إعداد وترجمة: ديما شريفكما كان متوقعاً، استقال مستشار الأمن القومي الجنرال جيم جونز الأسبوع الماضي من مهماته. الاستقالة أتت مبكرة بضعة أسابيع، ويقال في أروقة السياسة في واشنطن إنّ ما نقله كتاب بوب ودوورد الجديد «حروب أوباما» عن المشاحنات الداخلية بين جونز ونائبه الذي يخلفه توم دونيلون ورئيس موظفي البيت الأبيض السابق راحم إيمانويل، هي السبب في تعجيل استقالته التي كانت مقررة نهاية العام. الاستقالة تطرح معضلة كبيرة. هل يستطيع مستشار الأمن القومي الجديد أن يكون أفضل من سابقه وأن يكون وفياً للرئيس لكن مستقلاً في قراراته؟ أم أنّ المشكلة أصلاً عند أوباما ذي الخبرة القليلة في السياسة الخارجية والمنحاز كلياً لمساعديه من أيام حملته الانتخابية؟

وداعاً سيد جونز



ديفيد روثكوف *
سيذكر التاريخ الجنرال جيم جونز بأنه مستشار الأمن القومي الأقل نجاحاً منذ أيام الجنرال جون بوينتدكستر الذي أجبر على الاستقالة خلال إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان. هذه الحقيقة وحدها تضيء على واحدة من أخطاء عدّة في الحسابات ارتُكبت حين عُيّن جونز. هو كان رجلاً عسكرياً، فاتُّكل على الحكمة التقليدية التي تقول بأنّ رجال الجيش يبرعون في وظائف مماثلة. فيجب ألا ننسى أنّ أفضل مستشار أمن قومي في التاريخ كان الجنرال برينت سكاوكروفت [مستشار الأمن القومي مع الرئيسين جيرالد فورد وجورج بوش الأب]. ومن الواضح أنّ سكاوكروفت كان المثال المترسخ في عقل الرئيس أوباما حين اختار جونز.
المشكلة كانت، كما رأينا مع بوينتدكستر، أنّ الخبرة العسكرية ليست ضمانة للنجاح في الوظيفة. سلف بوينتدكستر، روبرت مكفارلاين [مستشار الأمن القومي للرئيس رونالد ريغان] كان يتمتع بخبرة عسكرية كبيرة، لكنّه كان كارثة أخرى.
لكنّ جونز لم يكن سكاوكروفت بأي طريقة ممكنة. أتى سكاوكروفت إلى هذا المنصب بعد علاقة وطيدة وشخصية مع رئيس الجمهورية. بعد تجاوز التحفّظ بينهما، لم يستطع أوباما وجونز الوصول إلى هذه المرحلة في علاقتهما. تسلّم سكاوكروفت منصبه ولديه نظرة واضحة المعالم للعالم، طوّرها على مدى سنوات من الدراسات المعمقة والرصينة للشؤون الدولية. قال أحد الدبلوماسيين الذين عملوا مع جونز حين كان قائداً للقوات الحليفة في أوروبا إنّه «لم يكن لديه أدنى اهتمام بالسياسة الخارجية». كان مهتماً فقط بالشؤون العسكرية، وحتى في هذا المجال لم يكن مبدعاً أو يتمتع بفضول فكري. سكاوكروفت كان متمكناً من وظيفته مستشاراً للأمن القومي، فهو طوعاً وبإخلاص كان يتحدث عن ريغان كرئيسه في العمل وكان منسّقاً فعّالاً للسياسات، احترمه ووثق به الجميع كوسيط نزيه. أما جونز، فبدأ يتكلم بالسوء عن أوباما في الحفلات التي دعي إليها منذ أشهر، ولم يعدّ نفسه موظفاً عند أحد. كذلك فإنه لم يستطع أن يكون قائداً بكل ما للكملة من معنى، فترأس اجتماعات دون أن يستطيع قيادة سير العمليات.
وبالطبع، حتى مع اعتباره المثال الذي يجب على كلّ مستشاري الأمن القومي التطلّع إليه، أحياناً يُقلّل من قدر سكاوكروفت. كان معسول اللسان ولطيفاً جداً لدرجة كان يبدو أنّ عمله شديد السهولة. رغم أنّ جزءاً من نجاحه يعود إلى هذه الصفات وكون فريقه كان متجانساً، لكنّ برينت سكاوكروفت رجل استثنائي. لم يعمل أي شخص حصل على هذه الوظيفة أكثر منه. لم يكن أحد أذكى منه. لم يكن أي شخص يمتلك رؤية للعالم أفضل وأكثر دقة منه، ومن ضمن هؤلاء حتى رئيس سكاوكروفت حين كان نائباً لمستشار الأمن القومي، أي هنري كيسينجر، ثاني أفضل شخص شغل هذا المنصب على الإطلاق.
