نشرت «الأخبار» أمس الحلقة الأولى من قراءة الدكتور ألبر داغر لكتاب «تفكّك أوصال الدولة في لبنان 1967 ـــ 1976» للدكتور فريد الخازن. وقد تناول داغر مديح النظام الطائفي الذي يملأ دفّتي الكتاب، وانتقد الدفاع الذي يتولّاه الخازن عن التجربة الاجتماعية ـــ الاقتصادية في لبنان ما قبل الحرب. هنا حلقة ثانية وأخيرة
ألبر داغر*
سادت كتابات أكاديمية منذ ما قبل الحرب الأهلية استخدمها مثقفون لبنانيون لتسويغ التطبيع مع القوى التي افتعلت هذه الحرب. ولعل أسوأ هذه النظريات هي تلك العائدة إلى ليبهارت (Lijphart، 1977) التي أمكن استخدامها لإعطاء المتحكّمين بالطوائف اللبنانية شرعية بصفتهم ناطقين باسم هذه الطوائف. وذلك انطلاقاً من قراءة للطوائف على أنها فئات اجتماعية ذات خصائص ثابتة تميزها عن غيرها لا تحول ولا تزول (Primordialist View). وجرى سحب مفاهيم على الواقع اللبناني، أهمها مفهوم الديموقراطية التوافقية (Consocional democracy) ، بهدف تشريع سلطة النخب الطوائفية ونخب الحرب.
وأسبغت كتابات أخرى خلال الثمانينات، من مثل تلك العائدة الى هورويتز (Horowitz، 1985) شرعية على هذا النوع من النخب، بحجة أن الطوائف تتعرّض لمخاطر من خارجها، وأن هذا ما يبرّر النزاعات التي تخوضها مع هذا الخارج.
وأعطى عقد التسعينات الذي امتلأ بالحروب الأهلية والمذابح الواسعة النطاق دفعاً للكتابات التي اهتمت بتفسير هذه الظاهرة. وأظهرت هذه القراءات أن المسؤولية الأولى في الحروب الأهلية الوحشية تقع على النخب السياسية التي تعمد إلى بناء هويات على قاعدة العداء للآخرين (Antagonistic Ethnic Identities) لتوفّر لنفسها الدعم السياسي الذي تحتاج له. وأظهرت قراءة هذه التجارب (D. Laitin, J. Fearon، 2000) أن الصراع بين المتطرِّفين والمعتدلين داخل الطائفة أو الإثنية نفسها، هو الذي يدفع المتطرِّفين إلى افتعال العنف الأهلي، أي العنف مع الإثنيات أو الطوائف الأخرى، لسحب البساط من تحت أرجل المعتدلين واحتكار السلطة على مستوى الطائفة أو الإثنية.

مسؤوليّة الحروب الأهلية تقع على النخب السياسية التي تعمد إلى بناء هويات على قاعدة العداء للآخرين

وتسمّى الحروب «تمويهية» (Diversionary war)، حين تتولى النخب السياسية افتعال الفتنة، أي العنف الطائفي أو المذهبي أو الإثني، لبناء الدعم الذي تحتاج له. وهو موضوع غطّته أقدم الأدبيات في ميدان العلاقات الدولية، لكن بشكل محدود. وعوّض التجديد في حقل النظرية نقصاً على هذا الصعيد. ولعل لبنان في تجربته الحديثة كان من بين أكثر ضحايا هذا النوع من الحروب.
وأخذت المقاربة النظرية للعلاقة بين بناء الهوية الإثنية أو الطائفية وبين العنف الإثني أو الطائفي، أربعة عوامل في الحسبان:
1) يمثّل الواقع الاجتماعي والاقتصادي القائم الإطار العام الذي يوفّر شروط انبثاق العنف الطائفي؛
2) تتحمّل مسؤولية اندلاع العنف القوى والأحزاب السياسية التي تحمل خطاباً يعمل على تظهير الاختلاف وتعميقه داخل المجتمع (Discursive Formations)؛
3) تتولّى النخب السياسية أداء دور مباشر في افتعال العنف حين تلجأ إلى إقناع الجمهور باعتقادات خاطئة، وتدفعه للخوض في أعمال العنف؛
4) يسهم الجمهور نفسه (On the Ground) بعملية بناء الهوية على قاعدة الاختلاف عن الآخر ولتأكيد هذا الاختلاف في مناطق الاختلاط.

