل الذي تكشفت أسراره في الجيش والأمن والإعلام، وبسبب انهيار الكرامة الوطنية أمام جحافل المجندين والمجندات الأميركان التي تقاطرت على البلاد، وكان انتشار توطين الكويتيين في جميع مناطق المملكة إشارة حاسمة إلى نموذج المخاطر الذي يهدد الأمة بسبب السياسات الفاشلة التي انتهجتها الدولة، فتملّك الجميع لهيب النخوة والغضب إزاء هذا الوضع المهين وطنياً واجتماعياً. كانت تلك المشاعر هي الوقود المحرّك لمختلف شرائح المجتمع. كان إقناع الناس بخطوات الضغوط الإصلاحية ميسوراً، بل كان الإصلاح هاجساً اجتماعياً لا يخص الإسلاميين وحدهم».
كانت أجواء التيار الإسلاموي في السعودية إذاً في غاية الارتياب. ولعل القصة التي يرويها جمال خاشقجي تلخص بوضوح تلك الأجواء: «كنا في مجلس الشيخ عبدالله بصفر، وكان الداعية طارق سويدان يطالب بجمع التبرعات لحساب الهيئة الإسلامية للتضامن مع الكويت. أدلى أسامة بن لادن بمداخلة قدّم فيها قراءة غريبة للأزمة مفادها أن الهدف من حرب تحرير الكويت هو إقصاء للشريعة الإسلامية عن بلاد المسلمين، يتوخاه الغرب، وخصوصاً أنه لم يبق – تقريباً – من بلد يطبق الشريعة سوى السعودية، فصنعوا الأزمة مع صدام حسين لغرض تحويل النظام في السعودية من نظام إسلامي إلى ملكية دستورية على النموذج البريطاني، وبالتالي تسليم البلد إلى قيادات من الشعب تقود البلاد إلى العلمنة. أضاف بن لادن في مداخلته أن من الضروري تحذير الأمراء ولفت انتباههم لهذا المخطط، بينما توقّع أن يكون رئيس الوزراء المقبل للبلاد هو السفير غازي القصيبي لأنه كان رأس الحربة الإعلامية الثقافية في مواجهة صدام. وكان القصيبي في حينها بمثابة محمد حسنين هيكل الدولة السعودية، إذ تميّز بظهور لافت ومبهر عبر مقالاته في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ إقالته من وزارة الصحة». بعد أن يروي تلك الواقعة، يضيف خاشقجي: «خرجْت تلك الليلة وأنا مؤمن بأن المؤامرات تحاصرنا. كان بن لادن في تلك المرحلة خائفاً على النظام وليس منشقّاً عنه».
مطالب الإسلامويين خلال حرب تحرير الكويت أرادت سَعْوَدة نظريّة «ولاية الفقيه»
هكذا، كان الهدف من السيناريو واضحاً. أراد بن لادن تجنيد التيار الإسلاموي في السعودية ضد سيناريو محتمل، بعدما سبق له أن تنبأ باحتلال الكويت قبل الغزو بستة أشهر، خلال محاضرة ألقاها في أحد المساجد بالرياض، في الفترة التي طلب منه فيها أن يهدأ والتي كان ممنوعاً من السفر فيها لأسباب أفغانية – باكستانية تتعلق بالراحلة بنازير بوتو، رئيسة وزراء باكستان. يومها، جاء في المحاضرة: «بعد انتهاء حرب العراق وإيران، لدى صدام حسين جيش هائل ومكلف أدمن الحرب، ويحتاج إلى وظيفة، وبالتالي سيلتفت صدام إلى جيرانه ويمارس أمراً عدوانياً». بعد الغزو، سئل بن لادن كيف استشرف المستقبل، فأجاب مشيراً إلى الآية القرآنية «والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا»، بمعنى أن من يجاهد في سبيل الله يهبه الله البصيرة والشعور بالإلهام. على ذلك، يعلق خاشقجي: «كانت قراءة ممتازة بالنسبة لرجل مخابرات! وليس غريباً أن نلاحظ الاعتماد على الإلهام في أدبيات تنظيم القاعدة والتيارات الإسلاموية المتطرفة».