اختير جونز لأنّه بدا، بشكل سطحي، من طينة سكاوكروفت نفسها، أو يحاكيه في ذلك. وبدا أنّ ذلك كان الشيء المنطقي ليفعله الرئيس. لكنّه اختار الرجل الخطأ. من أكثر الأسباب الخفية لنجاح سكاوكروفت هو أنّ رئيسه كان جورج بوش الأب. رئيس ذو باع طويل في السياسة الخارجية حين تسلّم منصبه، وكان يعرف ماذا يريد بالضبط من أي عملية سياسية. وباراك أوباما ليس جورج بوش الأب.
قلة خبرة الرئيس أوباما أثّرت على جونز أكثر من أيّ عجز لدى الجنرال
قلة خبرة الرئيس أثّرت على جونز أكثر من كلّ عجز لدى الجنرال. لم يكن يعرف ماذا يريد. تردد في أمور مهمة. برهن عن مشاكل أميركا المتكررة التي تحصل حين توظّف رجالاً لا يمتلكون خلفية في السياسات الدولية ليشغلوا أهم وظيفة دولية في العالم. إضافة إلى ذلك، لم يكن يعرف حقيقة عمل الرئاسة ليقضي في المهد على خلق أي مجموعات داخلية كتلك التي شوّشت على عمل السياسة الرسمية. شجع أوباما (أو سمح لوقت طويل ما بدا كأنّه تشجيع) مساعديه في الشؤون الخارجية في حملته الانتخابية على الاستمرار بتسليم التقارير مباشرة إليه. وأدى ذلك إلى بعض التجاهل الرسمي والسرّي لجونز، ما قوّض من سلطته بنحو كبير. لم يساعد أوباما في تقوية جونز، وزادت الطين بلّةً أوجه القصور الخاصة بالجنرال، إضافة إلى عدم وجود انسجام بينهما، فضلاً عن التعاون غير الفعّال الذي انتقده مسؤولو البيت الأبيض والسياسة الخارجية الكبار منذ الأشهر الأولى لوصول أوباما إلى الرئاسة.
في الحقيقة، ازداد الوضع سوءاً لدرجة أنّ جونز تعرّض للنقد أكثر من مرة من قبل دنيس مكدونو، كاتم أسرار أوباما. ومن المدهش كيف استمر في عمله كل هذه المدة. وقال لي مستشار أمن قومي سابق حين كنا نتناقش في أحد المواقف المعروفة لمكدونو التي انتقد فيها جونز إنّ «ذلك كان سيحصل مرة واحدة معي. كنت سأخيّرهم بيني وبينه». طرح ذلك السؤال الآتي: كيف سيعمل مجلس الأمن القومي تحت إمرة توم دونيلون، خليفة جونز؟ لا شك في أنّ دونيلون يبدأ بعلاقة أفضل بكثير مع أوباما (ومكدونو) ممّا حظي بها جونز. ولا شك في أنّه مستعد لأن يعدّ نفسه موظفاً عند الرئيس، كذلك فهو موهوب في العمليات السياسية. السؤال هو هل سيترك دمغته الخاصة أو سيكون توظيفه فقط لتنفيذ السياسات في وقتها، وتخفيف الجدل القائم والاختفاء في العمل؟
رغم كل ما يبدو، فإنّ هذا ليس نموذج سكاوكروفت أيضاً. هناك حاجة إلى وسيط نزيه. لكن هناك حاجة إلى رجال يتمتعون بفطنة وحكمة وأفكار جديدة، ويستطيعون، خلف الأبواب المغلقة، أن يقولوا للرئيس إنّه يجب أن يعيد النظر بمقاربة ما. كان سكاوكروفت معلماً في هذا الأمر. لا يحتاج مستشارو الأمن القومي إلى أن يكونوا متحدثين باسم أحد، ولدى أوباما متحدث مهم باسمه في السياسة الخارجية هو وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون (التي ستكون أقوى اليوم بسبب مكانتها عند دونيلون). كذلك يجب ألّا يكون مستشارو الأمن القومي رُسُل سياسة خارجية، رغم أن سكاوكروفت كان كذلك في بعض الأحيان، ويبدو أنّ دونيلون تمرّن على هذه المهمة في رحلته الأخيرة إلى الصين مع لاري سامرز.
لكنّهم يحتاجون إلى أن يكونوا أكثر من معقّبي معاملات أو بيروقراطيّين.