الحرب الأهليّة بوصفها استراتيجيّة نخبة سياسيّة

كانت مسألة تعزيز سلطة رئيس الوزراء عبر تعديل الدستور قد طرحتها عام 1966 «الهيئة الوطنية» المكوّنة من أقطاب سنّة. وأوضح الخازن أن مسألة «المشاركة» تحوّلت إلى جزء من العملية السياسية عام 1973. وأبرز وجود طرف مسيحي كان مستعداً للتجاوب مع مطلب التغيير والتأقلم مع الواقع، مثّله الإصلاحيون الشهابيون ومفكرو «الندوة اللبنانية» ومثقّفوها (ص 329). وأوضح من جهة أخرى، أن خطاب جنبلاط بوجهيه اليساري والعروبي، كان يسحب البساط من تحت أرجل الزعماء السنّة التقليديين (ص 366).
وناقض الكاتب نفسه حين رأى أنّ «العلمانية» بلغت قبل الحرب أعلى مستوياتها (ص 317)، ليعود فيقول إنّ الاستقطاب الطائفي اشتدّ في أواسط السبعينات (ص 328). وأقر بتسييس الشارع وعلمانيته قبل الحرب، ليعود ويؤكد أن موقف القادة الموارنة المتشدّدين كان يعكس نبض الشارع (ص 330). قدّم الكاتب مرافعة طويلة لمصلحة المتشدّدين الذين كان «الحفاظ على الوضع الراهن بالنسبة إليهم خط دفاع أخير عن «حقوق الطائفة»». وهدف لإظهار أنه لم يكن ممكناً غير ما كان (ص 329–331). وإذا كان الكاتب في تقريظه للنظام السياسي اللبناني قد امتدح كون الصراع على الحكم كان يجري خارج الاصطفافات الطائفية، فإنه انتهى بأن أثنى على من حوّلوا هذا الصراع طائفياً!
وقد نجحت النخب التي يدافع عنها الكاتب في اعتماد سياسات تقوم على افتعال النزاع (Conflictual Policy)، لأن بنية النظام كانت في خطر، ولأنها بوصفها نخباً كانت مهدّدة بالتغيير. ونجحت في إيجاد أسباب للاحتجاج غير تلك التي تضعها موضع الخطر، أي نجحت عبر الحرب الأهلية في تغيير جدول الأعمال السياسي الوطني (Gagnon، 2007).
وجرى خلق صورة تهديد من الخارج، ووضع احتلّت فيه قضية الوجود المسلّح الفلسطيني موقع المركز في النقاش السياسي. وقد حوّل طرف سياسي مشكلة كان يمكن التعايش معها إلى مسألة مركزية تتجاوز في أهميتها كل ما عداها. ووفّرت حادثة أو مذبحة عين الرمانة في 13 نيسان 1975 الحدث المطلوب لفرض جدول الأعمال الجديد.
وفي تعليقه على «اتفاق القاهرة» قال بيار الجميّل عام 1969، «ربما كان تحمّل الغارات (بسبب الاتفاق) أسهل من الانزلاق إلى الحرب الأهلية» (ص 224). لماذا كان ما قاله صالحاً عام 1969، ولم يعد صالحاً عام 1975؟ وكان ستواكيس (Stoakes، 1975) قد وجد أن نظرة حزب الكتائب لموقعه داخل الدولة ومسؤوليته تجاهها أمر غير معهود. وعبرت عن ذلك مذكرة هذا الأخير إلى رئيس الجمهورية في شباط 1973، التي رأى فيها أنه إذا تخلّت الدولة عن مسؤولياتها في مواجهة تحديات تغيير النظام على يد اليسار أو غير ذلك من التحديات، أو ترددت أو ضعفت، فإنه سيتولى هذا الأمر بنفسه.