بعد غزو الكويت، واتخاذ الملك قرار الاستعانة بالقوات الأميركية، أصدرت هيئة كبار العلماء وعلى رأسها مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز بن باز فتواها بجواز الاستعانة بتلك القوات في بيان مقتضب خلا – على غير عادته – من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية! يعلّق جمال خاشقجي على ذلك قائلاً: «كانت فتوى الاستعانة تخالف قناعات الشيخ، لكنه من المدرسة السلفية التي تطيع وليّ الأمر. وحين قابل الشباب المتحمس فتوى الشيخ بالتضييق والاستهجان، أصبح بن باز بين خيارين: اختيار الجماهير، أو اختيار الدولة. فاختار الدولة».
لكن لم يتحرك طلبة العلم والتكنوقراط، وفق تقسيم محسن العواجي، لمناقشة بن باز إلا بعدما ألقى الشيخ سفر الحوالي محاضرة ملتهبة في جامع الملك خالد بالرياض عنوانها «ففرّوا إلى الله»، انتقد فيها، صراحة ولأول مرة، فتوى الاستعانة.
ويبدو أن محاضرة أخرى، للشيخ عبدالمحسن العبيكان قد ساهمت أيضاً في تحريك التيار الإسلاموي الصحوي. فقد ألقى العبيكان بمسجده بالرياض محاضرة أعلن فيها فكرة مشروعية الإنكار بدون إذن السلطة.
في أيلول/ سبتمبر 1990 ، شهد مجمع إسكان جامعة الملك سعود عشاءً اعتيادياً في منزل د.أحمد التويجري (عميد كلية التربية آنذاك وعضو مجلس الشورى لاحقاً)، حضرته مجموعة من الناشطين، منهم: د.توفيق القصير، د.محمد المسعري، وعبد العزيز القاسم، وانتهى بمبادرة الاتصال بمجموعة العبيكان لتنظيم مطالبة بالإصلاح على المستوى السياسي والاقتصادي. كان عبد العزيز القاسم في حينها قاضياً متدرباً في المحكمة الكبرى بالرياض. لكن، على الرغم من صغر سنه، اقترح على العبيكان تطوير فكرة «الإنكار» إلى مبادرة إصلاحية تتناول القضايا الجوهرية في الدولة. رحّب العبيكان بالفكرة، واجتمع في تشرين الثاني/ نوفمبر 1990 مع التويجري والقاسم لتنفيذها.
خلال الاجتماع، فاجأ العبيكان الآخرين، وفق رواية القاسم، بأنه اجتمع سراً مع الشيخ بن باز، وتحدث معه بصراحة كاملة عن «ضرورة تقييد السلطة الملكية المطلقة من خلال دستور يتوافق مع الشريعة ويقلص سلطات الملك لتحقيق حد أدنى من لجم الفساد والحكم المطلق الذي جلب الشرور على الأمة بما فيها شرور القوات الأجنبية»، وأن بن باز أيّد هذه الآراء!.
في هذه الأثناء، وعلى مسار آخر، عقد القاسم في منزله اجتماعاً مع مجموعة أخرى لتوحيد جهود الإصلاح في مطالب محددة. اتفق المجتمعون يومها على الاجتماع الدوري لتنظيم مبادرة تجمع الإصلاحيين الإسلامويين عبر بيانات مطالب وندوات ومهرجانات خطابية ومنشورات، وتتالى انعقاد عشرات الاجتماعات للمجموعة يومياً تقريباً، كما استطاعت المجموعة أن تحظى بمساندة الشيخ سلمان العودة الذي بدأت جماهيريته تتسع، وكان تأثيره حاسماً نظراً لشبكة اتصالاته العميقة وتأثيره في منطقة القصيم. وتالياً، حظيت المجموعة بمساندة الشيخ سفر الحوالي الذي استقطب بدوره أوساط التيار الإسلاموي (الصحوي) في مكة المكرمة وجدة. وساند المجموعة أيضاً الشيخ عبدالله حمود التويجري، الشيخ التقليدي الإصلاحي صاحب العلاقات المتميزة بكبار العلماء بحكم مكانته الأكاديمية وسمعة والده الشيخ حمود التويجري. وقد ساهمت تلك العلاقات بنحو حاسم في تحقيق انتشار مبادرات مطالب الإصلاح.
