سعد الله مزرعاني*من العراق، وقبله فلسطين، إلى لبنان والصومال والسودان واليمن... تتلاحق وتتراكم الأزمات وتتصاعد التوترات، وتتعقد وتستعصي المعالجات والحلول. وما يحدث الآن من «حركة» تبدو كما يعبّر القول الشعبي، «بلا بركة». بل إنّ هذه الحركة التي تتمثّل في عقد قمم ولقاءات عربية وعربية – أفريقية، وكذلك في تنظيم اجتماعات ونشاطات بعضها ذو طابع ديني (سينودس الفاتيكان)، تشير إلى العجز أكثر مما تبشر بتلمّس الحلول، وتكرّس مسار تعميق المشكلات والأزمات أكثر ممّا تعد بتحقيق خطوة على طريق الألف ميل للتعامل السليم معها.
في مجرى هذا المسار السلبي والعاجز والخامل، تجترّ الأفكار والمواقف والمناورات والشعارات، ودائماً تكون النتيجة، على طريقة «تمخض الجبل فولد فأراً». ولعلّ أكثر ما يبعث على الأسى أن تسقط قوى وشعارات وأحلام في هذا الخضمّ. وأن تنضمّ «القوى الجديدة» إلى القوى القديمة في تكريس واقع الفشل والعجز، وفي تقديم المصالح الخاصة والفئوية على المصالح العامة والأساسية. ولقد انطوى في سياق ذلك وأفل وعد تلك القوى الجديدة «القومية» أو «الثورية» أو «الوطنية» أو «اليسارية»، في أن تقدّم للأمة ولشعوبها، ما تصبو إليه من مقوّمات القوة والتوحّد والدفاع عن الحقوق والأرض والثروات، فضلاً عن حرية المواطن وحقوقه الأوّلية التي كرّستها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، لكنّها بقيت حبراً على ورق.
نقطة الخلل القاتلة في محصّلات الوضع الراهن، هي ترسّخ واقع التبعية التي أصبحت معادلة شبه قدرية تملي إيقاعها على العلاقات والتوازنات والمسارات. وفي ظلّ هذه المعادلة ضاعت قبل أكثر من ستة عقود فلسطين وشُرّد شعبها. كذلك جرى قبل أكثر من خمس سنوات احتلال، العراق وقبله أفغانستان، من دون أن ننسى غزو إسرائيل للبنان عام 1982... وتترنّح الآن، قبل سقوط وانقسام محتملين، دول مثل السودان واليمن والصومال والعراق ولبنان... من دون أن يعني ذلك أنّ بقية الدول محصّنة حيال عوامل التشرذم والنزاعات الداخلية أو الحدودية، وحيال أشكال أخرى من الانقسامات ذات الطابع السياسي أو المذهبي أو الطائفي.
ولم تكتفِ بلدان الإنتربول الاستعماري – الإمبريالي بهذا القدر من الهيمنة والعدوان والنهب، بل إنّ كبيرتها، الولايات المتحدة الأميركية، قد حاولت المزيد من الهيمنة عبر مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، وهي استخدمت من أجل ذلك كلّ وسائل القوة والغزو والاحتلال، فضلاً عن كلّ أشكال الضغوط السياسية والاقتصادية، وكلّ أشكال التدخل الأخرى التي يستخدم فيها الإعلام وتسخّر المؤسسات الدولية...
ورغم بعض المقاومة السياسية والشعبية لمشاريع السيطرة والإلحاق والنهب والعدوان المذكورة، ورغم مساهمات متضرّرين في مواقع السلطة في هذا البلد أو ذاك... بل ورغم بعض اللمعات التحرّرية التي جسّدها الرئيس والقائد الكبير جمال عبد الناصر... رغم كلّ ذلك، بقي الهمّ العربي والشرق أوسطي الشامل يتيماً يفتقر إلى الحامل والحاضن والمؤسسات والأدوات والبرامج والآليات...
وليس أدلّ على هذا الواقع الأليم في مرحلتنا الراهنة، ممّا حصل، قبل أيام، في القمّتين العربية والعربية – الإسلامية، في مدينة سرت الليبية. فالقمة العربية التي ترزح أغلبية شعوب بلدانها تحت وطأة مشاكل استثنائية، فضلاً عن «القضايا المركزية» المزمنة والمستعصية، قد عجزت عن اتخاذ قرار واحد يبرّر الوقت والمال والجهد الذي تطلّبه انعقادها! والأسوأ، أنّها تكرّس واقع الفشل والعجز والخواء، واستهلاك الشعارات، وترسيخ اليأس، بحيث يصبح السعي للتغيير مغامرة لا يحاولها إلا مجنون أو منافق أو مشبوه أو مغرض!