وأتاح افتعال الصدام المسلّح تأكيد حالة الأخطار المحدقة أو الأخطار المزعومة التي يتعرّض لها المسيحيون. استُخدام كل مجال يوفر اختلاطاً «على الأرض» (On the ground) لإشعال الفتنة. بدأت الحرب في المدينة. لم يكن ثمة حزازات وعداوات بين المسيحيين والمسلمين في مناطق الاختلاط. كان ينبغي خلق هذه العداوات بعمل دائب ومن لا شيء. وتكفّل بذلك أشخاص محدودون من خلال الجرائم. ووفّرت الحرب الغطاء لكي يطلق كل من يرغب العنان لأحقاده الدنيئة والخاصة (Kalyvas، 2000).
وتوخّت النخب التي افتعلت الحرب أن تُظهر نفسها بوصفها تعبّر مع مصالح المجموعة البشريّة الكبرى. وعملت على إيهام الناس أنها الأقدر على تأمين مصالحهم. وجاء افتعال الصدام مع المخيمات الفلسطينية ليوفّر ما يثبت حالة الخطر التي يعيشها المسيحيون. يدخل الخازن اللعبة تماماً من خلال تصوير مخيمات بيروت الشرقية عناصر تهديد لمحيطها، بمعلومات مأخوذة من جريدة «العمل» (ص 258–259).
ثمة مغالطات كثيرة في نص الخازن حول العلاقة بالفلسطينيين، ربما لأنه لم يختبر شخصياً تلك الحقبة. كان التعاطي الحاقد معهم محصوراً بفئات محدودة. لكن نصّه يعطي مجالاً لتعميم هذا الحقد. هل هو أمر صحّي لمستقبل لبنان أن يتعرّف الشباب الذين يهدي لهم الخازن كتابه وكل الشباب الآخرين إلى تجربة بلادهم مع الفلسطينيين من خلال نظرة كانت تقتصر على قطاعات سياسية محدودة تستثمرها في الصراع على السلطة؟
وعبّر الكاتب عن موقف سياسي محافظ لا لبس فيه. فهو ضد «سياسة الجماهير» إذا كانت راديكالية. لم يغيّر شيئاً في قناعاته أن لبنان عرف أسوأ التجارب مع الجماهير المعبّأة طائفياً التي مارست «توتاليتارية من تحت» على مدى الحرب الأهلية، وحطمت المجتمع الذي أمسكت بتلابيبه شر تحطيم.
رسم الفصل السادس صورة شديدة التحيّز للتعبئة السياسية التي عرفها النصف الأول من السبعينات. ورصد على وجه الخصوص مواقف كل التيارات المسيحية التي اتخذت موقفاً متعاطفاً مع القضية الفلسطينية قبل الحرب. كل أولئك المتعاطفين مع القضية الفلسطينية من علمانيين ورجال دين ومثقفين وأناس عاديين مذنبون بالنسبة إلى الكاتب، ولو أنهم لم يطلقوا طلقة أو يتورطوا في فعل عنف أو يشاركوا في جريمة. وينبغي لهم أن يطلبوا الصفح ويقدموا اعتذارات. أي يرضى القتيل ولا يرضى القاتل. أصدر الكاتب كتابه بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب الأهلية ليعتدي فيه على ضحايا الحرب الأهلية من المسيحيين، وهم غالبية هؤلاء. سوّد صفحات كثيرة ليقول إن المسيحيين الذين دعموا القضية الفلسطينية قبل الحرب كانوا أعداء لبنان. وهو يمثّل هذه الفئة بالتحديد من المسيحيين في البرلمان، بحكم كونه أحد أعضاء التكتل النيابي الذي استقطب دعم المسيحيين لأنه ضد الميليشيات.