في كانون الأول/ ديسمبر 1990، أطلق إصلاحيون سعوديون، ليبراليون وقوميون ووجهاء ومسؤولون سابقون عريضتهم المدنية التي طالبت الملك فهد بـ: «وضع إطار تنظيمي للفتوى، الشروع في تكوين مجلس الشورى، إحياء المجالس البلدية، مراجعة أوضاع القضاء، تنظيم الحرية الإعلامية، الإصلاح الجذري والشامل لقطاعي التعليم وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين المرأة في الحياة العامة». ورأى عبد العزيز الخضر في كتابه القيّم (السعودية.. سيرة دولة ومجتمع) أن «العريضة المدنية» استفزت التيار الإسلاموي، وحرّضته على تقديم رؤيته الإصلاحية للملك فهد عبر «خطاب المطالب» ثم «مذكرة النصيحة». يقول جمال خاشقجي: «لقد استفزت العريضة التيار الإسلاموي لأنها ضمّت بقايا القوميين، بقايا اليسار، بعض وجوه تيار الحداثة، وإسلاميين غير متحزبين، منهم أحمد صلاح جمجوم ومحمد عبده يماني ومحمد صلاح الدين.
لقد أدرك الإسلامويون أن المملكة تمر بمرحلة مخاض، وأن العريضة المدنية هي بمثابة إشارة إلى أن ثمار المخاض ستذهب بعيداً عن الإسلام الحركي. لذلك، عبّر خطاب المطالب ثم مذكرة النصيحة عن مطالب الإصلاح من وجهة نظر الحركيين. رغم أن رواية عبد العزيز القاسم ود. محسن العواجي تدحض وجود أي تأثير لـ«العريضة المدنية» على تحركات التيار الإسلاموي، إذ يبدو أن الاجتماعات في منزل عبدالعزيز القاسم، في حي الملك فهد بالريا، قد تمخضت عن بلورة مطالب الإسلامويين الإصلاحية في خطاب المطالب. وتسلم د. محسن العواجي موافقتين كتابيتين تؤيدان الخطاب من الشيخ عبد العزيز بن باز ثم الشيخ محمد بن صالح العثيمين. سألتُ العواجي إنْ كان بن باز والعثيمين قد تراجعا عن تأييد الخطاب بعد إعلانه، فأجاب: «مستحيل. الشيخ بن باز والشيخ العثيمين كانا معنا قلباً وقالباً في خطاب المطالب ثم في مذكرة النصيحة، لكنهما تعرّضا لضغوط هائلة دفعتهما لأن يصرّحا بما يخالف قناعاتهما أمام رجال الدولة». يقول عبد العزيز القاسم: «ليلة صدور خطاب المطالب اجتمع الناشطون في منزلي، واتصلنا بأعضاء في هيئة كبار العلماء، قالوا لنا: قلوبنا مع الإصلاح، وأقلامنا مع الدولة»!.
لم تبدأ عملية جمع التوقيعات على خطاب المطالب ولم يرفع إلى الملك فهد إلا بعد تحرير الكويت، بسبب حساسية النظام خلال الفترة التي سبقت ذلك. وقد استطاعت مجموعة الناشطين أن تجمع قرابة 318 توقيعاً أشار أصحابها إلى تعطّش تيار الصحوة لمزاولة النقد السياسي، وتولى إيصال الخطاب إلى ديوان الملك فهد، في أيار/مايو 1991، كل من: د. أحمد التويجري، د. سعيد بن زعير، الشيخ عبدالمحسن العبيكان، والشيخ عبدالله التويجري (وربما لهذا السبب اعتقد عبد العزيز الخضر في كتابه أن الشيخ «التويجري» هو من صاغ الخطاب).
فور تسليم الخطاب، نسخته مجموعة الناشطين ونشرته عبر مختلف وسائل النشر المتاحة آنذاك (الفاكس وآلات التصوير). وخلال أيام، جمع الملك فهد هيئة كبار العلماء، وناقش معهم خطاب المطالب. تسرّب من أحد أعضاء الهيئة أن العضو الشيخ عبد العزيز بن صالح (الإمام الشهير للمسجد النبوي) طالب بقتل «مثيري الفتنة»، مشبّهاً الخطاب بالفتنة على الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان (وربما كانت ردة فعله القاسية مفهومة بحكم توقيع بعض أئمة الحرمين وبعض أعضاء هيئة كبار العلماء على الخطاب!)، فيما تدرّجت آراء الأعضاء الآخرين بين محايد ومطالب بعقوبات أقل، لتتفق الهيئة، في نهاية الأمر، على بيان تدين فيه خطاب المطالب والفاعليات التي رافقته، وتؤسس رسمياً لشجب نصيحة الحاكم في العلن وحظرها.
