«مشكلة» الحراك الحالي ضدّ السلطة في لبنان أنه متعدّد، وتعدّديته ليست من النوع الذي يتيح المجال لمناورات حقيقية تجاه السلطة. فإلى جانب حركة «طلعت ريحتكم» التي تتّسم بالمحافظة الشديدة وتتجنّب الدعوة إلى تجريم أداء السلطة بشكل مطلق توجد حركات أخرى لا يهمّها أن تكون لائقة سياسياً. وتفضّل هذه الحركات – وعلى رأسها «بدنا نحاسب» القريبة جداً من اتحاد الشباب الديمقراطي - بدلاً من هذه اللياقة الزائدة الاشتباك مباشرةً مع السلطة وتركها تجرّب احتواء الآخرين الذين قبلوا بسقف أقلّ من سقف «إسقاطها»، أو على الأقلّ «دعوتها إلى الاستقالة».
في البداية استفاد الحراك من التكتيكات التي اعتمدتها حركة «طلعت ريحتكن» لاستقطاب جمهور الطبقة الوسطى في لبنان، حيث اعتمدت شعاراتها على تجزئة المطالب ونزع الصفة السياسية عنها، وهو سلوك يلائم تماماً الحسّ المحافظ الذي تملكه الطبقة الوسطى في لبنان والمنطقة عموماً، وتخشى من تجاوزه لمصلحة حساسيات أخرى تعتبرها خاصّة بالفقراء والطبقات المهمّشة. ساعد ذلك في تكوين نواة أولى للحراك من الناشطين المنتمين بمعظمهم إلى منظّمات «المجتمع المدني» والبعيدين عن التسييس بمعناه الحركي، وهؤلاء استطاعوا بفعل خطابهم البعيد عن السياسة أو المنعزل عنها كبنية اجتماعية حركية استقطاب تكوينات اجتماعية تشبههم وتخشى مثلهم من فكرة الصدام العنيف مع السلطة. وهذا يشبه بالضبط ما حصل في ميدان التحرير في مصر حين نزلت «مجموعات سياسية» لا تؤمن كثيراً بالتنظيم الاجتماعي الذي تمثّله الأحزاب للاعتراض على أداء السلطة في عيدها أو في عيد ذراعها الشُرطي.

في البداية استفاد
الحراك من التكتيكات التي اعتمدتها «طلعت ريحتكن»

وهو فعل يبدو سياسياً في الظاهر، ولكنه في الحقيقة يعتمد على مطالب جزئية متحاشياً قدر الإمكان الصدام المباشر مع السلطة. هذه المجموعات في مصر وفي لبنان لا يمكن الاعتماد عليها حينما يتطوّر الاحتجاج ويتحوّل إلى «صدام مفتوح مع السلطة»، فهي كما قلنا محافظة سياسياً ولا تؤمن إلا بفكرة المطالب الجزئية، بدليل أنها ترتبك بمجرّد حصول الاصطدام مع السلطة ولا تعود قادرة على فعل شيء، فتفقد ليس فقط القدرة على التنظيم والاستقطاب، وهي الميزة الوحيدة التي تتمتع بها، بل أيضاً الرغبة في حماية من دعتهم للتظاهر من خارج دائرتها المباشرة. بهذا المعنى تنحصر وظيفتها الأساسية في مباشرة الاحتجاج أو الدعوة إليه وهو ما قامت به «طلعت ريحتكم» على أكمل وجه، ليصبح هذا الأخير لاحقاً ملكاً لكلّ الطبقات الاجتماعية التي قبلت الدعوة ونزلت إلى الشارع، وليس فقط لمنظمي الدعوة الذين «انتهت مهمّتهم» عملياً وأصبح تأثيرهم مساوياً لتأثير باقي المجموعات السياسية، هذا إن لم يكن أقلّ بكثير.