تروي الفصول المخصّصة لحرب السنتين (الفصل 23 وما بعد) أموراً حزينة لا يرغب القارئ حتى بالاطلاع عليها، وهي لا تخرج عن المقاربات المعروفة في التأريخ لتلك الحقبة. وفي قراءته لهذه الحرب، كرّس الكاتب صفحات عدّة للقاءات عرفات مع الأب بولس نعمان والمداولات بينهما. وأغفل ذكر كل ما يتصل بالصراع الذي قام في «الساحة المسيحية» بين المتطرِّفين والمعتدلين، والكلفة البشرية الفظيعة التي رتّبها ذلك الصراع. لا يشفع له أنّ تجاهله هذا يتوافق مع المنطلقات النظرية التي حكمت عمله. يذكر سمير قصير (قصير، 1994: 119) نقلاً عن كتاب بطرس لبكي وخليل أبو رجيلي، أن عدد من نزحوا من المسيحيين من بيروت الشرقية وجبل لبنان في بداية الحرب بلغ 20 ألفاً. وبعد عام 1975، لم يعد المسيحيون يستطيعون مناقشة مسألة تعني وجودهم ومستقبلهم، لأن الإرهاب الواقع عليهم بات يحظّر عليهم أي أمر آخر غير التصفيق.
ومنذ اليوم الأول من الحرب الأهلية، كانت تضحيات الأكثرية الصامتة هي الوسيلة التي ضغط بها الأقطاب السياسيون بعضهم على بعض. جسّد توافق الأقطاب على ذلك الشكل الإجرامي من التفاوض والمساومة فيما بينهم، الخاصية الأكثر حقارة للحرب الأهلية. كيف تُرِك الناس يُقتلون كل يوم على الطرقات على مدى شهور وشهور؟ لماذا تحوّل المذيع شريف الأخوي إلى نجم إذ كان يدل الناس على الطرق التي يسلكونها للذهاب الى عملهم حيث احتمال أن يقتلوا أقلّ؟ كيف تكيّف الناس مع كل ذلك الإجرام؟ كيف صمتت النخب ولم تعد تقول شيئاً؟ لم يجرؤ أي مسؤول حكومي آنذاك على اعتبار حاملي السلاح والمسؤولين عنهم خارجين على القانون ويطلب ملاحقتهم على هذا الأساس. لم يتخلَّ المسؤولون الحكوميون عن خطاب التهدئة والتملّق للأقطاب المسلّحين.
لماذا لم ينتفض الضباط الأدنى رتبة على قيادة اسكندر غانم للجيش؟ لماذا بقي الجيش ينتظر على الدوام القرار السياسي ليتحرّك؟ لم يكن الموقف الصح الوقوف وراء القيادات السياسية آنذاك. ألم يكن ممكناً أن يقوم ضباط شجعان يملكون حس المسؤولية وتنجرح كبرياؤهم بموت الأبرياء بانقلاب في بداية الأحداث؟ ألم يكن ممكناً أن يقوم هؤلاء بمبادرة تجعلهم مسؤولين عن الأرض وتجعل إرادتهم هي التي توقف الحرب وليس مفاوضات السياسيين؟ كان الموقف الصح الوحيد انقلاباً يستعيد للمؤسسة العسكرية قدرتها على صون سيادة الدولة الداخلية وينقذ لبنان من الحرب الأهلية.