خلال الأشهر التالية، بدأ عمل آخر لم تستقرّ ملامحه إلا في أيار/مايو 1992، حين بادرت إلى القيام بمشروع آخر «لجنة» أكاديمية في جامعة الملك سعود مكوّنة من عشرين أستاذاً في الجامعة.
بدأت اللجنة، وفق رواية عبد العزيز القاسم ومحسن العواجي، ببلورة كتابة مذكرة إصلاحية عنوانها «مذكرة النصيحة»، تهدف إلى تفصيل المطالب الإصلاحية التي حملها «خطاب المطالب». توالت اجتماعات اللجنة، وكُتبت المذكرة في أروقة جامعة الملك سعود، وجمعت التوقيعات حتى ناهزت 400 توقيع، لكن، قبيل تقديمها للملك، تسرّبت نسخ منها إلى النظام، فاستدعى الأمير سلمان بن عبد العزيز (أمير الرياض) عدداً من معدّيها وطالبهم بالعدول عن تسليمها. يقول عبد العزيز القاسم: «شهدت تلك الفترة ما يمكن عدّه أول بوادر الانشقاق بين يمين الإصلاحيين (الإسلامويين) ووسطهم، وثار جدال عنيف بين وجهتي نظر استكمال التسليم رسمياً وإنْ حدثت المواجهة مع الدولة – وهي رؤية د.سعد الفقيه – ووجهة النظر الأخرى التي ترى تليين المواقف بتسليم المذكرة ووقف جمع التوقيعات عليها. وبالفعل انتهت الأزمة بحل وسط، وسُلمت المذكرة للمفتي بن باز على أن يسلّمها بدوره إلى الملك».
ويضيف القاسم: «وتكرر ما حصل مع خطاب المطالب، اجتمع الملك فهد بهيئة كبار العلماء، فأصدرت الهيئة بياناً يدين المذكرة». وصف بيان الهيئة الموقعين على المذكرة بـ«إما سيئي القصد أو مغرَّر بهم»، ومعدّيها بـ«مروّجي أسباب الفتنة وزرع الضغائن». يقول محسن العواجي: «ذهبنا بعد إدانة هيئة كبار العلماء إلى الشيخ بن باز، وقلنا له كيف تؤيد مطالب مذكرة النصيحة وتبارك جهودنا، ثم تديننا بقسوة؟!»، ويبدو أن النقاش احتدم بين الشيخ والناشطين، حتى بكى الشيخ بن باز وسقط فنجان القهوة على ركبته!
كانت تداعيات حرب تحرير الكويت على السعودية أشبه بـ«لعبة قدر كبرى» لا بطل
لها سوى مكر التاريخ
في الحقيقة، إن المطالب «الإصلاحية» التي وردت في «خطاب المطالب» ثم «مذكرة النصيحة»، لم تعترض على «السلطان المطلق للملوك» لصالح سيادة الشعب كما قد يتصور البعض. من وجهة نظري، حاول «الخطاب» ثم «المذكرة» صياغة مشروع «ولاية الفقيه» في نسخة سعودية (وهذه مشكلة عويصة تجلّت منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حين بدأ رجل الدين السني «يغار» من السلطة السياسية التي نالها رجال الدين الشيعة). ويحسب للناشطين الإسلامويين أنهم تقدموا برؤيتهم في إطار سلمي مدني، وبعض مطالبهم تحلّت بوجاهة لا يختلف عليها أحد (منها استقلال العلماء وصيانة المال العام وتأسيس مجلس الشورى)، لكن أغلب المطالب، من وجهة نظري أيضاً، كان يصعب استيعابها لسذاجتها أو لحدّيتها!. فقد لقيت «العريضة المدنية» قبولاً عند أصحاب القرار لأنها ابتعدت عن الاستفزاز وتمسكت بالمعقولية لأنها أرادت تطوير الدولة، فيما أرادت «مذكرة النصيحة» تغييرها!
في مقدمة «المذكرة»، وأركّز عليها لأنها أكثر شمولاً من «الخطاب»، تحدث الموقعون عن حال العلماء: «ضعف دور العلماء في الحياة العامة»، «ربط العلماء بمؤسسات ودوائر حكومية مما أدى إلى الحد من استقلاليتهم»، «الحساسية المفرطة من بعض الجهات الرسمية تجاه النصح والتوجيه والنقد الهادف البنّاء من العلماء والدعاة»، «قصر ما يذاع أو يكتب أو يبث من العلماء والدعاة في وسائل الإعلام على المواعظ العامة والقضايا الجزئية»، «سعي الجهات المسؤولة إلى حصر رسالة المسجد ومواضيع خطب الجمع على الوعظ العام»، «ضعف الدور الدعوي ونشر العلم الشرعي في كثير من مرافق الدولة ومنها أجهزة الإعلام».