وفي مجرى ذلك، تفرّغ تكراراً، الشعارات من محتواها ومن وظيفتها، لتبقى فقط أداة للمزيد من خداع الناس، وسبيلاً إلى القرف من الشعارات نفسها لمصلحة التسليم بواقع التبعية والارتهان والسيطرة الأجنبية. ولعلّ في بعض ما ورد في كلام رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيّد محمود عباس ما يلخّص هذا الواقع المأساوي في أقسى، بل وأبشع صورة. قال عباس مخاطباً نظراءه من القادة العرب: «لا نستطيع أن نحارب ولا نريد أن يحارب أحد باسمنا». إنّ هذه العبارة التي تلخّص في جانب منها خياراً سياسياً لصاحبها، هي قبل ذلك، محصّلة حزينة لمرحلة تاريخية كاملة من التخلي عن الشعب الفلسطيني، ومن تآمر جهات رسمية عربية على قضيته. فلقد بذل الشعب الفلسطيني ما هو فوق الطاقة، من البطولات والتضحيات، لكنه اصطدم بأعداء متكتلين مثّلوا للصهاينة ظهيراً وداعماً بكلّ الوسائل ومن دون حدود. فيما كان الموقف العربي يكرّر شعارات جوفاء من مثل مركزية القضية الفلسطينية وأولوية فلسطين وحقوق شعبها. أما في السر، وفي الحقيقة، فكان هؤلاء شريكاً متآمراً أو متواطئاً مع الصهاينة وحماتهم، ضدّ الشعب الفلسطيني وحقوقه وكفاحه وتضحياته وعذاباته.
وليس بعيداً عن خلاصات الرئيس الفلسطيني، المأسوية بكلّ ما في الكلمة من معنى، ما يجري في «سينودس» الفاتيكان، من تعبير عن المعاناة الخاصة للمسيحيين في البلدان العربية، وعما يشعرون به من «القلق الوجودي»، بسبب عدوان إسرائيل والهجرة والحروب والغزو والتعصّب والأزمات السياسية والاقتصادية كما لاحظ الأب ميشال سبع.
باختصار، في فلسطين والعراق والسودان واليمن والصومال... تتراكم وتتفاقم وتتناسل المشاكل والأزمات لسببين أساسيين: الأطماع الخارجية الاستعمارية والصهيونية من جهة، وغياب استراتيجيات ومنظومات الدفاع والحماية والأمن الذاتية، من جهة ثانية.
لا ينفي هذا المشهد السلبي العام وجود حالات اعتراض محدودة أو جزئية، في هذا الموقع أو البلد أو الحقل أو ذاك. واليوم إذ يبرز الفراغ الذي نجم عن «تعثّر مشروع الشرق الأوسط الجديد» الأميركي، تسارع قوى عديدة إلى ملء هذا الفراغ جزئياً أو كلياً، في مسألة من المسائل أو في منطقة من المناطق. هذه هي حال إسرائيل التي تقفز إلى مرحلة جديدة من العدوان على فلسطين وشعبها وتاريخها ومقدساتها، عبر إصرارها، رسمياً، على إضفاء طابع عنصري على دولتها. وهذه هي حال تركيا التي تسعى إلى اعتماد سياسات وبناء علاقات، تعزز حضورها ومصالحها على المستوى الإقليمي. وهذا أيضًا هو وضع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في دأبها على الدفاع عن نظامها ومصالحها عبر منظومة من التوجهات ذات الطابع الديني أو السياسي أو الأمني أو الاقتصادي.

نقطة الخلل القاتلة في محصّلات الوضع الراهن هي ترسّخ واقع التبعية
إلا الحكام العرب. إنّهم قانعون بما توفر لهم من نصيب في السلطة والنفوذ، يتخلون من أجل استمراره عن سيادة وكرامة ومصالح بلادهم وشعوبهم، ويعتمدون كلّ الوسائل والأساليب الدموية والقمعية، من أجل عدم تهديده من الداخل.
يطرح كلّ ذلك، كمسألة أولى، مواجهة الهيمنة الخارجية. ولا بدّ لهذا الأمر من ثقافة قومية جديدة، واضحة في استهدافها التحرّري السياسي والاقتصادي. وهي يجب أن تستنفر، وبكلّ الوسائل المناسبة، قدرات الأمة وطاقاتها المادية والروحية والثقافية والإنسانية والحضارية... ويتصل بذلك، ضرورة كشف فئة المستفيدين التابعين من الحكام ومن أصحاب المصالح ومواجهتهم. فهؤلاء هم حراس هذا الواقع المرير، وهم المستفيدون من إدارته، بهدف استمرار سلطاتهم ونفوذهم ومصالحهم وأنظمتهم التي بنوها بالقمع والإرهاب والمناورات والشعارات والتبعية والالتحاق...
هل هذا هدف تنهض به «الجامعة العربية» في صيغتها الراهنة، أم في صيغة جديدة معدّلة، أم في اسمٍ أكثر قدرة على الإيهام والخداع والتأجيل! المسألة تكمن في العودة إلى البدايات: إلى مرحلة المشاريع القومية والتقدّمية التي يجب أن تطلقها قوى وفئات شعبية واسعة ومتضرّرة. هذه هي وظيفة القوى الحية التي لم يعد بإمكانها التغني بأمجاد الماضي وشعاراته، بل عليها «التشمير» عن السواعد والانطلاق في ورش عمل شعبية واسعة لتدشين مرحلة نهوض تحرّري عربي جديدة!
* كاتب وسياسي لبناني