لم تكن المرّة الأولى التي يُترك الناس فيها في لبنان الى مصيرهم البائس. ألم تبدأ أرياف لبنان تفرغ بالهجرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر من دون أن يتنبّه أحد الى ضرورة خلق شروط استبقاء الناس في الأرض التي احتضنتهم على مدى مئات السنين؟ ألم تستمرّ المجاعة ثلاث سنوات طويلة خلال الحرب العالمية الأولى من دون أي مبرر أو سبب وجيه؟ ألم ينزف الريف بالهجرتين الداخلية والخارجية منذ مطلع الستينات حتى بات شبه فارغ عام 1975؟ وقد انتظر الناس 13 سنة إضافية بعد حرب السنتين، امتلأت شقاءً ومذابح، الى أن تصدّت المؤسسة العسكرية للدور الذي انتظره الناس منها، وأخرجت البلاد من الحرب الأهلية؟

النظرة إلى المحيط العربي ودوره
الحرب الأهليّة بوصفها استراتيجيّة نخبة
افتقدت تحليلات الكاتب التي تقوم على نقد تجربة الدولة العربية أية استقلالية لها عمّا جاء به فؤاد عجمي ونزيه الأيوبي وسمير الخليل وغيرهم في قراءة هذه التجربة. وهي الأقل إقناعاً لالتصاقها الشديد بتلك الأدبيات. يضع الكاتب «جمهورية الخوف» التي «تجسّد طبيعة الأمور بالمقياس العربي» في مقابل «جمهورية العيش المشترك» في لبنان (ص 165). أي عيش مشترك هذا في بلد الحرب الأهلية الدائمة ومكب أوساخ العالم كله. هل تستحق الدولة اللبنانية كل هذا التقريظ، وهي التي تتسبّب في أن يكون للّبنانيين ذلك القدر الضئيل من الحقوق في حياتهم؟ هل المجتمعات العربية محطّمة أكثر من المجتمع اللبناني؟ وهل هناك في لبنان غير حطام مجتمع؟
رأى الكاتب أن انهيار نظام لبنان السياسي «كان نتيجة تعرضه للضغوط، خصوصاً الخارجية المصدر (...)» (ص54). عنى بالضغوط الخارجية تلك التي كان يتسبّب بها المحيط العربي القريب. والملهم الرئيسي في تعريف المحيط بطريقة كالحة وسلبية هو فؤاد عجمي.
وأدى استيراد أدبيات بعينها في مجال تعريف الدولة إلى تمييز بين الدول على قاعدة درجات بنائها (Level of stateness) لا طائل تحته (ص 126). وأدى إلى ما هو أسوأ، لجهة إلقاء الحرم على ممارسة الدولة السلطة تجاه المجتمع، ولو أن هذا ما يوفّر لها مقومات ممارسة سيادتها الداخلية، ويتيح لها صون السلم الأهلي وضمان أمن المواطن.
وإيليا حريق هو المرجع للقول إن بناء الدولة تاريخياً في لبنان كان الأفضل مقارنة بالمحيط، وإن الدولة اللبنانية كانت أقل اصطناعاً من الدول المجاورة... (ص 139). أما «ميزة لبنان الأخرى التي تقدّم بها العديد من الدول الأخرى»، فهي أنه كان إحدى الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة (ص 140).
وأما الفارق بين لبنان وبين دول عربية أخرى، وبين النظام اللبناني و«أنظمة التسلّط العربية»، فهو في مجال ترسيخ أسس الدولة وشرعنة سلطتها (ص 140). وبالنسبة إليه، فإن الدعم غير الطوعي للدولة يمحو شرعيتها ( ص 133). وقد اكتسبت الدولة اللبنانية شرعيتها «من احترام الاستقلال الذاتي للطوائف في شؤونها الخاصة». ومشكلة البلدان العربية الأخرى هي «توسّع أجهزة الدولة وبالتالي سلطتها...» (ص 141). ولا يظهر في تعريف الدولة العربية إلا كونها «دولة سلطوية» عززت «سلطتها على المجتمع» من خلال أنظمتها المتسلّطة. قارن الكاتب لبنان مع الدول العربية التي «فشلت في تحقيق أهدافها الإنمائية». أما التجربة، فأكّدت له «صوابية الليبرالية الاقتصادية اللبنانية» (ص 158). هجّرت الليبرالية اللبنانية شعب لبنان وقضت على نسيجه البشري بالهجرة الريفية أوّلاً، ثم بالهجرة إلى الخارج. ولم يتمكّن لبنان من توفير عمل للناس في بلد من أربعة ملايين شخص توقف على مدى ثلاثة عقود عن النمو ديموغرافياً بفعل الهجرة. أما البلدان المنتقدة فقد ازداد سكانها أضعافاً مضاعفة خلال العقود نفسها، ونمت قطاعات إنتاجية فيها وفّرت عملاً لقسم من هؤلاء على الأقل.
