وائل عبد الفتاحالأجنحة الناعمة أعلنت في مصر «ثورة تصحيح» ضد الميديا، ولم تفرّق بين صحيفة كسرت تابوهات السياسة، وقناة فضائية تتاجر بالصكوك الدينية. بدت الثورة كأنها «تنظيم» للفوضى، بينما هي إعادة سيطرة وإنهاء لعقود «عرفية» منحت الميديا فرصتها للحركة خارج قبضة الدولة. حركة فوارة، لكنها لم تصنع كيانات تقف في وجه البيروقراطية، سلاح النظام الفتاك، أو تتفادى ألعاب معارضة تربت في مزارع النظام، ووفق مشيئته.
البيروقراطية، ومعارضة مهجّنة حسب المواصفات الرسمية، هما أقوى الأجنحة الناعمة التي تتحرك الآن لتفرش الأرض أمام تحولات سياسية غامضة.
يبتسم نظام مبارك، أو يكاد، شاعراً بالزهو من إمكانات ذاتيه تجعله يؤدي أدواراً خطرة في المنطقة، بينما يخوض واحدة من أعنف حروبه في السيطرة على الجبهة الداخلية.
الرئيس سعد الحريري شُحن في القاهرة، وبدت زيارته دعماً معنوياً في مواجهة شحنات زيارة أحمدي نجاد الى بيروت. القاهرة تعيد تقديم أوراق اعتمادها كبطل المنطقة القديم في مواجهة «الوحش الإيراني»، في وقت راهن فيه الجميع على أن شيخوخة نظام مبارك قد تمنحه إجازة طويلة.
لكنه يعود إلى اللعب، ويتجاوز شيخوخته، ويوزع الشحنات على حلفاء المنطقة، ويعلن أنه مع «المحكمة» إلى آخر المدى، بينما في اللحظة نفسها يحمي حليفاً آخر في الخرطوم بعنوان «ضد المحكمة» على طول الخط.
اللعب تحت الطلب الدولي، ومن دون حزم أفكار، هو رهان نظام مبارك، الذي يمتلك مهارات لا يمكن إنكارها، تجعله يخرج أجنحته الناعمة لتحمي خطة التدجين الديموقراطي.
الديموقراطية مطاطة إلى درجة أنها تأكل المعارضة، وتبتلع أطرافها المنفلتة، وحملات البيروقراطية تبث الفزع، وتصور للمتفرج من بعيد أن كل كيانات المعارضة كرتونية، سيدوسها فيل النظام بقدم واحدة، وخصوصاً أنها معارضة فضاء، لا أرض واقعية، كما يبدو من بعيد.
الأجنحة الناعمة بقوانين خارجة من إضبارات البيروقراطية، أغلقت قنوات وصحفاً، وقررت أن تراقب الرسائل الإخبارية على الهواتف المحمولة. لم يعد متاحاً توزيع أخبار أو دعايات سياسية إلا بتصريح من أجهزة الدولة، وتحت رقابة «الشركات الوسيطة».
يد النظام نظيفة، لا تلوث بالرقابة، إنها شركات، وستطبق القانون، كما أن الإنذار الذي وجهته شركة «نايل سات» الى قنوات دينية وصحية بالإغلاق، من أجل التنظيم ومراعاة «ميثاق الشرف» الإعلامي، وحماية «حرية» الإعلام من الفوضى المبتذلة، خطة لا بد من تدريسها في مناهج حكم الشعوب، حيث تترك الدولة حرية الخطأ والخروج على القانون، لتتورط الأطراف جميعاً في اختراق القانون، ولا تجري المحاسبة إلا بمزاج موظف كبير قرر فجأةً الدفاع عن القانون.
هذه هي الحملة الجديدة من حملات التدجين الديموقراطي، والاستبداد بالقانون، من دون معتقلات أو دماء، أو تحرك علني واحد لأجهزة الأمن.
يبدو الحضور القانوني للكيانات الإعلامية والسياسية في مصر، بين العرف والقانون، مثل سيارة تقف في الممنوع ويتركها ضابط المرور، بمزاجه، ليتورط صاحبها في رشوة العسكري، وفي لحظة يرفعها «الونش» بالقانون.
هذه طريقة في الاستبداد الناعم، يتميز بها نظام مبارك، يستخدم القانون للتحايل، والأمن لبث الرعب، وحرية الإعلام لتوظيف الإعلام.
ربيع الديموقراطية يختفي، بعدما تحول الإعلام الى المنصة الرئيسية للسياسة، وإلى مسرح للسجال بين التيارات، وشارع افتراضي تحوّل معه المذيعون والصحافيون إلى زعماء سياسيين، والسياسة الى استعراض، وهذا منح قوة في يد النظام المتحكمة في قوانين البث وحياة شركات الفضاء وموتها.
الميديا لم تعد ساحة تعبير، أو متابعة، بل أصبحت «الساحة» الوحيدة تقريباً للعمل السياسي. يد النظام قادرة على إغلاق المفاتيح، وبث الرعب في القلوب، ومنع الماء والهواء عن الفضاء، لتتحول في لحظات منصات الإعلام من ترويج خطاب الاحتجاج الى ترويض الخطاب ذاته.
الترويج كان سر نجاح الميديا، والترويض هو حربها من أجل البقاء. وكما كان من السهل تدجين أحزاب وضعت استمرار مقارّها مفتوحة، في مواجهة ضرورة البقاء، ودخلت في صفقات، و«تربيطات» حولتها إلى «غرفة الكراكيب» الملحقة بالنظام، تبدو الميديا في الطريق إلى أن تصبح غرفة صدى صوت لخطاب النظام، لأن رأس المال المستثمر في الإعلام «تأجير» من الدولة لا «ملك» أو نتيجة صناعة حقيقية. رأسمال نتيجة منح مفتوحة تستردها الدولة وقتما أرادت وبطرق فاضحة. ولأن رأس المال في هذه الحالة أكثر جبناً من المعتاد، فإن الطريق الى ثورة التصحيح مفتوح... مفتوح.