وحتى لو أنّ دونيلون لم يفعل من قبل أي شيء يوحي بأنّه خارق في السياسات أو شخص يمكن أن يقف في مواجهة أي رئيس، فإنّ هذا لا يؤكد أنّه لن يستطيع النجاح. مقارنةً مع جونز، يتمتع ببضع نقاط لمصلحته تمكّنه من أن يبدأ جدّياً. لكن هناك بعض الأسئلة التي لا إجابات عنها بشأنه، وبشأن أوباما. فهل تعلّم الرئيس ما يكفي من خبرته مع جونز كي يكون رئيساً يساعد مستشاره للأمن القومي كي ينجح؟ أعرف أنّه سيكون هناك من يجادل في أنّ كوندي رايس كانت أسوأ. بالطبع، فإنّ بعض سياسات بوش كانت أسوأ. لكن كمستشارة مقرّبة من رئيسها، وكشخص سعى إلى أداء دور منسّق سياسات ملتزم، فهي تحصل على نقاط أعلى. على الأقل، كانت مستشارة الأمن القومي التي أرادها رئيسها.
* عن مجلة «فورين بوليسي»

نهاية «يد الحديد»

مارك آمبايندر *
هناك ثلاثة أسباب تشرح اختيار الرئيس أوباما لنائب مستشار الأمن القومي توم دونيلون ليحل مكان الجنرال جيم جونز. السبب الأول هو أنّ دونيلون ملتزم سياسياً ووفيّ للرئيس، وشارك في كل أوجه السياسة الخارجية منذ بداية عهد هذه الإدارة. ثانياً، لأنّه داهية سياسي ديموقراطي. ثالثاً، هو مستشار يستطيع الرئيس الاعتماد عليه في الوقوف بوجه الجيش والتصدي لهذه المؤسسة حين يكون ذلك ضرورياً.
كانت الفكرة الشائعة عن جونز أنّه غير حاسم أحياناً، إلى درجة أنّ بعض زملائه كانوا يطلقون النكات على اسمه من أيام عمله في الخدمة السرية، وهو «يد الحديد».
لكنّ جونز، قائد البحرية السابق، كان ملتزماً بطريقة عمل الجهاز الذي ترأسه، وبنية موظفي الأمن القومي التي ساعد على إنشائها. كان هذا مقصوداً من جانبه، فقد آمن بأنّ مسار صناعة السياسات كان «من القرن العشرين» (بكلماته هو)، وأنّه ملتزم بالمسار الجديد الذي ساعد على خلقه، وهو مسار عزز قضايا مثل الأمن المعلوماتي والتغيّر المناخي على حساب قضايا كان موظفو الأمن القومي يصارعون من أجلها يوميّاً. اختار أوباما جونز جزئياً بناءً على توصية من برينت سكاوكروفت، مستشار الأمن القومي لدى الرئيس جورج بوش الأب. وهو قال لأوباما إنّ جونز سيخدم كوسيط نزيه وسيساعد الرئيس على الإبحار بسهولة في العلاقات المدنية ـــــ العسكرية خلال وقت محرج تخاض فيه حربان. كان على جونز أن يكتشف بدايةً كيفية التعاطي مع خليط من المساعدين السياسيين الذين يعرفون الرئيس أفضل منه، ويستطيعون إيصال صوته. وهذا أدى إلى توتر استمر إلى يومنا هذا بدرجة أو بأخرى.
يشيد زملاء جونز في البيت الأبيض به وبوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على نجاحهما في «إعادة الاصطفاف الروسي»، الذي أنتج قراراً روسياً بالوقوف إلى جانب واشنطن في العقوبات على إيران، وإعادة الأموال التي دفعتها طهران لموسكو لشراء صواريخ إس ـــــ 300 (التي لن تتلقاها طهران اليوم). ويقول أحد المساعدين إنّه بدون جونز لم يكن سيجري التوصل إلى اتفاقية «ستارت» جديدة.
كان من المفترض بجونز أن يساعد أوباما على تخطي العلاقات المدنية ـــ العسكرية الشائكة
إذا كان كتاب بوب ودوورد الجديد «حروب أوباما» صادقاً، فهناك أمران صحيحان: الأول أنّ جونز الذي تودد بداية لدونيلون احتاط لاحقاً من الرجل الذي سيحل مكانه. والثاني أنّ وزير الدفاع روبرت غيتز لا ينظر بعين الرضى إلى وظيفة دونيلون الجديدة (قال غيتز منذ أيام إنّه يتمتع بعلاقة عمل «جيدة» مع دونيلون «رغم كلّ ما قرأتموه»).
وقال مسؤول دفاعي كبير إنّ «التوصيف الوارد في كتاب وودوورد قديم جداً ولا يعكس الوضع الحالي للعلاقة». وأضاف المسؤول «إنّهما عانا من بعض القضايا وقت مراجعة السياسة في باكستان وأفغانستان، لكن حُلت هذه الأمور وتخطياها منذ زمن، وهما على علاقة عمل جدية منذ شهور عديدة». وقال المسؤول إنّ ترقية دونيلون لا تؤثر في المهلة التي وضعها غيتز لنفسه لترك البنتاغون.