تحتاج الدولة العربية إلى الإصلاح بكل تأكيد. وتحتاج إداراتها وسياساتها التربوية والاقتصادية إلى عملية نفض جذرية. لكن الوصفة الليبرالية ليست بالتأكيد ما هو مطلوب لها. وتغفل القراءات من النوع الذي يقدمه لنا الكتاب، أن هذه الدولة بالذات أمّنت مقومات بناء الدولة القومية، خصوصاً الديموغرافية منها، ووفّرت الحد الأدنى من الأمان لمواطنيها، والذي عجزت الدولة اللبنانية عن توفيره. أي أن كل الفشل الذي رافق التجربة اللبنانية لا يفيد في شيء في منع التبجّح.

لبنان في العلاقات الدوليّة

قبل 2003، كانت لا تزال لدينا أوهام حول إمكان أن تكون بيننا وبين الغرب علاقات فيها نفع متبادل للطرفين. تبدو الآن الكتابات التي صدرت قبل ذلك التاريخ كما لو أنّها بائتة أو غير صالحة للاستعمال، لأنها لا تأخذ مسألة العلاقات الدولية بالقدر الكافي من الأهمية، ولأنها لا تنطلق من سياسات القوى العظمى الغربية العدوانية تجاه بلدان المشرق العربي لفهم تجربة هذه البلدان.
والأمر غير المقبول في كل عمل بحثي عن ماضي لبنان، خصوصاً أزماته، إغفال البحث عن اليد الخارجية في افتعال أحداثه. وعلى سبيل المثال، قال الباحث كل شيء عن حادثة الكحالة (ص 255–257)، لكنه لم يتطرّق إطلاقاً إلى مسألة من أوحى بها من الخارج.

امتدح الخازن لاطائفية الصراع على الحكم، لكنه عاد وأثنى على من حوّلوا هذا الصراع طائفيّاً!

وقد صُنّفت الحرب الأهلية في لبنان منذ البداية، حرباً تجريبية أو حقل تجارب لإدخال الانتماءات على أساس الهوية طريقة لضرب وحدة المجتمعات المستهدفة، وطريقة لمواجهة المدّ الشيوعي ضمن إطار الحرب الباردة. وكان كيسنجر صريحاً أكثر من اللازم حين رد على الكتاب الذي وجّهه إليه ريمون إده، متوعداً إياه. قال له: إن لديكم من عوامل الانقسام ما لا يسمح فقط بتفجير مجتمعكم، بل أيضاً بنقل تجربتكم لاستخدامها في بلدان الشرق الأوسط الأخرى.
بقيت دورات العنف المتجدّدة لغزاً خلال حرب السنتين. لم يصرّ أحد من أفراد النخبة السياسية آنذاك على كشف جريمة. ووصف جوزيف أبي خليل (1990) الحرب الأهلية بأنها كانت حرباً «تخريبية» (ص 29)، وأنّ «وقفها من جانب الأطراف المسيحية مهما كان الثمن، كان ينبغي أن يتقدم على أي قضية مهما علا شأنها» (ص 144). وردّد تساؤلاً قال إنه رافقه طوال تجربة الحرب، «ألم نكن على الدوام عرضة للتلاعب بنا ننفذ ما يخطّط لنا لنقوم بتنفيذه؟» (ص 251). ووصف جماعته قائلاً «كنا مبتدئين، ولا خبرة لنا سابقة في التجارب القاسية، ولا نعرف كيف تُبنى الدول والأوطان، ولا كيف تسقط وتزول» (ص 24). واستعاد بكثير من الشعور بالأسف والذنب، تنطّح حزبه وحيداً، لمواجهة المشكلة التي نشأت عن الوجود الفلسطيني حينذاك (ص 17). أما الخازن، فقد جاء يزايد في هذا المجال.