وفي الحالة اللبنانية فإنّ هذا التطوّر سمح ليس فقط بتوسيع الاحتجاج بل أيضاً بتجذيره على المستوى الاجتماعي والطبقي، إذ لم يكن الخطاب الذي سبق انضمام حركة «بدنا نحاسب» إلى الحراك راغباً في استيعاب المجموعات المعبّرة عن الهامش الاجتماعي في بيروت، وكان تعامله معها يتسم بتمييز شديد على المستوى الطبقي، وهو ليس بالأداء الشاذّ والاستثنائي على فكرة بقدر ما هو تعبير أمين وحقيقي عن الحراك الذي تعبّر عنه نخب الطبقة الوسطى حين تريد «التظاهر» بأنها تتظاهر أو تحتجّ. التعدّدية لا تعود مفيدة هنا، فالاحتجاج لم يبدأ بأكثر من حركة، ولن يستمرّ أيضاً في ضوء وجود كلّ هذه المجموعات التي تشرف على تنظيمه، وخصوصاً أنها لا تتّفق في الرؤية السياسية والاجتماعية المرجوّة منه، لا بل يصل بعضها إلى حدّ التضارب الكامل في الرؤية كما رأينا حينما حصل الخلاف بين الليبراليين واليساريين حول دور المهمّشين داخل الحراك. وحصول التصحيح لاحقاً لا يعني أنّ الخلاف قد انتهى بل ربما يتفاقم حينما تبدأ مرحلة «الصدام الفعلي مع السلطة»، وتشرع كلّ طبقة في محاولة التمايز عن الطبقات الأخرى كما يحصل في كلّ الانتفاضات أو «الثورات». المشكلة أيضاً أن الخطاب اليساري نفسه ليس راغباً في حصول فرز طبقي كامل، و»هذا حقّه» لأن الصدام في هذه الحالة سيعني جرّ المجتمع إلى «حرب» طويلة الأمد مع السلطة كما حصل في مصر. وقد لا تكون هذه «الحرب» مضمونة العواقب في ظلّ انهيار هياكل السلطة وعدم وجود برلمان أو رئيس جمهورية يمثّلان على الأقلّ رمزية الدولة التي يخشى الناس من «زوالها»، وهو ما يفسّر على الأرجح بعض «التراجعات» التي حصلت عقب يوم الثلاثاء الماضي. والتراجع هنا ليس في الموقف من السلطة بل في الأعداد التي أبدت خشيتها الواضحة من العنف، ورغبتها في الحفاظ على الطابع السلمي للاحتجاج، وهو كما قلنا سلوك محافظ سياسياً ولكنه يعبّر عن «أكثرية» شعبية تخشى على المجتمع ولا تريد له أن ينجرّ إلى صدام مفتوح مع السلطة كما حدث في باقي الانتفاضات العربية التي انتهت إلى مصير مأساوي.
بهذا المعنى فإنّ يوم السبت (كون المقالة كتبت قبل التظاهرة) سيكون اختباراً جدّياً لمدى قدرة الحركات المنظّمة للاحتجاج وبالتحديد اليسارية منها على تبديد الهواجس التي تملكها «أكثرية معينة» من اللبنانيين تجاه الحالات العنفية التي يقودها المهمّشون. وهي حالات لا يمكن اعتبارها «أعمال شغب» بالمعنى السائد، غير أنها اعتُبرت كذلك في لبنان بفعل سطوة الخطاب المهيمن وقدرته على التلاعب بحساسيات طبقية تمتلكها شريحة لا بأس بها من اللبنانيين. هذه الشريحة سيتظاهر جزءٌ كبيرٌ منها يوم السبت بفعل التصحيح الذي قامت به حركة «بدنا نحاسب»، والى جانبها سيوجد المهمّشون الذين يعبّرون بخلافها عن سخط حقيقي وواضح تجاه السلطة. والتحدّي هنا يكمن في صمود التصحيح الذي قام به الشيوعيون أمام الاشتباك الذي قد يحدث في أيّ لحظة بين السلطة والمهمّشين، إذ لا يُعقَل أن تقوم فئةٌ من المحتجّين بالاشتباك مع السلطة بينما الفئة الأخرى تدين هذا الفعل أو لا تبدي تضامناً معه في أقلّ تقدير.
هذا جزء فحسب من المشهد، وقد لا يحدث أصلاً ولكنه يعطي فكرةً سواء حصل أم لم يحصل عن طبيعة الفعل الاحتجاجي ومدى اقترابه من الصورة التي تكوّنت لدينا جرّاء التراكمات السابقة عن «التغيير» وممكناته الاجتماعية. وسأذكّر بأن هذه الممكنات ليست خاصّة بالمجتمع اللبناني وحده رغم انه يمتلك بالفعل «خصوصية» تميّزه عن سواه، وهذه «الخصوصية» قد تكون هي المفتاح لنجاح التجربة أو فشلها.
* كاتب سوري