بناء عليه، طالب الموقعون بـ: «أن يكون العلماء والدعاة في مقدمة أهل الحل والعقد والأمر والنهي، وإليهم ترجع الأمة – حكاماً ومحكومين – لبيان الحكم الشرعي لسائر أمور دينهم ودنياهم»، «قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع كل دولة تحارب الدعاة إلى الله فيها أو تضطهد الأقليات الإسلامية بها وأن تكون العلاقات مبنية على حسن تعامل تلك الدول مع الدعاة والأقليات الإسلامية»، «إعادة النظر في وزارة الخارجية وأوضاع السفارات والسلك الدبلوماسي لكي تؤدي السفارات رسالتها الإسلامية المنوطة بها»، «مراجعة الأنظمة القائمة مراجعة شاملة لتنقيحها وإلغاء كل مخالفة للشرع بها، وكذلك العمل على وضع أنظمة شرعية بديلة لما يتعسر تنقيحه منها»، «إيقاف جميع أشكال الصرف على المجالات التي تعد شكلاً من أشكال الإسراف والتبذير مثل ملاعب الرياضة والمعارض»، «إيقاف البنوك والقروض التي تحتسب الفوائد»، «حذف ألقاب التفخيم التي ما أنزل الله بها من سلطان»، «إيقاف المظاهر المنافية للآداب وسلوكيات المسلم كالتبرج وإظهار العورات في التلفاز وأصوات الميوعة والخضوع بالقول في المذياع»، «إخضاع المادة الإعلامية الخارجية لرقابة شرعية ومنع الجرائد والمجلات التي تروج لأفكار الكفر والعلمنة والسفور والخلاعة والصور الفاضحة»، «إذكاء روح الجهاد وحب الموت في أبناء هذه الأمة» (والفقرة الأخيرة – تحديداً – لا يجب أن تُحمّل أكثر مما تحتمل لأنها رد فعل مباشر على جرح الاستعانة بالقوات الأميركية بالنسبة للإسلامويين).
بعد هذه القصة، التي حرصت على أن أرويها بلغة تلك المرحلة، أستطيع أن أقول: كانت تداعيات حرب تحرير الكويت على السعودية أشبه بـ«لعبة قدر كبرى». كأن التاريخ قضى أن تتفاعل تداعيات «خطاب المطالب» ثم «مذكرة النصيحة» لتنتهي باعتقال سلمان العودة وسفر الحوالي ومحسن العواجي وغيرهم عام 1994، ليخرجوا في نهاية التسعينات ويصوغوا خطابات متشابكة ومتضاربة في آن، وكأن التاريخ قضى، بسبب تداعيات «المطالب» و«المذكرة» أيضاً، أن ينتهي سعد الفقيه ومحمد المسعري إلى معارضة رديئة جداً. وكأن التاريخ قضى أن يغادر أسامة بن لادن المملكة، بسبب الاستعانة بالقوات الأميركية، إلى السودان ثم إلى أحضان طالبان في أفغانستان، لتتحقق طفرة في الإرهاب العالمي تقود إلى أحداث أيلول/ سبتمبر 2001. وكأن التاريخ قضى أن يتخذ الملك فهد أهم القرارات الإصلاحية في تاريخ السعودية عبر إصدار الأنظمة الثلاثة (النظام الأساسي للحكم، نظام مجلس الشورى، نظام المناطق) لينقلها إلى مفهوم الدولة الحديثة، لكن هذه الدولة وقعت في حفرة الجمود والركود بسبب التداعيات الاقتصادية والسياسية لأزمة الخليج، ولم تخرج الدولة من تلك الحفرة إلا بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001. وكأن.. وكأن.. إلخ.
إنني لا أجد بطلاً في تداعيات حرب تحرير الكويت على السعودية غير «مكر التاريخ»، كما يسمّيه هيغل. إن مكر التاريخ، هو أحد تلك الطرق والوسائل التي يستطيع «المطلق» من خلالها أن يتجسد في التاريخ، من دون أن تعي تلك الوسائل أنها تحقق – في ما هي تفعل – إرادته.
وتلك هي الحكاية!.
* صحافي سعودي