ومنذ أن بدأ أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت يكتبون منذ خمسينات القرن الماضي، أصبح دأبهم تقريظ النظام القائم، وتكرار اللازمة ذاتها بأن لبنان ونظامه هما أفضل من البلدان والأنظمة المجاورة. هل كان النظام اللبناني سيحظى بالتقريظ ذاته لو أن خيارات النخبة جعلت لبنان في موقع مناهض للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة؟
ما الفائدة في أن يكون من يدافع عنهم الخازن في السلطة ويمثّلون أهلنا؟ بماذا يفيدون الناس، ولماذا اختار أن يدافع عنهم؟ جاء صدور الكتاب في حقبة كان الأب سليم عبو يمارس فيها نشاطاً تعبوياً خلال حقبة الوصاية السورية من على منبر الجامعة التي كان يرأسها. ثمة بالطبع فارق كبير بين ما كتبه فريد الخازن وما يقدر عليه شخص مثل عبو. لم تكن المشكلة بعد الحرب مع السوريين ونظام الوصاية. كانت المشكلة مع الخيارات الاقتصادية التدميرية التي اعتمدتها النخبة السياسية اللبنانية. لم يؤثّر فيه أن الحرب التي يبررها أفقدت لبنان مليوناً من أهله بفعل الهجرة (أوين، 1998: 160). ولم يغيّر في رأيه أن النظام الذي يحبه تسبب بهجرة 466 ألف شاب بين 1992 و2007، وفقاً لدراسة كسباريان («الأخبار»، 30–6–2008). وهو في كل الأحوال اختار أن يكون في صف «من يركبون على الناس بدل الحنو عليهم».

المراجع


Michael Johnson‚ Class and Client in Beirut: the Sunni-Muslim Community and the Lebanese State‚ Ithaca press‚ 1986.
Albert Hourani‚ ‘Ottoman Reform and the Politics of Notables”‚ in Polk and Chambers (eds.)‚ The Beginning of Modernization in the Middle East‚ Chicago: Univ. of Chicago Press‚ 1968‚ pp. 41–58.
Michael Johnson‚ All Honorable Men: The Social Origins of War in Lebanon‚ London: Centre for Lebanese Studies and I.B. Tauris‚ 2001.
Samir Kassir‚ La guerre du Liban : de la dissension nationale au conflit régional‚ éd. Karthala-Cermoc‚ 1994.
Salim Nasr‚ «The Crisis of Lebanese Capitalism»‚ Merip Reports‚ December‚ 1978‚ pp. 3–13.
Roger Owen‚ “The Economic History of Lebanon 1943–1974: its Salient Features” in H. Barakat (ed.)‚ Toward a Viable Lebanon‚ Croom Helm‚ 1988‚ pp. 27–41.
Albert Dagher‚ L’Etat et l’Economie au Liban : action gouvernementale et finances publiques de l’Indépendance à 1975 ‚ Cermoc‚ Beyrouth‚ 1995.
Claude Dubar‚ Salim Nasr‚ Les classes sociales au Liban‚ Presses de la FNSP‚ 1976.
Ilya Harik‚ «The Economic and Social Factors in the Lebanese Crisi”‚ Journal of Arab Affairs‚ April 1982.
Lijphart Arend‚ Democracy in Plural Societies: A Comparative Exploration‚ New Haven‚ Yale Univ. Press‚ 1977.
Horowitz‚ Donald L.‚ Ethnic Groups in Conflict ‚ Berkeley‚ CA : University of California Press‚ 1985.
David Laitin‚ James Fearon‚ “Violence and the Social Construction of Ethnic Identity”‚ International Organization‚ Vol. 54‚ No. 4‚ 2000‚ pp. 845–877.
V.P. Gagnon‚ "War as Elite Strategy: Lessons from Ethnic Conflict in the Balkans"‚ Paper presented at the annual meeting of the International Studies Association 48th Annual Convention‚ Hilton Chicago‚ Feb 28‚ 2007.
Franck Stoakes‚ "The supervigilantes : the Lebanese Kataeb party as a builder‚ surrogate and defender of the state"‚ in Middle East Journal‚ 11‚ 1975.
جوزيف أبي خليل، قصة الموارنة في الحرب: سيرة ذاتية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1990.
Roger Owen & Sevket Pamuk‚ A history of Middle East economies in the twentieth century‚ London : I.B. Tauris‚ c1998.
Stathis Kalyvas‚ “ The Logic of Violence in Civil War: Theory and Preliminary Results”‚ in Estudio/Working Paper‚ 2000‚ 45 pages.
* أستاذ جامعي