في تصريح نشر منذ أيام، قال غيتز إنّ «توم يأتي إلى هذه الوظيفة ومعه ثروة من الخبرة، وخصوصاً من منصبه الحالي كنائب لمستشار الأمن القومي. وأنا أستطيع أن أتكلم عن خبرة أنّ توم كان يشغل إحدى أصعب الوظائف في واشنطن وقام بها على أتم وجه».
«نبرة» دونيلون كانت قد أزعجت رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايكل مولن، الذي لم يعجبه «تدخل» مستشار الأمن القومي الجديد في قضايا دفاعية بحتة. هناك مسؤول في البنتاغون ممن شاركوا في أول مراجعة للسياسة في أفغانستان ومقرب من بعض الجنرالات والأدميرالات الكبار، وهو يصف الوضع بشكل أدق وأوضح، إذ يقول: «الجيش يكره هذا الرجل».
ويقول مسؤول كبير في الإدارة إنّ جونز ودونيلون «تربطهما علاقة مهنية أفضل مما يبدو في كتاب ودوورد»، ما يعني في المبدأ، أنّه كان يمكن لهذه العلاقة أن تكون أفضل، لكنّها لم تكن سيئة إلى هذا الحد.
علاقة دونيلون جيدة مع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، التي قالت إنّ أوباما قام بخيار «حكيم» في اختياره.
في الأشهر المقبلة، سيمارس أوباما الحكم مع تغييرات كبيرة في فريق السياسة الخارجية الخاص به. فعدا أنّ غيتز قال إنّه لن يبقى موجوداً إلى الأبد، ستنتهي ولاية مولن كرئيس لهيئة الأركان المشتركة، وكذلك ولاية نائبه الجنرال جيمس كارترايت، الذي يتمتع بعلاقة جيدة مع الرئيس وفريقه. هناك مناصب أخرى مهمة يجب ملؤها، وهي رئيس العمليات البحرية، رئيس أركان الجيش، والقائد الأعلى للقوات الأرضية المشتركة الخاصة، وهي تعدّ الجيش الوطني المختص بمكافحة الإرهاب. في كانون أول، تنوي الإدارة تقويم الاستراتيجية الأفغانية، وفي تشرين الثاني سيقوم أوباما برحلة تدوم عشرة أيام إلى آسيا.
أخبر جونز الرئيس أنّه ينوي الرحيل خلال الفصل الأخير من 2010. بعد استقالة راحم إيمانويل من منصبه كرئيس لموظفي البيت الأبيض، قرر أوباما أنّه «مع التطلع إلى المستقبل، من الأفضل إعداد فريق جديد منذ اليوم، والتوجه إلى الرحلة الآسيوية والمراجعة بوجوه جديدة»، كما قال مسؤول كبير في الإدارة.
يتشارك دونيلون مع الرئيس في نفاد صبره من البطء في نشر القوات الإضافية في أفغانستان، كما يشاركه عزمه على عدم الغرق في انسحاب يدوم سنوات، سيحل مكان الوجود التقليدي للجنود في حضور دائم شبه عسكري.
هو أصلاً يحضر الاجتماعات الاستخبارية اليومية، ويفسر للرئيس السياسات المعتمدة لاستيعاب والرد على شبكة التهديدات اليومية للأمن القومي. هو يرأس اجتماعات المساعدين حين تحضر القضايا التي يجب على الرئيس أن يتخذ قرارات فيها. وكان عدائياً في توسيع صلاحية هذه الاجتماعات، ولا توجد قضية لا تحمل بشكل أو بآخر بصمات دونيلون.
كان دونيلون المرجع في مجلس الأمن القومي بخصوص إيران، معتمداً على السياسات الدبلوماسية، العسكرية والاستخبارية. هو فعلياً نائب للوزيرة كلينتون في موضوع إدارة الدفع الجديد التي تنتهجها الإدارة تجاه السلام في الشرق الأوسط. وأصبح ناشطاً في إدارة العلاقات العسكرية والاقتصادية المعقّدة التي تجمع الإدارة بالدول الآسيوية.
يقول أحد المستشارين في وزارة الخارجية إنّ «دونيلون كفؤ جداً، وهو رجل يعرف كيف يتعامل مع البيروقراطية لإنجاز الأمور. لكنّه لن يكون من مبتكري الأفكار الكبرى لأوباما. وسيكون على الرئيس أن يفتش في مكان آخر إذا كان يريد ذلك».
* عن مجلة «ذا أتلانتيك»